حسام أبو حامد/ موقع (ضفة ثالثة) الإلكتروني- ناضلت الموجة الأولى من الحركة النسوية من أجل الحقوق القانونية للمرأة، خصوصاً حقها في الاقتراع والتملّك. ودفعت الموجة الثانية الحركة إلى مزيد من التحرّر الجنسي، وحقوق الإنجاب، وطرحت قضايا مكانة المرأة في الأسرة والعمل والعنف المنزلي. وذهبت الموجة الثالثة خطوةً أخرى إلى الأمام، حيث ركّزت على الخصائص الفردية، وعلى إزالة الصور النمطية حول الجنس، واحتضان مفاهيم التقاطع، والإيجابية الجنسية، والنسوية العابرة للنسوية. اليوم بدأنا نشهد موجة نسوية رابعة، تسعى للتشكيك في فكرة السلطة نفسها. لسنا أمام نسوية واحدة واضحة المعالم، بل أمام حركات نسوية متنوعة. وليست كل النساء نسويّات رغم أنهن جميعاً لديهنّ مطالب، مما يعقّد النقاش حول ما إذا كان مناسباً تسمية هذه الحركات بـ”الموجات”.
بكلّ الأحوال، لم تتعلّق الحركة النسوية بكراهية الرجال، كما يحاول تصويرها مناهضو النسوية، بل تعلّق الأمر دائماً بالمساواة.
بدأ الحديث عن الحركة النسوية بوصفها سلسلة من الموجات في عام 1968، عندما كتبت مارتا وينمان لير، في صحيفة نيويورك تايمز، مقالاً بعنوان “الموجة النسوية الثانية”. لاحقاً، أصبحت هذه الاستعارة المَوجيّة وسيلة لوصف وتميز الأجيال المختلفة للحركة النسوية. لكن ناشطات نسويات يعترضن على هذه الاستعارة الموجيّة، ويجدن فيها اختزالاً يمكن أن يوحي بأن كل موجة من نسوية تشكّل وحدة متجانسة بأجندة موحّدة، في حين أن تاريخ النسوية هو تاريخ أفكار مختلفة في الصراع مع التيار السائد.
ويخشى مفكّرون نسويّون من الطريقة التي تتبنّى فيها هذه الاستعارة الانقسامات بين الأجيال، وتقترح أن الفواصل ليست بين موجات بل هي فترات من عدم النشاط.
رغم ما في هذه الاستعارة من تنميط، فإنّ استخدامها يبقى مفيداً لفهم تاريخ الحركة النسوية؛ من أين أتت؟ وكيف تطوّرت؟، شرط إدراكها عند التقييم العام في تواصلها وتمفصلها.
النسويّات المُقتَرِعات
مرّ تاريخ طويل من عدم الانصاف للمرأة، ومفكّرون من تخصصات مختلفة، تحدّثوا عما تفتقده المرأة أكثر من الحديث عما تتقنه. لذلك، لم تكن الحركة النسوية التي انطلقت بأواسط القرن التاسع عشر تشير إلى المفكرين النسويين الأوائل في التاريخ، بل إلى حركة سياسية مستدامة في الغرب كرّست جهودها لتحقيق المساواة السياسية بين المرأة والرجل، مع أن الأمر لم يخل من أدبيات وفّرتها كاتبات أكدن استقلاليتهن، أمثال كاتبات القرنين السابع عشر والثامن عشر: أفرا بن، وماري ولستونكرافت، وجين أوستن، وغيرهن، اللاتي طرحن أسئلة حول مكانة المرأة ولماذا يجب أن تكون هناك؛ مدافعات عن إنسانية المرأة كفرد، مُتحدّيات فكرة أن المرأة لا تستطيع أو لا يجب أن تكتب؛ لكنهن لم يكنَّ جزءاً من جهاز أكثر تنظيماً يناضل تحت مسميات التغيير الاجتماعي كما كانت النساء في كل مكان من العالم الغربي إبان الحركة النسوية الأولى، لا سيما في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.
بدأت الموجة الأولى مع اتفاقية “سينيكا فولز” في عام 1848 عندما احتشد ثلاثمائة رجل وامرأة من أجل قضية المساواة بين المرأة والرجل. صاغت إليزابيث كادي ستانتون إعلان “سينيكا فولز” الذي حدّد أيديولوجية الحركة الجديدة واستراتيجياتها السياسية. وأدّت المناقشات حول التصويت ومشاركة المرأة في السياسة إلى فحص الاختلافات بين الرجال والنساء، وادّعى البعض أن ّالنساء يتفوّقن أخلاقياً على الرجال، وبالتالي فإن وجودهنّ في المجال المدني سيحسن السلوك العام والعملية السياسية. كما رفضت المُقتَرِعات من النسوية الأولى تقديس الحياة المنزلية، وفكرة أن المنزل هو المكان الطبيعي للمرأة. ولقد قاتلن من أجل الحقّ في التصويت، ونظّمن احتجاجات وهن يرتدين أفضل ما لديهنّ من ثياب، وتحدّثن في الأماكن العامة.
كان ذلك في حينه صادماً لمعظم النساء قبل الرجال. تشابك نضالهنّ من أجل الاقتراع مع الحركات التقدّمية الاجتماعية الأخرى في أواخر القرن التاسع عشر، مثل الكفاح من أجل إلغاء الرق في الولايات المتحدة الأميركية. ونتيجةً لذلك، ضمّت هذه النسخة النساء البيض من الطبقتين الوسطى والعاملة، إلى جانب النساء الملوّنات، فقد رأت المُقتَرِعات صلاتٍ بين تبعية النساء وتبعية الأميركيين من أصل أفريقي، وحاربن من أجل منصّة للارتقاء والمساواة لكلا المجموعتين.
لسوء الحظ، فإن طريقة التفكير هذه لم تَسُد بين كلّ النسويّات البيض من الطبقة المتوسطة اللاتي رأى بعضهنّ في منح الرجال الأميركيين من أصل أفريقي حقّ التصويت عام 1870 حافزاً للمطالبة بحقّ النساء في التصويت، طالما مُنِحَ ذلك الحق لـ”عبيد” سابقين؛ كما ذهبت حركة اليزابيث كادي ستانتون، وحركة سوزان ب. أنتوني، وغيرهما من حركات كرّست أنفسها كحركات خاصة بالنساء البيض، وضعت أهدافاً جذرية لأعضائها، وناضلت من أجل حقّ النساء البيض في الاقتراع، وتكافؤ الفرص في التعليم والعمل والمُلكيّة. كما تعدّت تلك المطالب إلى الحقوق الإنجابية، ففي عام 1916 افتتحت مارغريت سانغر أول عيادة لتحديد النسل، في ولاية نيويورك، متحدّيةً قانون الولاية الذي منع توزيع وسائل منع الحمل.
تفكيك اللغز الأنثوي
بعد نيلهنّ حقّ الاقتراع في الولايات المتحدة الأميركية عام 1920، وبلدان أوروبا الغربية كبريطانيا عام 1928، استمرت نسوية الموجة الأولى في العمل من أجل الحرية الإنجابية والمساواة في التعليم والعمل، ومن أجل حقّ التصويت للنساء الملوّنات، لكن النسوية عموماً بدأت بالانشقاق في ظلّ غياب هدف رئيسي موحّد.
وفي حين أن الموجة الأولى من الحركة النسوية كانت مدفوعة بشكل عام من قبل الطبقة المتوسطة، النساء البيض، فإن الموجة الثانية اجتذبت النساء الملوّنات ونساء الدول النامية، ورجالاً من طبقات مختلفة، سعياً وراء الأخوّة والتضامن، مع الاعتقاد أن نضال المرأة هو جزء من الصراع الطبقي. تحدّثن عن النساء كطبقة اجتماعية، واستخدمن عبارات “الشخصية السياسية” و”سياسات الهوية” في محاولة لإثبات ترابط العرق والطبقة والقمع بين الجنسين، وبذلن جهوداً لتخليص المجتمع من أعلى إلى أسفل من التحيّز الجنسي.
توافر للموجة الثانية زخم ثقافي عبر أدبيات تأسيسية، ومن ذلك كتاب “الجنس الثاني” لسيمون دي بوفوار (طبع في فرنسا 1949 وفي أميركا 1953)، و”المرأة المخصيّة” لجيرمن غرير (1970). لكن تاريخ الحركة النسوية الثانية يبدأ في نظر الكثيرين عندما صدر كتاب بيتي فريدان “اللغز الأنثوي” عام 1963، الذي بيع منه في الولايات المتحدة الأميركية ثلاثة ملايين نسخة في ثلاث سنوات.
ذهبت بوفوار إلى أن المرأة لا تولد امرأة ولكنها تصبح كذلك، أما فريدان ففضحت التمييز الجنسي الممنهج ضد المرأة الذي أراد إقناعها أن مكانها هو المنزل، وأن عدم سعادتها هناك، وهو ما ينبغي أن تشعر به، كان بسبب إفسادها. لاحقا سخرت فريدان من هذا المنطق بقولها: “كنت أظن أن بي خطبا ما حين لم أحصل على الرعشة الجنسية وأنا أنظف أرضية المطبخ”. الخطأ برأي فريدان لا يكمن في النساء بل في العالم الذي رفض السماح لهن بممارسة قدراتهن الإبداعية والفكرية، وفرض عليهن وسائل سعادتهن. تلقفت أكاديميات، ومثقفات، ورباّت بيوت من الطبقة الوسطى، من بين 3 ملايين قارئ، أفكار فريدان، واندفعن بغضب عارم خلف هدف موحّد، لم يكن هذه المرة المساواة السياسية، وإنما المساواة الاجتماعية. وتكشفت هذه الموجة في سياق الحركات المناهضة للحرب، والحقوق المدنية، وتنامي الوعي الذاتي لمجموعة متنوعة من الأقلّيات في جميع أنحاء العالم. كان اليسار الجديد في ازدياد، وكان صوت الموجة الثانية جذريًا بشكل متزايد. في هذه المرحلة، كانت الحقوق الجنسية والإنجابية من القضايا السائدة، وتركزّت معظم طاقة الحركة على تمرير تعديل الحقوق المتساوية إلى الدستور الذي يضمن المساواة الاجتماعية بغض النظر عن الجنس.
بدأت هذه المرحلة باحتجاجات ضد مسابقة ملكة جمال أميركا في أتلانتيك سيتي في عامي 1968 و1969. وسخرت النسويات مما اعتبرنه “استعراض مواشي” مهين للمرأة، التي أصبحت موضوعا للجمال المُشيّأ ويهيمن عليها النظام الأبوي الساعي لإبقائهن في المنزل أو في وظائف باهتة منخفضة الأجر. حاكت هذ النسوية تلك الاحتفالية بمسابقة جمال توّجت فيها ماعزا ملكة جمال أميركا، وألقت التحف الأنثوية “القمعية” مثل حمالات الصدر والحزام والكعب العالي والماكياج والرموش الزائفة في سلة المهملات. حققت النسوية في موجتها الثانية بعض الانتصارات: قانون المساواة في الأجور، حق استخدام وسائل منع الحمل، المساواة في التعليم، وحرية الإنجاب. والأهم، زعزعة التمييز الممنهج ضد المرأة المتجذر في المجتمع. ورغم تجذر النسوية الثانية في حركات الحقوق المدنية، والمناهضة للرأسمالية والعنصرية، إلا أن النساء الملونات، والسود منهن خصوصا، وجدن أنفسهن بشكل متزايد معزولات عن المنصات المركزية للحركة النسوية الرئيسية، التي وجدت صوتًا لها وسط العديد من الحركات الاجتماعية الأخرى، إلا أنه تم تهميشها بسهولة باعتبارها أقل إلحاحا، من قضايا أخرى، كوقف الحرب في فيتنام على سبيل المثال. ردّت النسويات من خلال تشكيل منظمات للنساء فقط مثل: ” NOW” ومجموعات “زيادة الوعي”. دافعت النسويات عن تواجدهن، ودمجن بين الماركسية الجديدة ونظرية التحليل النفسي، وربطن رفض إخضاع النساء بانتقادات أوسع للأبوية والرأسمالية والمغايرة المعيارية، ودور المرأة كزوجة وأم، والتمييز بين الجنسين بيولوجيا واجتماعيا.
لم نعد بحاجة إلى النسوية
شهدت إنيتا هيل في عام 1991 أمام اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ الأميركي أن مرشح المحكمة العليا كلارنس توماس قد تحرش بها جنسيا في العمل، مما أثار سيلا كبيرا من شكاوى التحرش الجنسي. وسيسمى العام التالي بعام المرأة بعد فوز 24 امرأة بمقاعد في مجلس النواب، وفوز ثلاث أخرى في مجلس الشيوخ. كانت مكافحة التحرش الجنسي في مكان العمل والدراسة، وزيادة عدد النساء في مواقع السلطة، أحد محددات نضال النسوية الثالثة.
يمكن أن نقرأ مطالب نسويات الموجة الثانية باستخدام موانع الحمل، والتشديد على الحق في الإجهاض بوصفه انسحابا من دور الأمومة، لكن نسويات الموجة الثالثة يختلفن عن أمهاتهن اللاتي انتمين إلى النسوية الثانية، فهن لا يفضلّن مصطلح نسويات بل يفخرن بكونهن “فتويات” يدافعن عن “girliness” بوصفه مصطلحا يشير إلى الشرط الذي يتحدد من خلاله أن يكون الإنسان فتاة. انتقدن نظرة أمهاتهن إلى المرأة بوصفها ضحية للرجل، ورغبتهن في مزاحمته في لعبة الأدوار التي برز فيها دور الرجل معياريا، رأين في ذلك رغبة من أمهاتهن ليكونوا رجالا، ونتيجة ذلك سجن المرأة والرجل في أدوار ثابتة ترتبط أساسًا بنوع اجتماعي واحد، هو «الرجل».
على خلاف التوجّه الذكوري في الموجتين الأولى والثانية، حاولت النسوية الثالثة إعادة الثقة للمرأة بنفسها ولكونها ما هي عليه، وحاولت إنهاء المعركة بين “نحن” و”هم”، وأدرجت بين صفوفها الرجال والنساء من مختلف الأعراق والميول الجنسية، وكان الفهم المتزايد لهويات مزدوجي الميول الجنسية، والمتحولين جنسيا، إحدى السمات المميزة لهذه الموجة. وإذا كانت النسوية الثانية قد رفضت طلاء الأظافر، وأقلام حمرة الشفاه، والكعب العالي، وحمالات النهدين، وغيرها من أدوات معسكر “المرأة المخصيّة” بتعبير جيرمن غرير، فإن “فتويات” الموجة الثالثة ستحتضن هذه الأدوات، باستثناء حمالات النهدين التي طالبن بالتحرر منها وبحقهن في إظهار حلماتهن. تركيز النسوية الثالثة على التحرير الفردي، هدد بنزع الطابع السياسي، ونقل المسؤولية عن التغيير إلى الفرد، وولدا قلقا حيال صعوبة تحقيق تغيير واسع المدى، ومع افتقادها للزخم الثقافي الذي كان وراء إنجازات الموجة الثانية، ومع انتشارها بدون هدف مركزي، لم تحقق النسوية الثالثة أي إنجاز تشريعي أو أي تغيير اجتماعي كبير.
من الصعب التحدّث عن أهداف الموجة الثالثة لأن خاصية تلك الموجة هي رفض الأهداف المجتمعية الموحدة. لا تعترف الموجة الثالثة بـ “حركة” جماعية ولا تُعرِّف نفسها كمجموعة ذات مظالم شائعة والصراعات التي خاضتها أكثر فردية: “لم نعد بحاجة إلى الحركة النسوية”.
النسوية الإلكترونية
لعبت التقنيات الإعلامية الحديثة دوراً في الترويج للنسوية الثالثة التي تراجعت إلى الغرف الأكاديمية، وساعدت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم في خلق مجتمع عالمي من النسويات اللاتي يتشاركن الإنترنت للمناقشات والأنشطة معا، وتسليط الضوء على قضايا الاغتصاب، والتحرش الجنسي، والعنف الجسدي، من بين قضايا أخرى. وبدأ هذا المناخ النسوي الجديد يوصف بأنه نسوية في موجتها الرابعة تجلت بوادرها في عدد من الحوادث البارزة، رافقتها حملات إلكترونية مثل “مشروع التمييز اليومي على أساس الجنس” (16 نيسان/ أبريل 2012)، و “لا صفحة ثالثة بعد الآن” في آب/ أغسطس 2012، وغيرهما.. جذبت آلافا من المؤيدين الذين أدركوا دور الإنترنت كمنتدى للنقاش ومساحة للنشطاء في الوقت نفسه. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2012، تعرضت امرأة شابة لاغتصاب جماعي بوحشية في الهند وتوفيت بعد ذلك، مما أثار احتجاجات محلية وغضباً دولياً.
في أثناء حملته الانتخابية، ضد منافسته هيلاري كلينتون، أدلى دونالد ترامب بعدد من التصريحات المثيرة للجدل حول النساء، وبعد فوزه بالرئاسة بيوم واحد، لقيت دعوة إحدى النساء عبر منصة Facebook للقيام بمسيرة في العاصمة واشنطن تفاعلا واسعا، فخرجت في 21 كانون الثاني/ يناير 2017 مظاهرات غطّت جميع أنحاء الولايات المتحدة، وأماكن أخرى في العالم، سرعان ما اكتسبت قوة وأصبحت دعوة للتغيير الاجتماعي، خاصة فيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين. ولكن ربما كان الأمر الأكثر أهمية هو حركة “Me Too” التي تم إطلاقها في عام 2016 في الولايات المتحدة لمساعدة الناجين من العنف الجنسي، وخاصة الإناث الملونات. اكتسبت الحملة اهتمامًا واسعًا بدءًا من عام 2017، الذي تزامن والكشف عن تحرّشات ومضايقات مستمرة من قبل هارفي وينستاين، المنتج والمخرج الأميركي، لصديقاته في العمل مع الإفلات من العقاب. باستخدام هاشتاغ (#MeToo)، حكت نساء من كل مكان حول العالم تقريبًا، قصصهن مع التحرّش، وناقشن التوعية بالأضرار النفسية التي تلحق بهن بسببه. نمت الحركة خلال الأشهر المقبلة لإدانة العشرات من الرجال الأقوياء في السياسة والأعمال والترفيه ووسائل الإعلام.
عربياً: النسوية والنسوة
مع إعادة تعريف النسوية بوساطة التكنولوجيا أصبحت النسوية أكثر عالمية، واكتسبت مزيدا من اللامركزية، وأصبحت قضاياها تحظى بشعبية مذهلة، وهي قضايا متنوعة وملحة تقاتل معها النسويات على جبهات متعددة. خلال العقد الماضي، أطلقت حملات من قبل أفراد أو مجموعات صغيرة استجابت لقضايا شعروا بقوة شأنها وقدرتهم على معالجتها بشكل مفيد وفعال. مع أن هناك خلافا بالرأي عندما يتعلق الأمر بترتيب الأولويات، تبدو الموجة الرابعة إعصارا من الآراء والخبرات والمظالم، وكانت أشد تنوعا، اختلفت معها مطالب النساء من الطبقة المتوسطة البيضاء عن مطالب شقيقاتهن العربيات أو الأفريقيات أو الآسيويات، واختلفت مطالب مثليي الجنس عن مطالب متحولي الجنس أو مطالب غير المتوافقين جنسيا.. لكل فئة هاشتاغها ومناسباتها وميماتها (memes) وحملاتها.
يزداد تواجد النساء على مواقع التواصل الاجتماعي في المناطق التي تواجه فيها النساء درجة أعلى من الظلم الاجتماعي، ولقد فتحت ثورات الربيع العربي التي أسقطت جدران الخوف والاستبداد الباب واسعا للنقاش حول مختلف الملفات دون مراعاة للخطوط الحمر التقليدية، وعاد ملف المرأة العربية، ومطالبها، إلى الواجهة مجددا فيما يتعلق بالقضايا الأسرية وحقوقها المدنية. لكن هناك خشية من أن يزيد الفضاء الافتراضي من إشكاليات النسوية العربية التي تفتقد أساسا لعمق مجتمعي، فرغم ما يبثه الإنترنت من حياة في النسوية إلا أن تأثير الحملات الإلكترونية على الواقع من عدمه هو موضوع مختلف عليه، ولا تزال هناك شكوك من أن يوفّر ذلك حركة سياسية تغييرية. كما أن النقاش النسوي يجري في أحيان كثيرة بعيدا عن النساء الأكبر سنا اللاتي لا يرتبطن بدرجة كافية بمواقع التواصل الاجتماعي مما يؤدي إلى انقسام بين النسويات صغيرات السن والأكبر سناً.
من جهة أخرى، فإن انخراط مزيد من النساء العربيات في المناخ النسوي ونقاشاته يواجه صعوبات عديدة، وأحيانا يثير نفورا أكثر من أن يخلق الرغبة في المشاركة، ومثلما مكّن الإنترنت نساء ذوي تفكير متماثل من التواصل، خلق أيضا مكانا للأفكار التقليدية وردود الفعل العنيفة. تبدو المجموعات النسائية المغلقة المنتشرة بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي مرتعا لتلك الأفكار التقليدية، ورغم كل الكلام المباح حول الجنس والتعبير الحر عنه، فإن طرح فكرة تتعلق بالتحرر الجنسي أو الفهم الذكوري للدين، تثير ردود أفعال عنيفة، تنتصر فيها التوجهات التقليدية. عموما، هناك صعوبة في تقبّل المرأة العربية للأفكار النسوية الغربية، بحكم اختلاف السياق الثقافي، الذي لم يعتد رفض الفوارق البيولوجية بين الرجال والنساء، ورفض الحجاب بوصفه نسويا غربيا، إحدى أدوات القمع الذكورية، وموقفه من المثلية الجنسية، وغيرها.
خاتمة
الهجوم على الحركة النسوية مستمر، ويمكن القول إن المواقف المتطرّفة لبعض النسويات تشكل مدخلا واسعا للنقد والتهجّم والتشويه، فذهاب بعض النسويات، على سبيل المثال، بعيدا في نقد النوع الاجتماعي، وصولا إلى نقد الجنس نفسه، ومن ذلك أن مونيك ويتيغ أنكرت الفروق البيولوجية بين الرجال والنساء، واعتبرتها فروقات ثقافية لا بيولوجية، ورأت فيها مجرد «خرافة اخترعها المجتمع كي يُبقي الرجل دائمًا فوق المرأة، ويمارس سلطته عليها، ويفرض عليها أدوارًا اجتماعية معينة»، يمكّن ربما بسهولة من مهاجمة الحركة النسوية ككل عن طريق انتقاء بعض الأصوات الأكثر راديكالية، وتعميم مواقفها على مجمل الحركة. فتبدو النساء اللاتي يشاركن في حركات التحرر النسوية، هن غالبا من المنفصلات عن أزواجهن أو من لم يتمكّنّ من الزواج، فلم يجدن مكانا آخر غير الحركة النسوية نفسها، متنفسا لعواطفهن وسخطهن. أو يتم تصوير النسويات باعتبارهن فاقدات للاتزان النفسي، ومعاديات للرجال بصورة هستيرية. وعندها يصبح احتفاء النسوية بالعلاقات الجنسية المثلية، مدخلًا لوسم النسويات بأنهن “سحاقيات” جراء عدائهن للرجال.
لا تزال الموجة الرابعة من النسوية صورة ظليلية، لم تتضح معالمها بعد، ورغم نعتها من باب السخرية بنسوية الهاشتاغ (Hashtag Feminism) فإنها ومن خلال هذه الوسيلة اكتسبت أهميتها وزخمها، وتنتظر أن تحقق نتائجها من خلالها. فضح المتحرّشين جنسياً من خلال حملات متنوعة لا يمكن تجاهلها، وحتى مع بقاء كثير من هؤلاء دون عقاب، فإن هناك مستوى مهمًا من الوعي والنقاش حول الطريقة الأنسب للتصرف، والجديد هنا يكمن في التركيز على المعتدي بدلا من التركيز على الضحية، وبمرور الوقت سيشعر المتحرشون حتى من أصحاب السلطة الذين لا يمكن المساس بهم، أنهم لم يعودوا بمأمن. أما الصمت الذي تعلمته الفتيات من المجتمع وغيرهن من المتحرّش بهن فلم يعد السلوك الأمثل. وفيما يتعلق بأسئلة الهوية، يتم الاعتراف بمزيد من المهمشين، وتمكين الأفراد من جميع الفئات والأجناس. فلتجرب الدخول الى ملفك الشخصي على فيسبوك وإلقاء نظرة على خيارات خانة الجنس (Gender) وانتقاء خيار مخصص (Custom)، وحاول أن تكتب فيه لتملأه، سيمنحك الفيسبوك حتى 71 خيارا جندرياً.
بالرغم من صيحات موت النسوية، وسواء كنا نشهد فعلاً موجة نسوية رابعة بنسخة إلكترونية أم لا، فإن فهم المرأة لموقفها في العالم ونضالاتها السياسية يتغير. ورغم صعوبة وضع حدود فاصلة بين النسوية الثالثة والرابعة، وسواء كانت الموجة الحالية إعادة إنتاج إلكتروني للنسوية الثالثة أم موجة تحوز استقلاليتها النسبية، ففي المحصلة هناك إمكانات سياسية لمنح صوت لهؤلاء النساء اللاتي ما زلن مهمشات من قبل التيار الرئيسي؛ إذ فتحت وسائل التواصل الاجتماعي، إمكانية جديدة للتعبير عن حركة نسوية عالمية مجددا، تطالب بتقرير المصير، وتعترف بالحقوق الإنجابية، والمواطنة القانونية والاجتماعية الخالية من التحيّز الجنسي، وتدين العنف القائم على نوع الجنس، والعنصرية. تتعلق كل هذه القضايا بالأسئلة الأساسية حول: من/ كيف/ ولماذا يتم إنتاج القوانين التي تستعمر جسد المرأة؟ إنها تشكك في تلك السلطة وتفضح أصحابها، وهي لا تتحدى فقط القضايا الوطنية أو الدولية الفردية، ولكنها تتحدى عالميًا النموذج الليبرالي الجديد للقانون والمواطنة.