الرمزية المقدّسة والدور الاجتماعي
الرمزية المقدسة والدور الاجتماعي

سلوى زكزك/ swnsyria- تعصف الذاكرة بأعصاب السيدات، تتغضن الوجوه، تختلط الابتسامات الذابلة بالدموع أو بالصمت العميق. مجموعةٌ من السيدات من بيئة ريفية، وجّهت لهنّ سؤالاً واحداً: “ماذا تعني الأم بالنسبة لك، كيف تعرّفين أمك؟”.

كان التذمّر حالة شبه عامة، على البنات أن يكنّ أمهات موازيات وعليهنّ تربية الأخوة والأخوات ورعاية الجدّات والعمّات ورجال العائلة وشبابها، كان مطلوباً منهنّ الرعاية في منزل العائلة كلها، أما الدراسة واللعب فكانتا من المحرَّمات.

قالت أنجيل: “تتكفل أمي بإيقاظي بصوتٍ واحدٍ وعالٍ وتخرج لتحلب البقرة، أنهض رغماً عني، يداي متيبستان من البرد وعيناي لا تميّزان وجهتي، أهرع إلى المطبخ، أضع إبريق الشاي على الغاز وأضع الخبز وما تيسّر من مواد للإفطار على الطاولة وأندفع لإيقاظ أخوتي واحداً واحداً، كنتُ مضطرةً لإيقاظهم أكثر من مرة، لكن رغبتي الوحيدة هي أن أنام بينهم وأنسى الواجبات الثقيلة الملحقة بي”.

تقول نهاد: “حتى في الصور، مازال منظر عبوات المياه والجرار التي يتغنّون بها وكأنها جزء فني وتراثي، مازال يوقظ التعب والوخزان الكاوي في رقبتي وعمودي الفقري الغض، كنّا مضطرات لتعبئة الماء من النبع البعيد، نتزحلق مرات ويندلق الماء مرات هباءً على الأرض، مما يجبرنا على ملء الراوي والقدور من جديد”.

أما نهلة فتكرّر دوماً وبغضب مشتعل: “كنتُ أشعرُ أنني بلا أم وبلا أب، وبأنني أم الجميع، حتى أنني كنت أماً لجدتي التي تسكن معنا في غرفة خاصة، لكن كان يتوجّب عليّ كلّ مساء غسيل قدميها بالماء الساخن وتجفيفهما قبل نومها، كان علي فتّ الخبز بالحليب الفاتر الذي تُشترط درجة حرارة معيّنة له، لتأكله كإفطار صباحي وكعشاء، وكان عليّ قصّ أظافر يديها وغسل وجهها ويديها وهي في سريرها فوق وعاء من الألمنيوم”.

تتذكّر منتهى الساعات الطوال أمام الغسالة اليدوية التي كان امتلاكها ميزةً كبيرة وحظوةً لصاحباتها، وخاصةً عندما تلد أمها وعليها وحدها عبء غسل أكوام الملابس والمتاع لعائلة كبيرة، تذكرها لدرجة أن صوت دوران محركها ما زال عالقاً في رأسها ويسبب لها “الألم الكبير”.

تضحك النساء الأربعة موضوع العيّنة التي سألتُها عندما قلت لهنّ: هل كانت أمهاتكنّ ملاككنّ الحارس، أو نبع الحنان؟

ردّدن معاً: “فاقدة الشيء لا تُعطيه، أمهاتنا كنّ قساة جداً ومرهَقَات وينقلن دائرة القهر إلينا”.

إحداهنّ قالت: “كنا نسمّي أمي برئيس المخفر”. وأخرى قالت: “كنا نسمّيها (ستي عدلة) المشهورة بكل القرية بقسوتها وسلاطة لسانها”.

يتماهى الدور الاجتماعي المُلصق بالبنات ليكنّ أمهات منذ ساعة ولادتهنّ، بأشكال متنوعة وقهرية من الواجبات، البنت الأكبر تخرج من المدرسة لتساعد الأم في إدارة المنزل والعائلة، البنت تطلب من أخوتها الذكور المغادرة إلى خارج المنزل ليلعبوا، وتنهمك في أداء تنظيف المنزل وكأنه وظيفتها الحصرية، كما أنها المرافقة الوحيدة للأم حين تذهب إلى المشفى مع أن ثمّة ذكور أكبر وأكثر قوة.

تتكرّر الصورة الآن، بفارقٍ بسيط وهو أنّي غير مضطرة لسؤال الطفلات عن تعريفهنّ لأمهاتهنّ، يسيل الكلام صادقاً وعنيفاً، تقول آية: “أمي تُجبرني على شطف درج البناية كلها هرباً من وصف جدّتي لها بالكسل، أمي لا تحبّ الشطف أبداً. والبناء ملك عائلتنا وتعيش فيه عشر عائلات وجدّتي مصرّةٌ على شطف أدراجها كلّ يوم، في البداية طلبت مني أمي مساعدتها بالشطف، لكنها لاحقاً تركت المهمة ملقاةٍ حصرياً على كاهلي، حتى ابن عمي الأصغر بات يقول لي ساخراً: (الدرج وسخ يا آية).

على شارة مرور في حي أبو رمانة، تضرب متسولة ابنتها لأنها تركت أختها تزحف نحو الشارع، تضربها بعنف والابنتان تضمان بعضيهما وتبكيان. وفي الشعلان، تدفع أم ابنتها للتقرب لدرجة الالتصاق من أحد المارة لتطلب منه مبلغاً مالياً قيمة عشاء لها ولأخوتها، لم تفلح المتسولة الصغيرة بالحصول على أي مبلغ من الرجل العابر، فتحرمها أمها من الطعام.”

وفي الدروب والشوارع والحدائق تتسوّل النساء من أجل الحريمات! أي أنهنّ يُدخِلن بُعد السترة للحصول على النقود، لا يقُلن من أجل بناتها الصغيرات الضعيفات، أو ارحموا أمّ طفلاتٍ جائعات أو مريضات أو غارقات في البرد والنعاس، يُخاطبن الناس بدافع العرض والغيرة على شرف الحريمات، وكأنّ العرض هو مجرّد الحماية من الاغتصاب، وكأنّ الجوع ليس امتهاناً ولا المرض ولا غياب المأوى، وكأنّ البنات إذا ما جعن فلا خيار أمامهنّ سوى بيع الأجساد لأول عابر سبيل أو منتَهِك.

أسأل الطفلة المتسوّلة ديبة: “هل تحبّين أمك؟”، تقول: “لا أعرفُها”، وتُردف: “كلّ الأمهات متوحّشات”، وتُريني علامة عضّة على يدها الصغيرة، هذه عضّة زوجة أبي، كلما ضربها أبي تعضّنا أنا وابنتيها”.

أسألُها: “هل ترغبين بأن تصبحي أمّاً؟”، تقول: “إذا عشت!”.

في بيوتٍ دافئة ومحصّنة تُمارس البنات غواية إرضاء الأمهات، يتهمن الأخوة الذكور بغياب العاطفة، يردّدن: (ما حدا بيحس بالأم غير البنت)، ويردّد المثل الشعبي عبارة: (يلي ما جاب بنات ما جاب حناين).

على الضفة الأخرى تشكو ابتسام مأساتها الكبرى، هي متقاعدة وتُعاني من أمراض مهنية كثيرة، لكنها مضطرة لاستقبال أحفادها الثلاثة كلّ يوم لعدم وجود حضانات في مركز عمل ابنتها وكنّتها في القطاع الخاص، ولتعذّر تأمين سيولة تغطي نفقة الحضانات الخاصة.

تقول ابتسام: “أشعر وكأن الأمومة قيداً خانقاً وتغييباً لحقّي في الراحة والخصوصية”.

تتفاقم المهام المطلوبة من النساء لتغدو حزاماً ضاغطاً، وتكره النساء أدوارهنّ الأمومية وتكرهها بناتهنّ أيضاً، كمن يسير في حلقة متسلسلة من الظلم والارتهان لمهام نمطية قاسية تجرف معها الحبّ والمساواة والشراكة.

ما بين تقديس الأمومة كعاطفة وغريزة من حقّ كلّ امرأة تسعى إليها، التمتّع بها وعيشها بالشكل المشتهى، وما بين تحوّلها إلى وظيفة اجتماعية شاقّة ومريرة ومورّثة للتمييز والحيف، تبدو القضية حقوقية أولاً وثقافية ثانياً، والأهم أنها بحاجة إلى إعادة تعريف وترتيب في جملة المهام والوظائف الاجتماعية المانحة وضعاً خاصاً للأمهات، والكابحة للمساواة في ظلّ كلّ هذا الحيف والتمييز وفقدان وتشوّش الهوية الاجتماعية.

الرمزية المقدسة والدور الاجتماعي

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015