المجتمع السوري أصبح أكثر نسوية وكذلك أكثر شيخوخة، حيث كانت تتفوق بالأصل نسبة النساء على الرجال (2 مقابل 1.5 في 2010). اليوم ووفقاً لمستخلصات من إحصاءات الأمم المتحدة، أصبحت النسبة أكثر من 4 مقابل 1. يضاف إلى ذلك أن من بين كل ست نساء سوريات هناك أرملة واحدة على الأقل، بإجمالي مليون أرملة.
كمال شاهين/ جريدة السفير- ثلاثة آلاف حرب أو أكثر خاضها البشر ضد بعضهم مراراً وتكراراً، حاولت خلالها النساء ألا تتوقف مسيرة الحياة عند مشاهد الدمار والموت واليأس. في سوريا الراهنة تُبدع نسائها تجارب صمود، متسلحات بالأمل بألا يتأخر الله أكثر بأن “يطفِّيها بنوره” بتعبير سوري دارج.
قبل الحرب كان للسوريات حضور جيد بمختلف قطاعات العمل، حتى ضمن مناطق توصف بالمحافِظة (كريفي حلب وإدلب)، وتفوقت نسبتهن على الرجال (فوق النصف) في قطاع التعليم ما قبل الجامعي (في الابتدائي احتللن كامل المشهد)، ولم يكن أمر عملهن مثار جدل اجتماعي، إلا بحالات قليلة تعلق أغلبها بالعمل ليلاً أو العمل بقطاعات صعبة كالصناعة مثلاً.
إلى أعمالهن، أضيفت زمن الحرب قطاعات عمل لم يفكرن يوماً باختراقها لألف سبب وسبب، من تلك المعروفة للناس بأنها “شغل رجال”، كقيادة وسائل النقل العامة والخاصة (في دمشق والساحل يمكن ملاحظة ذلك)، وأعمال البناء المجهِدة (نقلت بعضهن مواد البناء والإسمنت). فانشغال الرجال بالمعارك ترك فراغاً كبيراً بكل المجالات ملأته النساء تدريجياً، إلى حد إمكانية القول بأن المجتمع السوري أصبح أكثر نسوية وكذلك شيخوخة، حيث تتفوق بالأصل نسبة النساء على الرجال (2 مقابل 1.5 حتى 2010).. اليوم ووفقاً لمستخلصات من إحصاءات الأمم المتحدة أصبحت النسبة أكثر من 4 مقابل 1، يضاف إلى ذلك أن من بين كل ست نساء سوريات هناك أرملة واحدة على الأقل، بإجمالي مليون أرملة.
كنس الشوارع ليس مهمة الذكور فقط
لم يتوقع القائمون على مشروع “النظافة ثقافة” الذي أطلقه برنامج الأمم المتحدة للأعمال الإنمائية UNDP في الساحل السوري (اللاذقية وجبلة وكسب)، وبالتعاون مع مجالسها المحلية، أن تكون مشاركة النساء بهذا الحجم. فقد وصل عددهن إلى 104 نساء (86 ضمن مدينة اللاذقية، و18 في جبلة) من إجمالي عدد العاملين في المشروع (400)، بأعمار تتراوح بين 18 إلى 40 عاماً، متزوجات أو أرامل أو مطلقات، من قاطني هذه المدن ومن مُهجريها أيضاً. ويتنوع عملهن بين عاملات نظافة، أو مشرفات، أو ضمن حملات التوعية للسكان، وهي المرة الأولى في تاريخ البلد التي تعمل فيها النساء بكنس الشوارع.
وبالنسبة للمجتمع السوري (كما أي مجتمع عربي ـ إسلامي آخر)، أن تقوم النساء بأعمال تنظيف الشوارع أمام العموم هو أمر مستهجن إن لم يكن مرفوضاً. وأما المشرّع القانوني فمنع عمل النساء بالأعمال العضلية المجهدة، وليس من بينها تنظيف الشوارع.
من حيث المبدأ لا شيء يمنع عمل المرأة بكنس الشوارع، فهي تمارس شبيهه في المنازل والمدارس والمشافي والمؤسسات (هناك شركات متخصصة بالتنظيف غالب عمالتها نسائية). المشكلة هي عدم الاعتياد البصري والفكري على ممارسته هنا ضمن فضاء عمومي مفتوح معرض لكل التأثيرات، بغياب جزئي لسلطة أخلاقية رادعة (فردياً ومجتمعياً)، وبتأثير تابو الجسد، بوعي وبدونه، والسمعة الاجتماعية السيئة المرافقة لهكذا عمل ضمن مجتمع معياره الأخلاقي والتقييمي مختلط، وأخيراً هناك طريقة تكوين الرأي العام بما يتعلق بمهنة معينة، حيث تحتل الكناسة المرتبة الدنيا على سلم المهن وهي اختصت بممارستها تقليدياً الشرائح الأفقر والأكثر هامشية في المجتمع.. بما يجعل شوارعنا (ونحن أيضاً) بحاجة لمن “ينظفها”.
بعض المشاركات، وفق الجغرافيا السورية وخريطة نزوحها، قدمن من مناطق ذات تركيبة اجتماعية لا تقتنع بعمل المرأة لأسباب تعتبرها دينية بالدرجة الأولى، ومجتمعية تالياً، والنساء تلك لا يمتلكن مؤهلات لعمل أفضل حسب المتوفر في سوق العمل. تقول سيدة (29 عاماً) من مهجري “إدلب”، مطلقة، ولديها طفل تعيله لوحدها: “لم يخطر ببالي يوماً أن أعمل بكنس الشوارع، ولم يكن ليُسمَح لي لو فكرت به، لكنني تشجعت هنا بعد أن تيقنت أنني محمية من قبل المشغِّلين. الكرامة ليست صف حكي فقط، والعمل ليس عيباً مهما ما كان”.
قيّمت غالبية الناس عمل السيدات المختلفات الأعمار على أنه أمر إيجابي يحميهن من ممارسات أبشع تقع عليهن بسبب الفقر والحاجة، كالاستغلال الجنسي والوظيفي. بالمقابل ظهرت احتجاجات (ذكورية ونسوية) على كنس النساء للشوارع، كان أقواها مطالبة محافظ اللاذقية بإيقافها، على اعتبار أنها تسيء إلى “صورة المرأة السورية خليفة زنوبيا وجوليا دومنا وسميراميس”، كما ورد على إحدى الصفحات الفيسبوكية. إلا أن هذه الاحتجاجات لم تغيّر قناعات النساء بأنفسهن وعملهن، تقول سيدة (زوجها ضرير وليس لديها أولاد): “الحكي سهل، ومن له عندنا شيء يجي ياخدو”.
لعبت الظروف الاقتصادية المستجدة من غلاء وقلة موارد دوراً رئيسياً بتفكيك المنظومة المجتمعية التقليدية، مؤديةً إلى تخفيف حضور الذاكرة المجتمعية ذات التمثلات النمطية السلبية، التي تحولت بفعل فضاء الحرب المفتوح إلى أوضاع جديدة تعترف بما فعلته الحرب بالبشر، وتخفض الرأس احتراماً أمام أي محاولة لجعل الحياة تستمر بكرامة في ظل عبوديات متكاثرة تستغِل النساء أسوأ استغلال، فهن الحلقات الأضعف في سياق أي حرب.
عملت النساء مع بعضهن فريقاً واحداً، وهن من مناطق سورية مختلفة على ثرى بعضها تدور المعارك الطاحنة. لم تحضر السياسة هنا بالمطلق، كان الحاضر الأكبر وما يزال الوقوف معاً لإكمال الحياة بوجه الرعب والموت الذي لا شك تلتقط شباكه يومياً ضحيةً من هنا وهناك.
تقول سيدة (36 عاماً)، متزوجة ولديها ولدين وزوج لا يعمل، من عاملات المشروع، إنها قبلت العمل لأن مدخوله الشهري البالغ تقريباً (80 دولار) أفضل بكثير من عملها بتنظيف البيوت، فراتب شهر يعادل عمل شهرين يومياً في تنظيف البيوت والأدراج، وهو غير متوافر بهذه الكثافة، وعليها دفع أجار بيت مستأجر (25 ألفاً كل شهر أي 50 دولاراً) على الرغم من أنها “من أهل المدينة ولديها معارف وأقرباء قد يعيبون عليها عملها هذا، إلا أنه لا أمرّ من المـُرّ سوى من دفعنا للمر”.
عملت النساء مع بعضهن فريقاً واحداً، وهن من مناطق سورية مختلفة على ثرى بعضها تدور المعارك الطاحنة. لم تحضر السياسة هنا بالمطلق، كان الحاضر الأكبر وما يزال الوقوف معاً لإكمال الحياة بوجه الرعب والموت الذي لا شك تلتقط شباكه يومياً ضحيةً من هنا وهناك.
عاملات الغزل والنسيج والريجي
تدفقت النساء إلى سوق العمل في المدن، وهو المشقق أصلاً بفعل الحرب واستنزافها المضطرد للبلاد والعباد. اللاذقية (الصغيرة بتجارتها وصناعتها)، اتسع فيها طيف الأعمال النسائية وأنشأت بعضهن ورشاً مستقلة مستفيدات من منح محلية ودولية تركز غالبها على قطاع الخياطة وتغليف الأغذية والمشروبات (كنبتة “المتة” مثلاً في قرية البصة القريبة من المدينة). إلا أن قسماً آخر ملأ شواغر تركها الرجال في المعامل القليلة هنا مثل معامل الغزل والتبغ (الريجي) والنسيج وفي مهن تعرف بأنها مجهدة.
قبل الحرب، عمل عدد كبير من النساء ضمن هذه المعامل بنظام الورديات الليلية المتبدلة كل يومين ودوام يصل إلى ثمانِ ساعات يومياً. اليوم أضيف إلى الصورة نساء يقدن خطوط الإنتاج في معمل التبغ كرئيسات مرحلة، وأخريات في معملي الغزل والخيوط القطنية ممن يعملن بصيانة القطع التبديلية والأمور الفنية والكهربائية، على الرغم من غياب الشروط الصحية المناسبة عن قسم كبير من هذه الأعمال التي تصنف مجتمعياً ومهنياً على أنها أعمال ذكورية تُقصّر العمر.
تعمل سيدة (40عاماً) مساعدة مهندسة صيانة للإلكترونيات (معمل الغزل)، متزوجة ولديها طفلين. تقول: “كان لدينا بالورشة عدد من الشباب والرجال يعلمون كل أعمال الصيانة، ونحن كان لنا دور ثانوي، التحق كثير منهم بالوحدات المقاتلة بعد طلبهم إلى الاحتياط، ولم يبق كثير من الخبرات لدينا، والعمل مستمر، أعدت تأهيل نفسي واستلمت “كاوي” و”قصدير” وعدة أدوات للصيانة لأعمل من جديد في مهنتي التي أحبها”.
الخدمة في الفضاء المفتوح مرة ثانية
قبل الحرب كان صعباً أن تجد فتاة تعمل بمقهى يرتاده الرجال، سواء المقاهي التقليدية أو الحديثة على النمط الغربي (الكافيهات). اليوم أيضاً تغيرت الصورة، ويصح هذا على مختلف البقاع السورية التي بقيت على قيد الحياة. ففي أي مكان، حتى المناطق المحافظة التي تمنع على سبيل المثال بيع وتناول المشروبات الروحية (كبعض مطاعم الربوة بريف دمشق)، يوجد سيدات وصبايا من مختلف الشرائح يقمن بالخدمة فيها وسط جمهور ذكوري غالباً.
يختلف هذا النمط عن غيره من الأعمال بوجود احتكاك دائم ومطلوب ومباشر بين العاملين والزبائن مختلفي المشارب والميول في فضاء مفتوح وذي سوية يفترض أنها متمتعة باحترام الآخر وعمله (ليس دائماً)، وغالبية العاملات في هذا القطاع صبايا فوق العشرين يعملن لإكمال تعليمهن الجامعي، فقد أصبحت تكاليفه حتى في التعليم الرسمي عالية، وخاصة أجور النقل والسكن.
تبلغ نسبة العاملات في هذه الأماكن ما لا يقل عن الثلثين عادةً، فهن يشكّلن عوامل جذب للزبائن، الذكور منهم والإناث، مع مخاطر التعرض للتحرش الدائم. إلا أن هذه المسألة تلخص، كما تقول صبية جامعية (تدرس هندسة سنة ثانية) تعمل بإحدى الكافيهات بحي الزراعة القريب من الجامعة (اللاذقية)، بعبارة واحدة: “العمل عمل فقط ولا أسمح لأي أحد بفتح حديث جانبي معي”.
خلاصة ما لا يلخص
عندما استسلمت ألمانيا للحلفاء نهاية الحرب العالمية الثانية كانت حطام دولة، فقد قسمت إلى دولتين وشعبين محبطين بعد ست سنوات من حرب مريرة دمرت كل شيء مخلفةً خمسة ملايين معتقل، وسبعة ملايين قتيل. سرقت قوات الحلفاء المصانع والآلات بعد أن هدمت كلياً كامل البنى التحتية. لم يبق من الألمان سوى الأطفال والشيوخ ونساء كن شاهدات على فظائع الحرب، خاصة بعد سقوط برلين التي شهدت مع درسدن أفظع الفظائع (تذكّر بحمص).
في تلك الأوقات العصيبة، ونتيجة الدمار النفسي والاقتصادي، انتشرت فكرة الانتحار بكثافة. وبغياب تام لأي قيادات أو جهات داعمة، بدأت الألمانيات عفوياً بجمع الأنقاض لإعادة بناء البيوت، وجمع الأوراق والكتب من تحت الأنقاض لفتح المدارس. ومن أجل ذلك كتبن على الجدران المحطمة شعارات تبث الأمل وتحث على العمل (لا تنتظر حقك، افعل ما تستطيع، ازرع الأمل قبل القمح). سمت النساء تلك المرحلة “النهوض من القاع” وسميت أولئك النساء “نساء المباني المحطمة”.
في الحالة السورية، وبغض النظر عن الأسباب والمسببين لما جرى ويجري في البلاد، وبدون قياس ومقارنة، فهناك نتائج مشابهة إلى حد ما. وما تفعله النساء السوريات استمرار بشكل أو بآخر لما فعلته “نساء المباني المحطمة”. تختصر سيدة من المباني المحطمة رؤيتها لتلك الأوقات العصيبة بالقول: “لقد دفعنا فاتورة كبيرة وعلينا ألا نقع في الحفرة ثانية”.
لعل النساء السوريات يكن أيضاً في المستقبل صاحبات الفضل بألا نقع نحن الحمقى في تلك الحفرة مرة ثانية.