“الدّوارَة” للنساء والذبح للرجال: عن التقسيم الجندري يوم عيد الإضحى
مواقع التواصل الاجتماعي في يوم عيد الأضحى

رحاب الخترشي/ تونس/ ميم- “من لاتعرف تنظيف الدّوارَة (أمعاء الخروف) فزاوجها بإبن الناس خسارة”، و”من لا يقدر على الذبيحة  فزواجه بإبنة الناس فضيحة”.. أمثالٌ يردّدها التونسيون والتونسيات كلّ عامٍ ويتناقلونها على مواقع التواصل في يوم عيد الإضحى، فيسخرون ويتهكّمون على من لا يتقن القيام بهذه المهام التي يعدّونها هامة، نساءً ورجالاً …

وأمام هذه التعبيرات الاجتماعية التي تبدو عادية للوهلة الأولى، نلاحظ لو دقّقنا النظر أن يوم العيد هو يومٌ مميز يستدعي التقصّي السوسيولوجي. ففيه تطفو على السطح سلوكات وممارسات اجتماعية ذات عمق رمزي جديرة بالإهتمام، من ضمنها أفعال تبيّن بوضوحٍ العلاقة بين الرجل والمرأة القائمة على أساس الأدوار الجندرية.

الأدوار الجندرية يوم العيد

مع بداية شروق الشمس يوم العيد، تشرع النساء في إعداد الخبز والسلطة وكلّ ما يخصّ شؤون المطبخ وترتيب المنزل، فيما يذهب الأب لشحذ سكين الذبح، وقد يقوم بهذه العملية قبل يومٍ أو يومين من يوم العيد، ثم يعمد إلى ذبح الخروف وسلخه وحده أو بمساعدة أحد أبنائه الذكور أو جيرانه، ويشرع في تقطيع أجزاءٍ من اللحم وتبدأ حفلة الشواء التي قد يتشارك فيها كل أفراد العائلة..

بعد هذه المراحل، تسارع العديد من الفتيات إلى نشر صورٍ لها على صفحتها في الفيسبوك وهي بصدد تنظيف الأمعاء أو قد تَعرض صورةً لـ“طبق العصبان” الذي أعدّته من هذه الأمعاء، وهو طبقٌ تونسي صعب التحضير، يُعتبر معياراً لاختبار مدى كفاءة المرأة في الطبخ، حتى أن بعض الحماوات يطلبن من خطيبات أبنائهن إعداد هذا الطبق لمعرفة مدى إجادتهنّ لفن الطبخ التونسي.

في المقابل، يقوم الشباب بنشر صورهم وهو يمسكون سكيناً وفي الخلفية ترى كبشاً مذبوحاً أو في مرحلة السلخ.

ويثير استعراض هذه الصور موجة من التعليقات على مواقع التواصل الإجتماعي، بين ممجّدٍ للنساء والرجال المحافظين على العادات والتقاليد، وساخرٍ ممن يتهيّب من ذبح الخروف ورؤية الدم، أو من تتقزّز من غسل الأمعاء وتنقيتها من محتوياتها.

أما الخارج عن هذه الأدوار الاجتماعية، حسب نوعه (ذكراً أو أنثى) فيصنّف خارح السرب والمجموعة، ويُنظَر إليه كفردٍ غير كفؤ لتقلّد دور الأب وخلافته، أو تبوؤ مكانة الأم. وفعل الذبح في نظر المرأة هو رمزٌ لقوّة الرجل وبأسه، وإذا ما فشل في دوره هذا فإنه لا يصلح زوجاً. وكذلك يفعل الرجل فيقيس مقدار نجاعة المرأة كزوجة، عبر اتقانها لشؤون المطبخ.

في هذا الإطار، نسوق تعريف “جوني موني ” للأدوار الاجتماعية المُحدِّدة لكلّ نوع أو الأدوار الجندرية Gender Roles، على أساس أنها مجموعة من القواعد المجتمعية التي تحدّد السلوكيات والقيم التي يراها المجتمع  الأصح والأنسب للأفراد، بناءً على جنسهم (رجلاً أو امرأة)، وتُبنى عليها توقّعات معيّنة وتقييمات محدّدة للأفراد الذين يمتثلون أو يرفضون هذه القوالب والقواعد المجتمعية.

كذلك تساهم التنشئة الإجتماعية في تعليم الفرد عن طريق التفاعل الإجتماعي، أدواره الإجتماعية، والمعايير والقيم، وتكسبه الإتجاهات وأنماط السلوك التي يوافق عليها المجتمع، ”وهي عملية مستمرة تبدأ بالحياة، ولا تنتهي الا بإنتهائها ..”. ويتميّز الدور الاجتماعي الذي تساهم التنشئة الاجتماعية في تحديده بتصنيف الأشخاص حسب تنميطهم الجندري، وهويتهم الجندرية، مثال: النساء للطعام وتنظيف البيت، والذكور لإصلاح السيارات. وبالتالي، فإن الخروج عن هذا الدور لن يلاقيه سوى الرفض من المجتمع.

هذا التنميط الجندري الذي يعيشه الاطفال منذ سن مبكرة يؤثّر على حياتهم لاحقاً، اذ يشكّل قوالب جاهزة في ذهن الذكر و والأنثى حول الصورة المقبولة اجتماعياً لكليهما. وقد تتسبب هذه الصورة في خلافاتٍ، نذكر منها مثلاً تطليق رجل تونسي لزوجته لأنها لم تتقن إعداد الطبق الذي يحبّه يوم العيد.

بين طلاّقة  النساء  وشهود ذبح الكبش

تقوم  الفتيات الصغيرات بتزيين كبش العيد بالشرائط والحناء، ويأخذ الفتى الكبش لممارسة ما يُعرَف بـ “تنطيح الأكباش” في بطحاء الحي، ويصبح هذا الكبش صديقه المُقَرّب، وبطلاً في عينيه، لا سيما إذا ما فاز في إحدى هذه المصارعات.

نأتي ليوم العيد الذي قد يكون صادماً للولد، فبعد الصداقة التي نشأت بينه وبين حيوانه المُدلّل، يرغم الأب ابنه، وإن كان في سن صغيرة، على مساعدته في ذبح الكبش؛ ليُعَلّمه أمرين هامين: أولاً أنه خليفته في دور الذبح، وثانياً أنه يجب أن لا يخاف من رؤية الدم وأن يكون صارماً ويتجنب الانسياق وراء العاطفة.

مواقع التواصل الاجتماعي في يوم عيد الأضحى

مواقع التواصل الاجتماعي في يوم عيد الأضحى

أما الطفلة الصغيرة فبعد أن تقتني لها والدتها أواني للطبخ بحجمٍ صغيرٍ ملائمٍ لها، تشرع في تعليمها طبخ “الزغديدة” وهي من أطباق عيد الإضحى بإمكان الفتيات الصغيرات تحضيرها بمساعدة الأم لسهولة إعدادها.. كما تشاهد الفتاة والدتها بصدّد تنظيف أمعاء الكبش بغية إعداد “العصبان”؛ حتى تتعلّم الطريقة السليمة لذلك.

وفي الأثناء، تخبر الوالدة إبنتها أنّ من اسماء هذه الأمعاء الدارجة منذ القدم “طلاّقة النساء”، ويحمل هذا الإسم في طياته رسالةً واضحة مردّها أن عدم إجادة المرأة لهذه العملية يجعل الزوج لا يتردّد في تطليقها..

ويروي البعض أنّ هذه القصة مبنيةٌ على أحداثٍ حقيقية لرجالٍ طلّقوا نساءهم لعدم إجادتهنّ تنظيفها …

وتجدر الإشارة بأن هذا التنميط الجندري للأطفال لا يتعلّق بيوم عيد الأضحى في حدّ ذاته، رغم أنه يظهر كيومٍ مميّزٍ للتقسيم الجندري، وإنما تبدأ منذ سن مبكرة وتمتد على مدى الحياة. ويتعزّز التنميط الجندري بمؤثراتٍ أخرى كالإعلام و المدرسة …

في يوم العيد يحرص الأهل على مشاعر البنت وقد تمضي يوماً ممتعاً رفقة صديقاتها، فتكون أقلّ عرضةً للاهتزازات والصدمات العاطفبة، مُحاطةً بمشاعر العطف والرعاية والحاجة للاهتمام بشؤون المنزل، بعيداً عن عالم القسوة والعنف.

وفي المقابل، إذا ماخاف الولد من عملية الذبح يُنظَرُ إلى ذلك كضعفٍ غير مقبول …

لكنّ الفتاة ما تفتأ أن تُواجِه أولى صدماتها النفسية في سن المراهقة عند تفاعلها مع شخصية الذكر المراهق التي تبدو أكثر صلابةً وأقلّ عاطفية.

طقوس الآباء والأمهات

في تونس، ترافق العيد طقوسٌ تتعلّق بالمعتقدات الشعبية التي تختصّ بها النساء، وتفسّر نظرة المرأة لعالمها، كما تقدّم لنا لمحةً عن سبب انشغال كلّ جيلٍ جديد من البنات بمواضيع الماوارئيات، والحسد الخ …

ومن ضمن هذه الطقوس نجد: تعليق (مرارة الكبش) اعتقاداً من المرأة بأنّ المرّارة الممتلئة رمزٌ لموسم الخصب، ونثر الملح على دماء الأضحية لإبعاد السوء ومسّ الجنّ والشيطان عمّن يمرّ بجواره … وتعمد الزوجة لإلقاء أولى قطرات الدم في آنيةٍ تحتفظ بها إلى أن تجف، ثم يتم تبخير الأطفال الصغار ببعضٍ منه، لإبعاد العين الشريرة والسحر.. فيما تقوم بعض النسوة بغمس أيديهنّ بالدماء وطلائها على جدران البيت، لإبعاد عين الحسد ..

كما يتجسّد اهتمام الرجال بالفحولة والقوّة الجنسية في عادةٍ قديمة تقوم على أكل (خصيتي الكبش) لاعتقادهم بأنّ من شأن ذلك تحسين القدرة الجنسية وتقويتها، رغم غياب أيّ إثباتٍ علمي على ذلك.. ونلاحظ أنّ الكثير من الرجال يعمدون إلى تصوير أنفسهم ممسكين بالخصيتن ونشر الصور على مواقع التواصل الاجتماعي..

يبرز نمط المرأة المرتبطة بالروحانيات الخائفة من الحسد يوم العيد، فيما تتجلّى صورة الرجل المهووس بفكرة أهمية القوّة الجنسية وتبدو كثيفة الدلالات والمعاني.. وتترسّخ هذه في ذهنية الأطفال ويسارعون إلى تقليدها بطريقةٍ أو بأخرى.

يفترض عالم النفس الإجتماعي “ألبرت باندورا” أنّ الأطفال يقلّدون سلوك الآخرين، وأنّ الأولاد يتعلّمون كيف يتصرّفون كأولادٍ من ملاحظة وتقليد السلوك المُذَكّر خصوصاً من آبائهم، فيما تتعلّم البنات تقليد الإناث من أمهاتهنّ.

إنّ صورة الرجل الذكوري والعنيف ومفتول العضلات (macho man) وصورة المرأة الرقيقة، راعية شؤون المنزل، من أكثر الصور الجندرية المُهَيمِنة على عالم الأطفال في مختلف الثقافات. ولا تتمرّر هذه الصورة فقط عبر الأسرة أثناء ممارستها لعاداتها وتقاليدها في الأيام العادية أو في مواسم الأعياد، ولكن أيضاً عبر وكالات التنشئة الإجتماعية كالمدرسة والإعلام.

ولكن رغم التنميط الحاصل فإنّ نمط الرجال الذي استعرضنا أبعاداً منه، يجد نفسه مرتبكاً في عصرنا الحاضر وغير قادرٍ على المواءمة بين توقّعات المجتمع المُتَوَارَثة ومتغيّرات الواقع.

والشيء ذاته ينطبق على النساء اللواتي بتن يخرجن للدراسة وسوق العمل، وتحظى المثيرات منهنّ بمكانةٍ اجتماعية مهمة خارج أسوار البيت. لكن في الآن نفسه يُفتَرَض بهنّ تجسيد الشخصية الأنثوية الرقيقة المُجِيدة للطبخ وإدارة شؤون البيت والمهتمّة بمواضيع الجمال والذوق، وهو ما يخلق صعوبةً كبرى في قدرة المرأة على المواءمة بين هذه الأبعاد المتنافرة أحياناً في ظلّ مجتمعٍ يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم.

كل هذا يفرز توترات في شخصية كليهما، تتجسّد في سلوكياتٍ انفعالية وأحياناً عدوانية، ورغبةٍ حادّة في إثبات الذّات، وشعورٍ بالضياع وقلقٍ مردّه العجز عن التوفيق بين متطلّبات العالم التقليدي وتطلّعات الذكورة والأنوثة وبين معطيات الواقع وتقلّباته. 

مصادر 

تحضيرات عيد الاضحى: عادات وتقاليد العائلات التونسيّة بمناسبة عيد الأضحى – إيمان غال

أدوار  النوع الإجتماعي : ويكي جندر

الأدوار الجندرية وأثرها في التنشئة الإجتماعية -الدكتور نبيل الحاج

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015