أنسنة التاريخ .. قراءة في رواية (ليس للحرب وجهٌ أنثوي)
سفيتلانا أليكسييفيتش: ليس للحرب وجه أنثوي

أنجيل الشاعر/suwar-magazine- “…. أحاول أن أفهم بمَ يختلف الموت عن القتل، وما هو الحدّ بين الإنساني واللاإنساني؟ كيف يمكن للإنسان أن يبقى مع هذه الفكرة المجنونة، بأن يقتل إنساناً آخر؟ بل عليه أن يقتله”. أسئلة كثيرة عن الحرب والقتل والدمار؛ تطرحها رواية “ليس للحرب وجهٌ أنثوي” للكاتبة البيلاروسية “سفيتلانا ألكسييفيتش“، ترجمها عن الروسية الدكتور “نزار عيون السود”، وصدرت ترجمتها عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2016.

لم يكن الكتاب مجرد رواية؛ يسرح فيها خيال الكاتبة لينسج أفكاراً غريبة، إنما هو قصص حقيقية لشخصياتٍ نسائية حقيقية أيضاً، عايشتِ الحرب العالمية الثانية مجنّداتٍ ومتطوعاتٍ في الجيش السوفييتي، وشاركتْ فيها، متورطات في ذلك من أجل حماية أنفسهن وامتثالاً للشعارات الزائفة التي كان يطلقها الشيوعيون.

نساءٌ يروين تجاربهنَّ في الحرب بلغةٍ أنثويةٍ بسيطةٍ وجميلة، يتذكَّرن كيف تخلّين عن أنوثتهن، وانخرطن في أجواءٍ ليست لهنّ، أجواء ذكورية وحسب.

تتحدث الرواية عن مشاركة المرأة السوفيتية في الحرب دفاعاً عن الوطن في وجه الغزو النازي، وكيف كانت الفتيات والنساء يتَّجهن للدفاع عن الأرض السوفيتية بشراسة؟

لم تكن النساء مرغمات على الانخراط في الحرب، إنما كنّ متورطات؛ ورَّطَتْهنّ القوى الثورية آنذاك، كالمقاومة والأنصار والحزب الشيوعي، بشعاراتها الوطنية المبهرة، استغلّها “ستالين” أبشع استغلال في مواجهة الجيش الألماني.

تقول الكاتبة في مقدّمة روايتها على لسان المؤرخ السوفيتي “نيقولاي كارامزين”: “كان يحارب في الجيش السوفييتي نحو مليون امرأة، وكنّ يتقنّ جميع الاختصاصات العسكرية، بما فيها تلك التي تتطلب قوة الرجال، حتى أنه ظهرت مشكلة لغوية: كان لا بدّ من اسمٍ مؤنث لكلمات مثل: “عنصر دبابات” و”عنصر مشاة” و”عنصر رشاشات”، حيث لم يكن هناك صفة أنثوية لها؛ لأن المرأة لم تكن تمارس سابقاً هذه الاختصاصات، وقد ظهرت الأسماء الأنثوية لها أثناء الحرب”.

“أمرٌ غريب، (تقول الكاتبة)، المهنُ الحربيةُ لهؤلاء النسوة: مرشدة صحية، قناصة، رامية رشاش، قائدة سلاح مضاد للطائرات، خبيرة ألغام …، وهنّ الآن: محاسبات، مخبريات، دليلات سياحيات، مدرّسات …، بل فتيات أخريات. إنهنّ يشعرن بالذهول من أنفسهن. على مرأى مني يتأنْسَن التاريخ، يغدو شبيهاً بالحياة العادية، وتظهر إضاءة أخرى”. أجل إنّ المنظور الأنثوي للحرب وويلاتها ونتائجها هو نوعٌ من أنسنة التاريخ.

الرجال، معظم الرجال، يتركون إنسانيتهم في بيوتهم ويذهبون إلى الحرب، ثم ينسَونها بعد عودتهم من الحرب لانشغالهم بالاستعداد لحربٍ جديدة، النساء لا يستطعْن ذلك، يأخذْن إنسانيّتهنّ معهنّ إلى الحرب، فتكتوي بنارها كما يكتوين، وتتعذب بويلاتها كما يتعذَّبْن، ثم يداوين جراحها بعد أن يعُدْن من الحرب.

في موقف المرأة من الحرب، يتأكد قول القائل: المرأة، (برمزيتها الإنسانية)، هي مستقبل البشرية. الحرب تشطر الرجل شطرين: الإنسان والمحارب، الإنسان والوحش، الإنسان المتمدن والإنسان البدائي، الذي إذا ما أراد أن يقطف ثمرة يقطع الشجرة. والشجرة رمز الأنوثة.

المرأة لا تنشطر، لأنها تحتفظ بإنسانيتها، وتطهِّرُها بالألم والنفور من القتل والتدمير. ففي حين يتباهى الرجال ببطولاتهم، تبكي النساء من تلك البطولات الزائفة.

الرواية بيان ضدّ الحرب والقتال والبطولات الزائفة، وضدّ الجنرالات والقادة، تتمحور حول الإنسان والإنسانية التي أتلفها الإنسان ذاته بأنانيته وجشعه وعدوانيته، وبما صنعه عقله ويداه؛ ففي القتال يغيب الحق، وتغيب العدالة الإنسانية؛ كلّ طرف يحسب نفسه قابضاً على الحقيقة، يضع الانتصار فقط أمام عينيه، ولا يأبه لحياة البشر، فيصبح المقاتل أسطورةً تاريخية مطلقة تلغي الجوانب الإنسانية والمشاعر والأحاسيس، لا بل تبتزّها لتصبح مصدر فخر للآخرين.

في الحرب لا وجود لحكم العقل أو المنطق، السلاح هو من يتحكّم بحياة الآخرين والأخريات، الحرب تزدري الحياة  والعدالة، عشر سنوات والحرب تزدري حياة السوريين والسوريات، تقنص أفراحهم وترقص على أحزانهم.

من يقرأ هذه الرواية لا يمكن له إلاّ أن يتخيل النساء السوريات اللواتي أنهكت أوصالَهنّ الحرب، لا أحد يعرف كيف كانت حياتهن؛ سواء بفقد الأزواج والأخوة والأولاد والأقارب والأصدقاء والأحباب .. أو بتجنيد أنفسهن في صفوف المقاتلين. في الشمال السوري، تُجنَد النساء كما يُجنَّد الرجال، يحرمن أنفسهنّ من أبسط حقوق الحياة كالحبّ والزواج، يتدرّبن على أعنف فنون القتال وأكثرها شراسة، أجبرتهنّ الحرب على القيام بتلك الأفعال التي لا تتناقض مع أنوثتهن فحسب، بل تتناقض مع الإنسانية، ومع الحق الطبيعي في الحياة.

تقول الكاتبة على لسان إحدى المشاركات في الحرب: “كنتُ في سنّ السادسة عشرة من عمري يوم أصِبتُ في المعركة، فنصحني الطبيب أن أتزوج وأنجب أكبر عددٍ ممكن من الأطفال، فمع كل ولادة سيتجدّد جسمي وينمو” (ص 199 بتصرف)، لم يستطع الطبيب أن يقول لتلك الفتاة ـن تترك الحرب كي تعيش، قد يُقتل على نصحه لها، فالأنظمة الديكتاتورية هي من تتحكم بحياة الشعوب، فما أشبه الأمس باليوم، كم فتاةً سورية في السادسة عشرة من عمرها أصيبت وهي تحمل السلاح، ولا أحد يعلم عن المقاتلات شيئاً، كلّ ما نعرفه هو حرب الرجال على الرجال، استشهاد رجل هنا، وعند الطرف الآخر من لعبة الحرب هو جيفة لا تستحق الدفن في تراب الوطن، فأي وطن هذا الذي يبتلع أبناءه؟! وأي شعار وطنيّ تطلقه الحرب؟

تقول الكاتبة: لم نعرف العالم بدون حرب، كان عالم الحرب هو العالم الوحيد المعروف لنا، أما أناس الحرب فهم الوحيدون الذين نعرفهم، وأنا حتى الآن لا أعرف عالماً آخر ولا أناساً آخرين .. فنحن طيلة أوقاتنا إما نحارب وإما نستعد للحرب”.

ونحن كذلك في سوريا، منذ عشرينيات القرن الماضي، حسب ذاكرتنا القصيرة أو تاريخنا الحديث، إلى اليوم، إمّا في حرب مع الاستعمار الفرنسي ثم مع إسرائيل، أو  في حرب على لبنانيين وفلسطينيين، أو على الأردن أو العراق، وإما في حالة طوارئ واستعدادٍ للحرب على إسرائيل وعلى الإمبريالية. وللحرب الكلامية المفتوحة مفاعيلها في حياة المجتمع، وآثارها في تشكيل الوعي وتوجيه العواطف.

الحرب وحالة الطوارئ والاستعداد للحرب كلُّها تقتضي حرباً على المجتمع، لا بتوجيه الموارد الوطنية للمجهود الحربي وحرمان المجتمع منها فقط، بل بكمّ الأفواه ومصادرة الحريات، والإجهاز على المعارضة السياسية، فتصير الحرب مصدراً من مصادر المشروعية لسلطات مستبدة وفاسدة.

القصص والأحاديث النسائية عن الحرب مغايرة تماماً لقصص الرجال. لحرب النساء ألوانها الخاصة، وروائحها الخاصة، وأضواؤها الخاصة، ومساحات مشاعرها المميزة، وكلماتها الخاصة. إنها تخلو من الأبطال والمآثر القتالية التي لا تُصدَّق. وفيها لا يشعر الناس وحدهم بالألم والمعاناة، بل كذلك الأرض والطيور والأشجار، وكل من يعيش معنا على هذا الكوكب؛ إنهم يتألمون بصمت، وهذا أشدّ وأرهب”.

تحمل الحرب اسماً أنثوياً وحسب؛ لكنها لا ترتدي وجه الأنثى، ولا تتصف بصفاتها. الأنوثة مطابقة للإنسانية، فجميع نساء الرواية تنكّرن لأنفسهن كمقاتلات، ومنهنّ من رفضت أن تقصّ على الكاتبة حكايتها هرباً من عار القتل والدمار الذي ألحقنه بالإنسانية عن غير وعي ومعرفة.

“الإنسان أكبر من الحرب” هو عنوان مقدمة الرواية: “سألني ابن الجيران ذات يوم: ماذا يفعل الناس تحت الأرض؟ وكيف يعيشون هناك؟”، “آنذاك فكَّرْتُ في الموت… ولم أتوقف عن التفكير فيه، فقد أصبح الموت سرَّ الحياة الرئيس”، لم تقصد الكاتبة الموت الطبيعي، إنما الموت في الحروب التي تتغنى بها الشعوب المنتصرة في الأفراح والأحزان والموالد والتعميد، فالمنتصرون هم من يكتبون التاريخ، وأصحاب السلطة والتسلط هم المنتصرون على أشلاء القتلى وجراح الجرحى، فمن ليس لحياته معنى؛ لم يكن لموته معنى، فهل يجب أن يموت الإنسان من أجل قضيةٍ؟ أم أنّ عليه أن يحيا ليحقق أهداف القضية؟

مؤلمةٌ وجوه النساء التي جعلتنا الكاتبة نراها من خلال السطور المؤلمة، ومؤلمةٌ جميع الحروب التي تفتك بالإنسان والإنسانية، وبقدر ما هي لغة الرواية الأنثوية جميلة بقدر ما هي موجعة.

ليس للحرب وجه أنثويّ رواية تؤنسن التاريخ، وتعيد التفكير في التضحية الوهمية التي أدخلتها الأيديولوجيا في الوعي الجمعي لسائر المجتمعات، وتعيد للإنسان كرامته الإنسانية.

الرقابة السوفيتية التي تدّعي الحرية والديمقراطية؛ منعت دور النشر من طباعة الرواية، خوفاً من أنسنة التاريخ المصبوغ بالدم.

سفيتلانا أليكسييفيتش: ليس للحرب وجه أنثوي

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015