زينة شهلا/سوريا/ رصيف 22- منذ أيام، ينتشر إعلان على صفحات الموقع الأزرق متحدثاً عن قرب افتتاح أول مقهى مخصص “للجنس اللطيف” في العاصمة السورية دمشق، ليثير عاصفة من التعليقات التي رأى بعض أصحابها بأنها فكرة غير مجدية في بلد يعاني من فقد الكثير من شبابه بسبب الحرب.. في حين استحسن آخرون وجود مكان تشعر فيه الفتيات بحريتهن بعيداً عن النظرات والتعليقات التي اعتادت أن تلاحقهن في كل مكان.
“ليش في عنا جنس لطيف؟”.
“عفواً؟ ليش بعد في شباب بالبلد حتى تخصصولنا مطاعم ألنا؟ لك نحنا محتلين البلد”.
“خلينا نروح ونحس حالنا بكوكب زمردة بلا رجال بلا نكد”.
“هاد فخ لحتى يخلصوا من كل البنات بيجمعوا اللي بقيانين وبيرموا قنبلة علينا”.
“ما عجبتني الفكرة القعدة بدون رجال ما حلوة وبتقلب حكي نسوان فاضي”.
لم تنتهي موجة التعليقات حتى اليوم، رغم أن الإعلان لم يحدد مكان أو اسم المقهى الذي يبدو بأنه لا يزال قيد التجهيز، أو مجرد فكرة قيد التنفيذ، لكن مدناً سورية أخرى سبقت دمشق وافتتحت مقاهٍ نسائية بالكامل، لتكون الأولى من نوعها في البلاد التي تعيش حرباً دامية منذ أكثر من سبع سنوات، ما جعل نسبة النساء فيها تزيد عن الستين بالمئة، مقارنة بحوالي 49 بالمئة عام 2010، وفق أحدث إحصائيات وزارة التنمية الإدراية السورية العام الفائت.
مشروع متكامل
في الطابق الأول من بناء يقع ضمن واحدة من أكثر ساحات مدينة السويداء اكتظاظاً، افتتح منذ حوالي أربعة أشهر مقهى “إيف EVE”، وكلمة “إيف” تعني “حواء”، ليكون الأول من نوعه في المدينة الواقعة جنوب البلاد والتي تبعد عن دمشق حوالي مئة كيلومتر.
تستمتع عشرات الفتيات بارتياد المقهى كل يوم، حيث تتحدثن عن الحاجة لمكان تستطعن الاجتماع فيه بهدوء وبعيداً عن ضجيج العالم الخارجي، وأيضاً نظرات الرجال التي يمكن أن تتسبب لهنّ في كثير من الأحيان بالخجل أو عدم الراحة.
ومع مرور الأيام تحوّل مقهى إيف لفضاء تقصده فتيات المدينة ليس فقط لتناول بعض المشروبات كأي مقهى آخر، بل أيضاً لممارسة بعض الأنشطة كتعلم التطريز والحياكة وأساليب إعادة التدوير، أو حضور مباريات كرة القدم، أو القراءة، أو الاطلاع على أعمال يدوية لنساء أخريات، وهي بعض من الأهداف الأخرى للمقهى، كما تتحدث صاحبتاه لرصيف22.
فكرة المقهى بدأت تجول في بال هبة حاتم (31 سنة) منذ أكثر من عام، حيث لم تعد وظيفتها كمدرّسة لمادة العلوم الطبيعية كافية لأحلامها وطموحاتها، وأخذت تخطط لمكان “يدعم المرأة في السويداء على مختلف الأصعدة، وأيضاً يكسر الصورة النمطية السائدة عنها في المدينة وفي المجتمع السوري ككل”.
وتضيف هبة في حديثها: “من يزور السويداء لأول مرة قد يعتقد بأن المرأة هنا لا تحتاج لأي دعم، فمحافظتنا وبشكل ظاهري تبدو أكثر تحرراً وانفتاحاً من محافظات سورية أخرى، لكن الحقيقة هي أننا وعلى المستوى الاجتماعي والقانوني لا نزال أدنى من الرجل، ونعاني بسبب الكثير من التفاصيل والممارسات الاجتماعية المؤذية.
لا أنفي حصولي على دعمٍ كبير من أهم رجلين وهما والدي وزوجي في مختلف مراحل حياتي، لكن تلك المعاناة دفعتني للتفكير بمشروع متكامل لدعم المرأة وهذا المقهى هو أول أقسامه التي سأسعى لأن تتوسع وتشمل أفكاراً أخرى في المستقبل”.
تشاركت هبة هذه الرؤية مع صديقتها رشا نداف (24 عاماً) والتي تعمل في مجال حماية الطفل مع منظمة الهلال الأحمر العربي السوري. وتقول رشا بأن حماسها للمشروع انطلق من إيمانها بأن المرأة تحتاج الفرصة والتمكين في آن معاً كي تصل للمواقع التي يحتلها الرجال عادة في المجتمع السوري وتصبح ندّة له في الكفاءات والمهارات.
“نهدف من خلال المقهى لدعم المرأة على مستويات مختلفة كي تتمكن من الحصول على مساحتها الحرة التي تتيح لها ممارسة الأنشطة والطقوس التي لم تعتد عليها خارجاً، نتيجة صورة نمطية مسبقة عنها”، تضيف الفتاة.
لهذه الصورة النمطية عدة أوجه وفق حديث هبة ورشا، فعادة تُقبل المرأة على قراءة كتب مخصصة لها، وتتجنب الجلوس أو الحديث بطريقة معينة في الأماكن العامة، كما تمتنع عن الخوض في الكثير من التجارب التي يحرّمها المجتمع نتيجة تبني آراء مسبقة عنها، والهدف في نهاية المطاف وعلى الدوام هو الرجل.
“على الفتاة دوماً أن تتصرف بشكل يجعلها مقبولة اجتماعياً “كي تجد الزوج المناسب”، ولا يعني ذلك أن هدفنا معاداة الرجل أو شن حرب عليه أو حتى خلق أماكن مضادة لمقاهي الرجال المنتشرة في سوريا، وإنما دفع المرأة للتفكير بنفسها بطريقة مختلفة، فكثيراً ما تكون المرأة عدوة نفسها، وعندما تمتنع عن ذلك ستجد بأن المجتمع والرجال أيضاً يقفون في صفها”.
الفتاة الثالثة في مقهى إيف، وهي حنان التي تقوم بتحضير المشروبات، تسعى لتحقيق الأهداف ذاتها. ومع كونها أول امرأة في المدينة تعمل بهذه المهنة، تعتقد بأهمية ما تقوم به كخطوة لكسر حالة نمطية معينة في مجتمعها.
“أنا فتاة عشرينية، أعمل وأدرس في الوقت ذاته. لم تكن خطوة سهلة وتعرضت لبعض ردود الأفعال السلبية من محيطي، لكني سأستمر بها عن قناعة تامة”، تضيف حنان في حديثها مع رصيف22.
لا للعزل، نعم للحرية والتفرّد
بشكل مشابه في بعض جوانبه ومختلف في جوانب أخرى، افتتحت ريم شاهين منذ حوالي الشهرين أول مقهى مخصص للنساء في مدينة السلمية التي تقع وسط سوريا في محافظة حماه، مطلقة عليه اسم مقهى “كرز”.
السيدة ذات الأعوام التسعة والأربعين، والتي كانت تعمل لسنوات طويلة مديرة لروضة أطفال، وجدت نفسها دون عمل منذ حوالي ثلاث سنوات نتيجة إغلاق روضتها التي كانت تقع في منطقة ساخنة، ودفعها ذلك للتفكير بتأسيس مشروعها الخاص، ومن ثم اختيار فكرة المقهى النسائي من بين أفكار أخرى، نتيجة الحاجة المجتمعية لذلك.
“تفتقد مدينتنا لمكان ترتاده الفتيات وتشعرن فيه بالراحة والخصوصية”، تشرح ريم في حديثها مع رصيف22 وتضيف: “ازدادت هذه الحاجة في السنوات الأخيرة مع الفوضى التي عمّت مجتمعنا بسبب الحرب وتبعاتها الاجتماعية على وجه الخصوص، وهنا يمكنني الحديث عن مستويين من تلك الحاجة: فالفتيات يرغبن باللجوء لمكان بعيد عن شخصيات ذكورية مؤذية باتت موجودة حولنا وبكثرة، والأهالي يحبذون وجود مكان خاص لبناتهم بعيداً عن الفوضى المنتشرة في المقاهي المختلطة والتي تكون غالباً صغيرة الحجم ومكتظة”.
ينظّم مقهى “كرز” بعض الأنشطة الثقافية كالحفلات الموسيقية وأمسيات عروض الأفلام، ما يجعله مكاناً مفضلاً لكثير من فتيات السلمية خاصة ممن هم بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، حيث يساعد على قضاء أوقات هادئة وتفريغ بعض من الطاقة السلبية بعيداً عن ضغوطات الحياة اليومية والتي ترزح كثير من النساء تحتها، خاصة خلال سنوات الحرب الأخيرة.
واجهت ريم بعض الانتقادات السلبية عند الإعلان عن افتتاح المقهى وحتى اليوم، حيث اتهم البعض هذه الفكرة بأنها تكرّس عزل الفتيات في المجتمع السوري وتشجع على نبذ الرجل.
لكن لدى ريم ما يكفي من الحجج لمجابهة ذلك: “فالمدينة تعج بالمقاهي المختلطة والتي يحق للجميع ارتيادها، لكن للفتيات أيضاً الحق في وجود مساحة خاصة يمكن الجلوس فيها بطريقة مريحة دون إرباك أو خجل من نظرات الرجال التي قد تلاحقهن في كل لحظة. قد ترغب الفتاة بين الفينة والأخرى في اللجوء لتلك المساحة والشعور بالحرية بشكل مطلق، وهذا لا يعني التوقف عن ارتياد المقاهي المختلطة، أو عزل الفتاة عن مجتمعها أو محيطها”.
هذا الحق هو أيضاً للرجال كما تقول صاحبة مقهى “كرز”، والدليل على ذلك وجود العديد من مقاهي الرجال والتي يستمتعون فيها بممارسة خصوصيتهم وبطريقتهم المزاجية في الشرب واللعب والجلوس، “فلماذا لا نسمع أصواتاً محتجة على عزل الرجال عن الإناث في تلك المقاهي الذكورية؟”
هل يُمنع دخول الرجال؟
كيف يمكن لهذه المقاهي النسائية أن تمنع دخول الرجال إليها؟ هل تُوضع لافتة على باب المقهى وقد رُسمت عليها صورة رجل مع خط أحمر عريض، أو خطين أحمرين متصالبين، أو يد تدعو الزائر للتوقف والعودة؟
تقول هبة ورشا بأن مقهى “إيف” لا يمنع دخول الرجال، “فلا فتاة تقف عند الباب وتطلب من الرجال عدم الدخول، ويمكن لمن يشاء أن يحضر ويرى المكان، لكنه سيعرف ومنذ اللحظات الأولى بأنه مساحة خاصة بالفتيات، وهي مساحة لها قواعدها وخصوصيتها واحترامها”.
أما رشا، فتعمّدت منذ اللحظات الأولى أن تنشئ صفحة خاصة بالمقهى على موقع فيسبوك، مسمية إياها “كافيه كرز للبنات”، وكانت هذه العبارة برأيها كافية.
“لم نضع أي لافتة ولا نمنع دخول الرجال، وفي الوقت ذاته لم يحضر أي رجل بعد للمقهى، فالمدينة صغيرة والجميع بات يعلم بأن هذه المساحة مخصصة للنساء والفتيات فقط”.