مادلين المشارقة/ (ميدان) الجزيرة- “جدلية علاقة المرأة بالرياضات الذهنية، بما فيها لعبة الشطرنج، جدلية لا نستطيع القول إنها قضية مستحدثة للنقاش والبت فيها، ولكننا نستطيع القول إن التركيز عليها بدأ يتوسع في الآونة الأخيرة. وقد يكون هذا مبررا لقلة حضور المرأة في هذه الرياضات على مستوى المحافل الدولية والإقليمية وندرة وجود أسماء نسائية تنافس في البطولات أو تدخل قوائم التصنيفات” (مبارك الحمداني، باحث في علم الاجتماع)
واحدة من الحقائق الغريبة التي سيُذهلك -حقيقة- أنها موجودة في عصرنا الحالي وهذه الألفية المتقدمة أن جميع الأماكن في العالم تسمح بدخول كلا الجنسين، فكل سياحة لا تحتاج إلى أكثر من إجراءات قانونية سليمة لقبولك كسائح أو كزائر. ولكن الحقيقة أن هنالك عدة وجهات محظورة تماما على النساء(1)، فلا يُسمح لقَدَم أي أنثى أن تدوس ترابها، على سبيل المثال: جبل آثوس في اليونان؛ حيث يُعتقد أن وجود المرأة في الأرجاء يُغير ديناميت المجتمع ويُضعف طريقهم نحو التنوير الروحي. وغيرها من الوجهات التي تعتبر -حسب طقوسها الدينية- أن وجود المرأة خطيئة ونجاسة! لعل أغرب الوجهات المحظورة على النساء والتي لم تطأها قدم أنثى لأكثر من 1000 سنة هي جزيرة أوكينوشيما في اليابان التي يسكنها راهب واحد فقط، يفرض الكثير من الشروط -الصعبة- لزيارتها حتى على الرجال، ولكنه يحظر زيارة النساء بالمطلق!(2)(3)(4)
وبامتداد خط المحظورات على استقامته، فغياب الجانب الناعم من بعض الأمور يجلب فكرة أولية تتمحور حول حظر وجود النساء في محيط هذا الأمر، كما نرى في بعض المجالات. أحد هذه المجالات التي يُهيمن عليها الرجال بكل وضوح هي لُعبة الشطرنج، وغياب وجود النساء على طاولات الشطرنج -والبطولات تحديداً- يُعطي مجالاً لعلامات الاستفهام أن تحوم في أفق هذه اللعبة.
لطالما وجدت هذه اللعبة الإستراتيجة مكاناً ثابتاً في البلاط الملكي؛ حتى إنها سُمّيت بلعبة الملوك؛ لوَلَع ملوك بريطانيا بها، ووجدت مكاناً في وقت فراغ الكثير من السياسيين والأدباء(5)، من بينهم أدولف هتلر، وفلاديمير لينين، وتشي جيفارا، وفيدل كاسترو، وويسنتون تشرشل، وباراك أوباما الذي لعبها مع زوجته ميشيل.
والأدباء لم يُخفوا اهتمامهم بها، فالروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز أشار إليها في رواية “حُب في زمن الكوليرا”، بالإضافة إلى الكاتب الإنجليزي ويليام شكسبير الذي كان شديد الاهتمام بلعبة الشطرنج، حتى إنه أضاف مشهداً للعب الشطرنج في مسرحيته “العاصفة”، تقديراً منه للأميرة إليزابيث التي كانت واحدةً من أمهر لاعبات الشطرنج. كما أن ابن كثير تحدّث باستفاضة(6) عن امرأة تُدعى “عُريب المأمونية” وفي جُملة ما حمل كلامه من أوصاف لجمالها أضاف بأنها من أحسن من يلعب الشطرنج! هذا الزخم من الوجود التاريخي للمرأة على طاولات الشطرنج، كيف خَفَتَ نوره وأصبحت رياضةً تفتقر للوجود النسائي على جانبي الطاولة؛ بالرغم من أنها لم تُحظر عليهن؟
الشطرنج؛ رُقعة تكره النساء، أم النساء يكرهن الشطرنج؟
“الشطرنج هو وسيلة حمقاء لجعل الناس العاطلين يعتقدون أنهم يقومون بشيء ذكي للغاية، بينما هم يضيّعون وقتهم فقط” (جورج برنارد شو، العقدة غير المنطقية)
بالنظر إلى الصورة الكُبرى للعبة الشطرنج، فمن الواضح أنها لا تتطلّب مقوّمات جسمانية لتكون مجالاً للرجال فقط، وبشهادة التاريخ -أيضاً- فلم يكُن هذا المجال يوماً حكراً على الرجال. فكيف وصل الحال بهذه الساحة أن تكون شحيحةً جداً بالعنصر النسائي؟ هل هي مملّة بالنسبة للنساء، أم أنها تتطلّب مهارات عقلية أخرى لا تتمتع بها النساء؟
هذا ما دفع إحدى روّاد موقع Chess.com الذي يُتيح للجميع مجال اللعب عن بُعد عبر الإنترنت، حيث شاركت آراءها حول السبب الرئيسي الذي يجعل هذه الساحة تحت سيطرة الرجال(7)، حيث ترى أن هناك تمييزاً جندرياً يُخفي نفسه بين سطور هذه اللعبة، مُستشهدةً بكتابٍ كتبته بطلة الشطرنج للنساء لعام 2004 جنيفر شحادة؛ والتي ترى أن لعبة الشطرنج -التي باتت تقليدياً لعبةً للرجال- تستطيع الناشئات لعبها بمهارة عالية، وحاولت مراراً أن تُكسب جملة “تلعب مثل النساء”، كإشارة لضعف المنافس، معنىً جديداً يعكس القوة والذكاء بدل الضعف.(8)
تتمحور فكرة الكاتبة حول ضرورة المساواة بين الجنسين في كافة الحقول، وأن هذه اللعبة أو الرياضة الفرعية التي يمتاز أصحابها بالذكاء والصبر ودقة الحركة، لا يوجد هناك ما يمنع من أن يكون للنساء نصيبٌ في المنافسة على الألقاب بالتزامن مع الانخراط في البطولات بمواجهة الرجال.
وبالعودة للاعبة التي تلعب عن بُعد، تقول: “إنه قانون طبيعي، عندما تكون الموارد شحيحة؛ تكون المنافسة عليها وحشية”، مُشيرةً إلى افتقار هذه اللعبة أيضاً لأي مُحفّزات مادية تجعلها تنجو بين باقي الرياضات الأخرى. مُضيفةً -برأيها- أنّ السبب وراء قلّة عدد النساء اللاعبات في لعبة الشطرنج هو أنّ النساء يفهمن أنه لا توجد مهنةً تمتهنها إحداهنّ تُسمّى “لاعبة شطرنج” (مثل المحاماة المهنية أو الطب أو حتى حقول الفيزياء)، ولا حتى أن تكون مهنة مربحة قصيرة الأجل. بالإضافة إلى ذلك، تقول أنّ السبب الأساسي يكمن وراء كون مؤسسة الشطرنج متحيّزة جنسياً للرجال، بحيث لا توجد مساحة كافية لكلا الجنسين في لعبة الشطرنج الاحترافية بين قائمة اللاعبين العشرة الأوائل، لذلك يجتمع جميع الرجال معاً للحفاظ على مجال التنافس مع الجنس الآخر أصغر ما يمكن.(9)
على الجانب الآخر، كانت الردود على رأي هذه اللاعبة لا تتفق -بالمجمل- معها، بل وصفوا هذه الأسباب بـ “الغبية” غير المنطقية، نظراً لافتقارها أيّ إثبات على أنّ هذه ساحة تعمّدت تهميش النساء للأسباب التي ذُكِرت وأنها تحاول بطريقة أو بأخرى فرض نظريةً تُحاكي مؤامرةً ما ضدّ النساء. ورأى بعضهم أنّ التهميش أساساً يأتي من تهميش المرأة أساساً في المجتمع، بل ويرى البعض أنّ لعبة الشطرنج يلعبها الرجال الذين لا يملكون أيّ عمل، كتعبئة لوقت فراغ لا أكثر، ولا يعدو أن يكون مهنة أو أن يُطمح لاحترافها، وأن هذا ينطبق على كلا الجنسين، ولا يجوز تحجيم هذه المساحة لتكون مُعادية للنساء لسبب غيبي!
تدرّج انسحاب المرأة من ساحة الشطرنج حتى نهاية القرن السابع عشر، حيث خرجت النساء فجأةً من مسرح الشطرنج. تفترض المؤرّخة النسوية مارلين يالوم أن هذا ربما كان مرتبطاً بالتغييرات التي طرأت على اللعبة، إلى جانب انتقالها من البلاط الملكي، كلعبةٍ يلعبها اللوردات والسيّدات، إلى رياضة تنافسية مكانها المنازل والمقاهي العامة، وبالتالي باتت تُعتبر نشاطاً غير لائق بالنساء.(10) إضافةً إلى القوالب المجتمعية التي تُصنّف مجال أي مهنة أو ممارسة أو رياضة حسب الجنس، فهناك ما عمّ قبوله للرجل واستُهجِن أن يكون للأنثى. وهذا تماماً الذي حدث، مما سمح للبعض بتعميم بعض الأفكار، التي لا تملك أي سند علمي ولا حتى نظري، مثل القول بأن الشطرنج لعبة تتطلب التركيز ومهارات ذهنية عالية يتمتع بها الرجال، عكس النساء. وهذا ما شدّد عليه الباحث في علم الاجتماع مبارك الحمداني، حيثُ علّق على ذلك قائلاً: “هناك من يحاول أن يستفيد من ضعف حضور المرأة في هذه الرياضات ليصنع صورة اجتماعية مغلوطة حول اللعبة من ناحية وقدرات المرأة من ناحية أخرى، وتتعدّى هذه الصورة صناعة سيناريو يرتبط بأدوار المرأة في المجتمع؛ فتُطلق التعميمات عن قدراتها القيادية وسواها، المسائل في هذا الصدد يجب أن تُرَدَّ إلى أصولها العلمية وأن تقدّم قراءات دقيقة على الأقل بينية -أي مشتركة بين علوم الاجتماع والطبيعة- قصد تقديم التفسيرات الأدق”(11)
مُضيفاً إلى ذلك أنّ الذي يعنينا بحق في المقام الأول هو أنه ليس هناك من مسألة فرق بنيوي أو جسماني في تميّز الرجل على المرأة أو بالأحرى بروز الرجال أكثر من النساء في هذه الألعاب والرياضات، فبعض المصادر التاريخية تشير إلى أنّ النساء -حتى في عصر الدولة الإسلامية الأولى- مارسن بعض الرياضات الذهنية بما فيها الشطرنج، بل تعدّى الأمر ذلك إلى الفروسية والمبارزة.
وهذا أيضاً ما يتناسق مع المذكور في كتاب “ولادة ملكة الشطرنج” (Birth of the Chess Queen)،حيث تصُف المؤرّخة مارلين يالوم صفاً طويلاً من لاعبات الشطرنج اللائي امتدّ طول صفّهن عبر القرون. ففي إسبانيا، وتحديداً في العصور الوسطى، لعبت النساء لعبة الشطرنج في الفراش أثناء فترة التعافي من الولادة. وفي حكايةٍ فرنسية من عام 1230؛ تحكي عن فارس يجب أن يفوز بمنافسة شطرنج ضدّ ابنة الأمير من أجل كسب يدها. إضافةً إلى مدرسة في ألمانيا في القرن الخامس عشر، أسّسها أسقفٌ محبٌّ للشطرنج، قامت بتعليم الفتيات والفتيان اللعبة كجزء من المنهج الدراسي. فلا يُمكن امتلاك قوى ذهنية في التاريخ ليختفي في الحاضر!(12)
في عالم البطلات!
“الحياة أكثر من لعبة الشطرنج، فعلى الرغم من وفاة الملك؛ فإن الحياة تستمر!” (توبا بيتا، ماجستير في الغباء)
هاو ييفان، لاعبة الشطرنج الصينية، والتي تُعد أفضل لاعبة شطرنج في الوقت الراهن والحائزة على لقب بطلة العالم في الشطرنج أربع مرات؛ كانت ييفان أصغر لاعبةٍ تفوز بهذا اللقب على الإطلاق، وأصغر لاعبةٍ تأهّلت للفوز بلقب أستاذ دولي في الشطرنج، تقول: “لم ألحظ في أي من البطولات التي شاركتُ فيها أنّ الفتيات قد يُعاملن بطريقة مختلفة تماماً”. وتؤكّد أنّ عدد الفتيات اللواتي يُشاركن في البطولات مؤخراً قد ارتفع، ومن الممكن العمل أكثر على تشجيع عدد أكبر من الفتيات للمشاركة.
وفي المساحة نفسها تتربّع المجرية جوديت بولغار؛ التي تُصنّف على أنها أقوى لاعبة شطرنج على مر العصور، إذ تمكّنت اللاعبة العبقرية من انتزاع لقب أصغر أستاذ شطرنج دولي، وهو أرفع الألقاب في عالم الشطرنج، من بطل العالم بوبي فيشر، عندما كانت في الـ15 من عمرها.
وبذكر فيشر، فقد صرّح في لقاء صحافي سنة 1963 “بأنّ النساء لاعبات شطرنج سيئات لأنهنّ لسن ذكيّات كفاية”، وهو تصريح مُذم ومُعادي للمرأة في هذه المساحة، خصوصاً -إذا علمت- أن فيشر كان قد تعلّم الشطرنج على يد أخته!(13)
تؤكّد اللاعبتان أن دور العائلة في التشجيع وإدخالهم مضمار التنافس منذ الصغر كان عاملاً مُساعداً لبسط المهارات المطلوبة بكل ثقة، دون الخوف من المنافس الذي يجلس على الضفة الأخرى من الحرب الذهنية الإستراتيجية. فاللاعبة هاو -على سبيل المثال- علّمتها أمها قواعد الشطرنج في سنّ الخامسة، وأحرزت أول لقب دولي في سنّ التاسعة. أما العبقرية بولغار فحظيت بأم أرادت لها من البداية أن تتعلّم شيئا أرقى وأنسب للفتيات، مثل الرقص، ولكن والدها كان الداعم الأكبر لها.
وهذا لا يُعدّ صادماً على الإطلاق، فمنذ فترة عصفت مواقع التواصل الاجتماعي بالحديث الذي لم ينقطع عن الطفل -اللاجئ المُشرّد- تاني أديومي(14) طالب الصف الثالث باعتباره واحداً من أحدث وأصغر أبطال الشطرنج. أديومي الطفل الذي هرب وعائلته من شمال نيجيريا خوفاً من هجمات جماعة بوكو حرام الإرهابية في عام 2017، حيث يقول مدرّب أديومي في مدرسته الابتدائية: “لقد كان يعيش بلا مأوى، فأن تنتقل من مرحلة اللا لعب وعدم الممارسة على الإطلاق، إلى مرحلة التغلّب على أفضل الأفضل في عامٍ واحد، هذا ما لم يسمع به أحد من قبل”. وهذا ما يُفسح المجال لذكر ما قدّمه كريستوفر تشابليس ومارك غليكمان مؤخراً في دراسة أُجريت على 600 لاعب شطرنج ناشئ -من كلا الجنسين- تُشير -الدراسة- إلى أنّ المعدلات متساوية بين البنين والبنات من حيث المهارة، ووجدت دراستهم أيضاً أنّ كِلا الجنسين يتحسّن بوتيرة مطابقة.(15)
لذا، لماذا نجد عدداً قليلاً من سيدات الشطرنج؟ لماذا نجد امرأتين فقط من أصل أهم 100 لاعب شطرنج في العالم؟
الحقيقة أن السبب الرئيسي لا يرتبط بالمهارات الذهنية، ولا بالأبعاد الثقافية، ولا حتى يرقى للمشاكل الاقتصادية أو المهنية، الأمر ببساطة هو أن عدد النساء اللواتي يلعبن الشطرنج قليل. نقص مشاركة النساء يتماشى تماماً مع قلّة بروزهنّ في البطولات والمنافسات، إضافةً إلى غياب عامل التشجيع منذ الصغر الذي لا يرى في لعبة الشطرنج مكاناً لائقاً بتفكير الأنثى، وهو ما يدفع الأنثى لتغييب حماسها للانضمام لهذه الصفوف واتباع ما هو سائد، وما تعتقد بأنه يليق أكثر بها.
المصادر
1- أماكن ممنوعة على النساء
2- جزيرة محظورة على النساء.. صور
3- Women banned from remote island in Japan
4- Men-only island set for UNESCO World Heritage status
5- الشطرنج.. يمارسها السياسيون العظماء والأدباء المشهورين
6- أبرزهم صلاح الدين الأيوبي.. “الشطرنج”.. لعبة-عشقها كبار الأمراء والشعراء
7- The Real Reason So Few Women Play Professional Chess
8- Chess Bitch: Women in the Ultimate Intellectual Sport
9- The Real Reason So Few Women Play Professional Chess
10- Where’s Bobbi Fischer?
11- بطولة العالم للشطرنج مثيرة، لكن أين النساء
12- Where’s Bobbi Fischer?
13- What we can learn from female chess prodigies
14- year-old homeless refugee takes chess world by storm:-“It’s-deep thinking”
15- Why are there so few female chess grandmasters?
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.