ساسة بوست- إن أصبحت لاجئًا فتلك مأساة، وإن حكم عليك القدر أن تكون لاجئًا وسوريًّا فتلك مأساة أكبر، أما أن تكون لاجئًا وسوريًا ومُعاقًا فتلك كارثة يعجز اللسان عن وصفها! تلك الكلمات تجسّدها فتاة سورية تحمَّلت معاناة الإعاقة في وطنها حين كانت مواطنة، وواصلت معاناتها المضاعفة حين صارت لاجئة، إنها «نوجين مصطفى».
هي فتاة سورية من أسرة كردية ولدت في عام 1999م في مدينة «منبج» لتصاب بنوع من الشلل الدماغي بعد ولادتها قبل موعدها المحدد، الشيء الذي جعلها مشلولة القدمين لا تستطيع المشي مدى حياتها، كان قَدَرها أن تعيش فوق كرسي متحرك لتُحرَم من التعليم كما حُرمت من الحركة، نعم، حُرمت من التعليم لأنها عاشت في دولة لا مكان فيها للمعاقين! تتذكر تلك الأيام المؤلمة حين كانت كل صباح تشاهد إخوتها يذهبون لمدارسهم وهي حبيسة شقتها في الطابق الخامس لا حول لها ولا قوة سوى إرادتها القوية، التي جعلتها تقرر أن تعلِّم نفسها بنفسها، حتى أتقنت اللغة الإنجليزية عن طريق التلفاز الذي كان وسيلتها الوحيدة للتعرف على الحياة!
سارت حياتها عادية إلى عام 2011 حين انقلب كل شيء رأسًا على عقب! حدثت ثورة شعبية انقلبت إلى حرب إبادة! وفي عام 2014 ومع اشتداد المعارك والقصف المستمر الوحشي لمناطق المدنيين، واقتراب عناصر تنظيم الدولة الإسلامية منها، كانت نوجين تنظر بحسرة إلى صور السوريين الذين يهربون باتجاه أوروبا، والذين يزداد عددهم باستمرار، أتت اللحظة التي لم يعد الانتظار فيها ممكنًا عندما قال لها إخوتها: يجب أن تهربي قبل أن يصبح الوقت متأخرًا والهروب مستحيلاً، لقد دخل تنظيم الدولة مدينة «الرقة» وصار على بعد 100 ميل من «منبج»، ونوجين وأسرتها أقلية إثنية ربما يكونون مستهدفين من قبل التنظيم، هربت نوجين بصحبة أختها «نسرين» عابرة الحدود التركية على كرسيها المتحرك الذي يبدو أنه سيصير صديقها المخلص في رحلة مجهولة.
كان على نوجين وأختها سلوك الطريق المعتاد للاجئين لأوروبا وهو عبور البحر إلى جزيرة «ليسبوس» اليونانية على ظهر قارب، وهنا ترتعش يدي وأنا أكتب عن الكابوس الذي كان يراودها في تلك المغامرة، إنه كرسيّها الذي كانت تخشى أن يرمى به في البحر لتخفيف الوزن على متن القارب ليصل اللاجئون بسلام، الإنسانية تنتحر هنا من هول هذا المشهد! أصبح الكرسي عبئا حسبما وَصَفَتْ، لكن يشاء الله أن تصل مع كرسيها «صديقها المخلص» إلى ليسبوس.
من اليونان ينبغي لنوجين أن تسلك طريق الحرير السوري! مقدونيا ثم صربيا ثم المجر ثم كرواتيا وسلوفينيا ثم النمسا لتصل إلى قبلة النجاة وجَنة أوروبا، ألمانيا، تصف نوجين تلك الرحلة الملحمية وتقول: إن أصعب شيء هو عبور الحدود؛ حيث يعاملونك هناك كأنك وباء يحاولون أن يحموا مواطنيهم منه!
إنه الألم النفسي في أصعب صوره، حينها تهون عليك نفسك وتشعر أن الدنيا ضاقت بك ولم يعد فيها مكان لك، ولكن الألم النفسي يتضاعف في سلوفينيا حين قضت نوجين وأختها مع اللاجئين الآخرين 24 ساعة في مكان الاحتجاز الذي كان على نوافذه القضبان، لتشعر نوجين ورفاقها أنهم يعاملون كأنهم حفنة من المجرمين واللصوص! شعور لا يختلف كثيرًا عن عبور البحر؛ فقد كان شعورها حينها وهي فوق الماء الذي قد يتسرب إلى القارب في أية لحظة بأنها على موعد مع إحدى الحسنيين، إما النجاة والوصول وإما الرفيق الأعلى.
قبلها على الحدود الصربية المجرية حين بَنَت «المجر» السياج الكبير لوقف وباء اللاجئين، كان الناس يدفعون نوجين إلى الأمام ظنًا منهم أن المجريين سيتعاطفون مع الفتاة المقعدة، وبالتالي سيفتحون لها الأبواب، إلا أن هذا لم يحصل، وانتظرت نوجين دورها كبقية اللاجئين المعذبين.
بعد رحلة أسطورية طولها 3500 ميل، وصلت نوجين إلى الحدود الألمانية مع كرسيها لتعاني شعورًا مريرًا من عدم الصبر حين انتظرت 5 ساعات كاملة في الصف منتظرة العبور هي وأختها إلى ألمانيا، إلى أن أتت اللحظة الفارقة، لحظة الدخول إلى ألمانيا، كل شيء انتهى الآن!
حصلت نوجين وأختها على شقة في «كولونيا» لتنعم بحق الأمن الذي لم تجده في وطنها، وتم قبولها في مدرسة للمعاقين لتنعم بحق التعليم الذي حرمها منه وطنها، إن «إنجيلا ميركل» ليست بالنسبة إليها منقذة ومخلصة فحسب، بل هي على حسب تعبيرها هي الملكة «زنوبيا» التي حلّت كل مشاكل سوريا في القرن الثالث أثناء حكم «بالميرين»!
خلال تلك المحطات الطويلة رصدت الصحافة الأوروبية معاناة نوجين واستضافها التليفزيون الألماني وقامت بمساعدة «كرستينا لومب» صحفية «صانداي تايمز» بكتابة كتاب يحكي قضيتها ومعاناتها.