جريدة الحياة- أصبحت سياسة التمييز الإيجابي لمصلحة الفئات التي تعاني من التمييز السلبي ظاهرة شائعة في العالم الغربي، كعندما تشترط الجامعات حداً أدنى من المقاعد للإناث أو لذوي العرق الأسود. وتمّ استيراد مثل هذه السياسات في الدول الخليجية، ولكن ليس بشكل منهجي أو علني. فعلى سبيل المثال، تسعى مجالس الشورى الخليجية إلى تعيين إناثٍ لضمان تمثيل سيدات المجتمع، ولكن عادةً لا توجد لوائح تنصّ على عددٍ محدّد منهن. فهل يجب الانتقال إلى سياسةٍ علنية رسمية دعماً للمرأة الخليجية؟
لأجل تبرير سياسة التمييز الإيجابي، يذكر الخبراء عادةً سببين. أولاً: تعاني الفئة المستهدفة تاريخياً من عوائق منهجية، وبالتالي يعوّض التمييز الإيجابي تلك الفئة عن خسائرها التراكمية إلى حدّ ما. وعلى سبيل المثال، أحد أسباب قلّة تمثيل العنصر الأسود في أفضل الجامعات الأميركية أنهم كانوا محرومين من القبول في تلك الجامعات قبل إصلاحات القرن العشرين، ومن ثم حُرموا من العلم المطلوب للصعود إلى أفضل المراتب في المجتمع. وبالتالي فإن شرط قبول عددٍ محدّدٍ من ذوي العرق الأسود الآن يمثّل تعويضاً جزئياً.
ثانياً: عند التخطيط المهني، ينظر شخصٌ ما إلى ما قام به أصحاب الهوية الشبيهة سابقاً، ويستخدمه كقاعدة وكمنطلق لمشاريعه. فعلى سبيل المثال، الفتاة التي ترغب في أن تكون مديرةً قد تركّز على القطاعات التي تتميّز بتمثيلٍ معقولٍ للمديرات الإناث، وتبتعد من المجالات حيث يسيطر الذكور. وتعود هذه الظاهرة إلى مَيْلٍ لا شعوري للبشر، فمن الطبيعي أن يخشى الفرد من ممارسة المهن حيث لا يجد فيها أناساً يشبهونه. وبالتالي تسعى سياسة التمييز الإيجابي إلى عكس حالات عدم التمثيل لفئاتٍ معينة، تشجيعاً للجيل المقبل الذي يخطط لمستقبله بناءً على ما أنجزه الجيل الذي سبقه.
يُذكر أن أُسس التمييز الإيجابي ليست فقط العدالة والأخلاقيات، إذ قد يبرز مردودٌ اقتصادي للدول التي تتبنى هذه السياسة: إن كان التمييز ضد المرأة يحرم المجتمع من الاستفادة من قدرات الإناث، فيعزّز التمييز الإيجابي المهارات المتوافرة في سوق العمل، ومن ثم يتحسن أداء الاقتصاد.
ولكن هناك من يعارض التمييز الإيجابي، لأن السياسة قد يكون لها أثرٌ عكسي. في أول مرحلةٍ من تنفيذ السياسة، قد تضطر الجهة المُنفّذة إلى أن توظّف إناثاً يحملن مؤهلاتٍ علمية أضعف من منافسيهن الذكور التزاماً بحصص التوظيف. وقد يرسّخ ذلك التصوّر عند الذكور أنّ كفاءة زميلاتهم الإناث أضعف من كفاءة الذكور، وبالتالي لا تستحق الإناث الاحترام ذاته. وقد تنعكس هذه التصورات على الإناث، إذ يفقدن الثقة في النفس، ومن ثم الأداء، ما يُشعِر الذكور أنهم على حق عند التمييز السلبي ضد المرأة.
وإلى الآن، لم يتفق خبراء أسواق العمل حول مدى استفادة المرأة والاقتصاد من التمييز الإيجابي، إذ توجد نساءٌ يُفضّلن التوظيف من دون دعم التمييز الإيجابي، لكي يشعرن أنهنّ حصلن على الوظيفة بناءاً على الكفاءة حصرياً. ولربما تشكّل الضبابية حول تداعيات التمييز الإيجابي أحد أسباب قلّة تبني السياسة بشكل منهجي في الخليج العربي.
وقد أجرت الباحثات الاقتصاديات ميوريل نيدرلي (جامعة ستانفورد) وكارميت سيغال (جامعة زيورخ) وليسا فسترلند (جامعة بتسبرج)، بحثاً أضاف إلى أسباب دعم التمييز الإيجابي. وأشارت المؤلفات إلى ظاهرةٍ شائعة في كل المجتمعات، وهي رغبة الإناث في الابتعاد عن المهن التي تتطلب تنافساً مباشراً مع الآخرين، حتى إن تميزن بكفاءةٍ عالية في تلك المهن، بينما يرحب الذكور بالتنافس، حتى وإن كان أداؤهم ضعيفاً. ويعود هذا التباين بالأساس إلى تباينٍ في الرغبة في مواجهة الأخطار، لأسبابٍ بيولوجية. ويتضرر المجتمع من هذه الظاهرة لأنها تتسبب في تمثيلٍ ضعيفٍ للإناث في تلك المهن لأسبابٍ غير متعلقة بالأداء، مثل المناصب العليا في الشركات، التي تتصف بتنافسٍ شديد بين المديرين للحصول على ترقيات.
واكتشفت المؤلفات من طريق تجربةٍ علمية، أن التمييز الإيجابي يعزّز معدل الأداء الإجمالي في النشاطات التي تتصف بالتنافس، لأنه يقنع الإناث ذوات الكفاءات العالية بالمشاركة. فمن دون التمييز الإيجابي، قد يَخشون من التنافس مع الذكور، ولكن التمييز الإيجابي يضمن تنافساً مع عددٍ من الإناث، كما أنه يعوّض الإناث عن الحاجة بالمخاطرة من طريق منحهن احتمالاً أعلى من النجاح.
كيف يمكن للدول الخليجية الاستفادة من هذه التجربة؟ أهم توصيةٍ هي توعية المجتمع بدور التمييز الإيجابي في تعزيز الأداء الاقتصادي وسبله، وأن يؤدي إلى توظيف إناثٍ ذوات كفاءةٍ عالية وأعلى من كفاءة الذكور الذين يحصلون عادةً على تلك الوظائف.
وأصبحت الاقتصادات الخليجية بحاجةٍ ملحّة لمساهمةٍ أكبر من الإناث تعويضاً عن تراجع مساهمة قطاع النفط، ولكن من الطبيعي ألا يشعر بعض الذكور أنّ فرص الإناث تأتي على حسابهم، ما يخلق توتراً بين الجنسين في مكان العمل. وبالتالي لأجل خلق أجواءٍ بنّاءة وتعاونية في أماكن العمل، هناك دورٌ للحملات العلمية التوعوية في تثقيف المجتمع حول الأسباب التاريخية لقلّة مساهمة الإناث، وحول التداعيات المتوقعة لتعزيز تلك المساهمة اليوم.