في زمن تصاعد الفكر المتطرف يصبح طرح قضية إمامة المرأة مخاطرة مزدوجة، أولا لأن الفكر المتطرف لا يسمح بمرونة كافية في تفسير النصوص الدينية بل يفرض رؤية متشددة تحول دون أي اجتهاد، وثانيا لأن المسألة تتصل بوضع المرأة داخل هذه التفسيرات. لكن هذه المخاطرة لم تحل دون بروز مبادرات نسوية فردية، لم تقتصر على ديانة دون غيرها، ما يوحي بأننا إزاء تفسيرات جديدة للنصوص الدينية، تبدأ من إعادة الاعتبار للمرأة، لكنها يمكن أن تعد أيضا إسهاما في تثوير الخطاب الديني.
جريدة العرب- للدين رجالٌ كما عرف الناسُ على مدى التاريخ، ولكن نسوة مسلمات ويهوديات ومسيحيات يردن كسر هذه القاعدة، متذرعات بأنّ الكتب السماوية لا تشترط أن يكون الإمام رجلا، ومؤكدات أنّ منع النساء من تولي الإمامة تقليد رجالي وليس ربانيّا. شيرين خانكان إمامة في مسجد بكوبنهاغن، تسعى لأن تكون رائدة في إمامتها للنساء في دين تراه رجاليا بلا جدل، وهي رائدة أيضا في إسلامها الرافض للحجاب.
شيرين نصف سورية ونصف فنلندية، شيدت مسجدًا جديدًا مخصصا للنساء في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن وأسمته “مسجد مريم” تيمنا بالعذراء أم عيسى المسيح. إدارة المسجد محصورة بأئمة إناث، وتناوب صالحة ماري فتح مع شيرين على الإمامة. واستندت شيرين خاكان إلى الجزء الثامن من كتاب لابن سعد أباح فيه إمامة النساء للنساء، وهي تقول في حديث مع تلفزيون دويتشه فيله “نريد أن نتحدى الهياكل الذكورية داخل المؤسسة الدينية لأننا نحن اليوم نتبع سنة عمر وليس سنة الرسول، فأثناء حقبة الرسول كانت المرأة تؤم الصلاة، وكثير من الأحاديث تؤكد أنّ السيدة عائشة قامت بذلك، وحين آلت الخلافة إلى عمر بن الخطاب قال للنساء إني سأعفيكنّ من فرض الصلاة في المسجد”.
وشرحت خانكان أنّ الإسلام بعد الرسول سادته هياكل الثقافة الذكورية التي سعى الرسول لكسر أنماطها السائدة، وبينت أنّها تطالب اليوم بالعودة إلى ما سنه الرسول تحديدا الذي منح المرأة حقوقا كبيرة منها حقوق في القضاء والإمامة؛ “نريد أن نجد حيزا للمرأة لأنّها اليوم لا تشعر بأنها مرحب بها في مساجد الذكور”.
وفي العادة يعتبر الشيوخ والعلماء أنّ الدين ضد كل بدعة، وفكرة بناء مسجد للنساء له إمام امرأة في تقدير الكثيرين منهم بدعة، كما أن عدم ارتداء شيرين للحجاب لا يطابق فهم أغلب رجال الدين الذين يرون في الحجاب إلزاما شرعيا واجبا. الرافضون يزعمون أنّ آية صريحة في فرض الحجاب لم تنزل في القرآن سوى الآية 59 من سورة الأحزاب “يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما”، ويراها أعداء الحجاب مختصة بنساء الرسول والصحابة. ويفسرون على نفس القياس الآية 31 من سورة النور”وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ” بأنها لا تنص على الحجاب، بل تمنع التبرج وكشف الصدر حصرا.
شيرين خانكان بدورها ترى أنّ الحجاب ليس شرطا في عرف الشابات المسلمات، وتقول في ذلك “إنّ المذاهب تأتي بمعايير عامة والحجاب ليس منها، المرأة اليوم تحتاج إلى سيدة تقوم بدور الإمام لتعينها في مواضيع نسوية، فهل يمكن لمن ولدت طفلا وهي في النفاس أن تذهب إلى إمام المسجد وتسأله أمرا شرعيا يخص عبادة المرأة النفساء؟ هنا لا بد من وجود سيدة تقوم بإمامة المسجد لتتفهم أمور النساء وأحوالهن وتجيبها عن أسئلتها”.
العودة إلى التاريخ والنقل عن كتب الفقه تظهر اختلافات بشأن إمامة النساء للنساء، وفي النهاية فإنّ الرأي الفيصل سيستند إلى قول نقله أبو هريرة عن الرسول “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تَفِلاتٍ”. ويبدو أنّ السيدة عائشة زوج النبي لم تكن تحبذ فكرة ذهاب النسوة إلى المساجد فقد نقل عنها القول ” لو أدرك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما أحدث النساءُ لمنعهن المساجد كما منعه نساء بني إسرائيل”، وهذا يعني أنّ اليهود منذ ذلك العصر منعوا نساءهم من بيوت العبادة عموما.
أكثر ديانات التوحيد تشددا بشأن دور المرأة في إمامة الصلاة وريادة دور العبادة وحتى القيام بوظائف عامة هي الديانة اليهودية، ولكن بوسع المرء أن يلحظ مناخا جديدا بدأ هو الآخر يتبلور في أوروبا أُسوة بالإمامة الدنماركية التي تقود مسجد مريم في كوبنهاغن، وهو ما تحاول ربية باريسية اسمها ديلفين هُرفيلر بدعوتها “لتطوير أخلاقية الديانة اليهودية” أن تجعله نهجا جديدا في الديانة اليهودية شديدة المحافظة. ديلفين إحدى ثلاث ربيات فرنسيات يقدن مجموعة سيدات بلغ عددهن 1500 سيدة في أُسر يهود فرنسا الأكثر تحررا في باريس تحديدا، وتواجه التحدي الأكبر بمسعاها لتغيير الموروث الرابي الفرنسي الذكوري.
وفي معرض كشفها للأسباب التي دعتها إلى تبني مبادرة نادرة من نوعها، تقول ديلفين “لا أشعر بالارتياح في العديد من المعابد اليهودية، خاصة حين أشعر بأنّ المكان يمتهن كرامتي، فوقوفي خلف المصلين الرجال متخفية يمنعني من المشاركة الحقيقية في العبادة والصلاة”. المتصفح لطقوس العبادة اليهودية يصاب بالعجب، إذ لا يحق للمرأة اليهودية أن تتلو التوراة بصوتٍ عالٍ على الناس، ولا يحق لها أن تشارك في طقس البكاء عند حائط المبكى، ولا يحق لها الوقوف على الميت والمشاركة في الصلاة عليه. حدث ولا حرج عن تبوئها منصب ربية تقود العابدين.
لكن النزعة التحررية النسوية انتقلت إلى مجتمع اليهود الشرقيين أيضا، وفي هذا السياق تقول الدكتورة الحاخام تسيبي ليفين بيرون التي تنتمي إلى جماعة (تموراة- اليهودية الإسرائيلية) إنّ تغيرا طرأ على المشهد الديني اليهودي “نظرا للتزمت الديني الذي ميز العقدين الأخيرين، انطلقت حركة ليبرالية مناهضة لتجد لها مساحة تمارس فيها هويتها الدينية والاجتماعية”. وتؤكد تسيبي أنّ “الكتب الدينية اليهودية، تطرح الأسئلة وتمهد التساؤل ولا تقدم إجابات فقط، ومن هنا يمكن تفسير النص الديني بصور مغايرة إذ أنّه يحتوي على أصوات متعددة”.
ومن يتأمل وضع المرأة في الديانة اليهودية سيلحظ حركة “نساء الجدار” التي تنشط لفرض حق النساء اليهوديات في الصلاة عند الحائط الغربي وهن يضعن التاليت ويحملن التوراة ويقرأنه. وحسب صحيفة الغارديان وفي 11 أغسطس 2016 تجمعت العشرات من النسوة من حركة “نساء الجدار” وهنّ يحملن نسخا من التوراة ويتلفعن بأردية الصلاة ويرددن الدعاء ومزامير من التلمود أمام الحائط الغربي في تحدٍ لسلطة الرابي من رجال اليهود التي تمنعهن من الوصول إلى هذا المكان.
عدوى ثورة الريادة الدينية النسوية امتدت إلى الفاتيكان، إذ تشهد أروقة الكنيسة الكاثوليكية وفي طليعتها الفاتيكان جدلا حول حق النساء في تولي مناصب كنسية وفي طليعتها سمة القس وسمة راعي الأبرشية. الجدل يتناول تحديدا أنّ النساء عملن في الكنائس والأبرشيات بصفة شمامسة منذ القرن التاسع ميلاديا، وفي هذا السياق كتب آندرو براون المتخصص في الشؤون الكنسية بصحيفة الغارديان البريطانية “قبول النساء بصفة شمامسة في الكنائس سيقود حتما إلى قبولهن بصفة قساوسة، والفاتيكان يعلم ذلك حق العلم”.