العُذرية: أسطورة العِفّة الزائفة
Shumaila Islam

سارة زريق/ feministconsciousnessrevolution- أدّت التصوّرات الثقافية- الذكورية السائدة عن الشرف والعفة إلى الإعلاء من مفهوم العُذرية في العالم العربي، هذا المفهوم إرتبط بالمرأة حصراً دون الرجل، كما هو الحال مع الكثير من المفاهيم التعسفية.

تعرّف العذراء أو البتول في الأصل على أنها المرأة التي لم تُقِم علاقة جنسية سابقاً، وتُعرِّف الدكتورة والباحثة الأنثروبولوجية المهتمة بالدراسات الجندرية، سوسان جرجس العُذرية بمعناها البيولوجي بـ ”الحفاظ على غشاء البكارة الذي يعتبر واقعةً فريدة تميّز النساء واتصفت بها النساء حصراً عن كلّ الثدييات”، وتعرّفها اجتماعياً بمجموعة القيم مثل “الشرف والفضيلة والعفّة والالتزام والحياء والخجل”، مشيرةً إلى أنّ دمج البكارة والشرف يجعل من هذا الغشاء “رأسمالاً ذكوريّاً غالياً لايمكن أن يعوّض”.

وتعرّف مجموعة ويكي الجندر العُذرية بأنها: “حالة تُطلق على الشخص الذي لم يقم بأي علاقة جنسية؛ إلا أنه لا يوجد للمصطلح دلالة واحدة حيث يختلف تفسير معني علاقة جنسية. فيُعرّف البعض العُذرية أنها حالة تُطلق على الشخص الذي لم يقم بأي علاقة جنسية من أي نوع. ومع أنّ العُذرية هي حالة تصف كل من الرجل والمرأة، إلا أنها ثقافياً ودلالياً باللغة العربية مرتبطة بالمرأة فقط. وتضع العديد من المفاهيم الثقافية والدينية، قيمة وقدسية لهذه الحالة، وتحديداً لعُذرية الفتاة، مما جعلها ترتبط بمفاهيم مثل الشرف وخرافات حول طبيعة غشاء البكارة.”

وعلى هذا الحال كانت فكرة عُذرية الفتاة في بلادنا العربية ليست مجرد رفاهية، فالعُذرية لا تعني الشرف فحسب، وإنما ُتعتبر عُذرية المرأة قبل الزواج في كفّة وحياتها الأخرى في كفّة ثانية.

‏فالبكارة وغشاءها المختَلقان يعتبران مسألة حياة وموت للعديد من النساء في الثقافة العربية. حيث تلقَّن الفتاة منذ سنٍّ مبكرة جداً أن عُذريّتها ثمينة وأن العفة مهمّة، بل يتعدّى الأمر إلى أنْ تصبح شيئاً يُفاخَر به أمام العائلة والمجتمع، فنجد أنّ الكثير من المجتمعات لا تزال تصرّ على إجراء فحص العُذرية للفتاة قبل الزواج، وقد جرى تضخيم الطقوس التي تحتفي بهذا الغشاء، وبفضّه، بوصفه الدليل الوحيد على شرف المرأة، بل تعدّى الأمر ذلك إلى حصره في رؤية الدماء ليلة الزفاف، فطالما هناك دماء فالمرأة شريفة، وتفوز بصك البراءة الذي يمنحها الرجل إياه حتى وإن سبق لها ان اقامت علاقات جنسية. أما إذا غابت الدماء لأي سبب كان، فالمرأة ليست شريفة.

وهكذا تاريخياً ارتبطت العُذرية بالمرأة من دون الرجل؛ بزعم وجود دليل عليها، وهو غشاء البكارة، بينما ظلّ الرجل بمنأى عن مفهوم العُذرية؛ لغياب الدليل على عُذريته، وتواطأت جميع القوانين الدينية والسياسية والأعراف والتقاليد مع الرجل، فأباحت له تجريم المرأة وجواز طلاقها وحتى قتلها إذا لم تثبت عُذريتها.

تاريخ فوبيا العُذرية

كانت إحدى وسائل الرجل في إضطهاد المرأة وسلب حريتها وحقوقها، هي إبتكاره لأُسطورة “غشاء البكارة” الذي لا وجود له في الواقع وذلك للسيطرة على جسد المرأة ومن ثمّة تقييد كلّ تحركاتها ومراقبة كل تصرفاتها.

كانت البكارة للرجل مفتاح سطوة وقمع وتسيّد، ورغم إستمرار الإعتقاد عُرفياً بوجود غشاء كدليل طهارة للنساء، يؤكّد الطب الحديث بأن “غشاء البكارة” لا وجود له عند النساء، هذه الفكرة المختَلَقة على وجود غشاء يغطي فتحة العضو الأنثوي للفتاة من قِبل الرجل، لم تكن مجرد فكرة تسلّطية؛ بل كانت ولازالت اعتقاد دموي أدّى إلى فقدان أرواح الملايين من النساء البريئات عبر التاريخ البشري، ذنبهنّ الوحيد هو عدم حصول نزيف دموي ليلة الزفاف خلال أول ممارسة جنسية لهنّ.

منطق اجرامي يعكس سلطة الرجال والنظام الأبوي وسيادته القمعية المتمثّلة في فكرة العُذرية، فالنساء قد يُقتلن بدواعي الشرف حين يمارسن علاقة جنسية لأنهنّ بحسب السلطة الذكورية قد أزلن دليل عفّتهنّ، في حين أن شريكها “الرجل” بذات الفراش وذات الجريمة (كما تراها وتجرّمها الأنظمة الذكورية في مجتمعاتنا) لا تقربه رصاصات الغدر أو “سكاكين الغضب”، ويتفاخر ذات ” المتهم” بعلاقاته، ويظهر في المألوف الشعبي بطلاً خارقاً، قاهر لقلوب النساء، ولا تلاحقه وصمة العار، ولا أحد يلاحقه للثأر منه، والقانون يتواطؤ معه ويغضّ النظر عنه.

عمّق هذا التصوّر القمعي عن مفهوم الشرف وربطه بالمرأة وتبعيتها للرجل، وحرمانها لأبسط حقوق الملكية، ألا وهي ملكية الإنسان لجسده، فصارت المرأة لا تملك جسدها، بل سادت قطيعة بينها وبينه. فمنذ نعومة أظفارها تُحاصر بمجموعة من القوانين والأعراف التي تنمّي لديها التعامل مع جسدها وكأنه أمانة عندها، أو أنه جزء غريب عنها، وعليها صونه والحفاظ عليه إلى أن يأتي صاحبه ومالكه الذي يحقّ له فتح أقفاله، وكشف مكنوناته. أما الرجل، فظلّ بعيداً عن كلّ ذلك، وخاض تجربة اكتشاف جسده منذ نعومة أظفاره، وتعرّف على أسرار الجسد ورغائبه وأهوائه، بدون أن تحاصره القوانين والأعراف بهذا الهوس، ودون أن يُلحَق به العقاب أيّاً كان نوعه.

هوس العُذرية الموجّه حصراً للمراة كان ولايزال يدفع الكثير من الأولياء لتنبيه بناتهم من ممارسات رياضية “عنيفة” ومن ركوب الدراجات الهوائية على سبيل المثال؛ خشية “فقدان” العُذرية، وهذا الهوس ذاته دفع ببعض الفتيات لترميم غشاء البكارة لئلا يتحوّل يوم الزفاف إلى جريمة شرف.

هذا الهوس حضّ نوال السعداوي على أن تتساءل: “بدلاً من ترقيع غشاء البكارة في أجساد النساء، أليس من الأفضل تغيير مفهوم الشرف في عقول الرجال؟”

هوس العُذرية وجرائم الشرف

يرتبط العنف ضدّ المرأة بالتمييز والاحتقار لها، إذ تُستَهدَف المرأة بالعنف بوصفها أنثى لا بوصفها إنساناً أو مواطِنة، وتتعرّض للعنف على أساس أنها كائنٌ مؤذٍ، أو مصدر فتنة للرجال، أو تجلُب العار إذا لم تحافظ على شرفها الذي هو شرف الرجل، مالِكها.

من أجل هذا تُصنّف النساء اللاتي يمارسن الجنس خارج إطار الزواج في البلاد العربية، في درجةٍ أقل مجتمعياً، ويصبحن منبوذاتٍ من الجميع، وقد يصل الأمر إلى تعرّضهن للقتل في إطار ما يعرف بـ”جرائم الشرف”، لأنّ النظام الأبوي يتعامل مع المرأة على أنَّها جسدٌ فحسب، متاحٌ لرجال العائلة التصرّف به كيفما شاءُوا، فيلجؤون إلى القتل للحفاظ عليه.

هذه الاستباحة لدماء النساء تُقابل بتواطئ وتهاون سياسي وقانوني عبر تشريع الأحكام القضائيّة المخفّفة في بعض الدول العربية التي تتصدّر في مثل هذه الجرائم، والتي تأتي في كثير الأحيان متّسقةً تماماً مع منطق الأعذار المخفّفة، التي تمنح التبريرات الكافية للجاني.

تتكرّر كثيراً جرائم الشرف بسبب هوس العذرية في العالم العربي، ولا شيء يحدث، ومبعث هذه اللامبالاة المجتمعية ثقافيٌّ بالتأكيد، أي هو يرجع لكون هذه الظاهرة ذات جذور راسخة في الثقافة الذكورية التي تدين بها المجتمعات العربية. فهي وإن استنكرتها قليلاً أو استنكرتها ظاهراً؛ ثقافة تلك المجتمعات الذكورية، تشعر في أعماقها أنها جريمة مُبرّرة على نحوٍ ما، أي على نحوٍ لا يجعل منها جريمةً تُعادل جرائم القتل الأخرى التي تستحق الغضب الشعبي، كما تستحق أقسى عقوبات النظام!

جريمة الشرف التي تطال النساء في الأغلب الأعم (بعض الإحصائيات تصل بالنسبة النسائية إلى 53%)، تقوم على مبدأ “غسل العار”، من قبل ذوي قرابة المرأة. ففي المجتمعات الأبوية يرتبط شرف العائلة كلها بالسلوك الجنسي لأي امرأة تنتسب إليهم، وكلما كانت العلاقة أقرب؛ كان الشعور بالعار أشد؛ وبالتالي؛ واجب الأخذ بثأر الشرف ألزم. وفي الغالب لا يُشْترَط ـ عُرفاً ـ للشروع في الجريمة التأكّد من ممارسة المرأة فعلاً لعلاقة جنسية ، وإنما يكفي مجرد الشك والظنون لتقرير الإدانة وإرتكاب الجريمة -أحياناً بمباركة القانون-.

العُذرية وغشاء البكارة.. وهمٌ ثقافيّ أم حقيقة علمية

لإنهاء اللغط حول البكارة دعت منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة إلى حظر “اختبارِ العذرية”، مؤكّدةً أنّ لا أساس علمياً أو طبياً له وأنه “لا يوجد فحص يمكن أن يُثبت أنّ فتيات أو نساء كنّ يمارسن الجنس من قبل”، مؤكّدةً أن هذا الفحص ينتهك حقوق الإنسان والمرأة الأساسية، وينزع منها حقَّ التمتع بصحتها من دون أضرارٍ جسديةٍ ونفسية، لما يحمله الاختبارُ من “ألم وإهانة، وصدمة لها”، إذ من غير الأخلاقي أن يقوم الطبيب أو من ينوبه بإجراءَ اختبار العُذرية.

حسب منظمة الصحة العالمية أيضاً هناك أسباب عديدة لعدم حدوث النزيف عند الفتاة في ليلة الزفاف: “بعض الفتيات يولدنَ دون أن يكون لهنّ إكليل المهبل الذي يُسمى خطأً ب”غشاء البكارة”. كما أنّ إكليل المهبل المرن قد يتمدّد عند ممارسة الجنس دون أن يتمزّق. عدم إستعداد الفتاة لممارسة الجنس أو شعورها بالقلق أو جفاف إكليل المهبل قد يؤدّي الى النزيف و هذا ليس له علاقة بممارسة الجنس”.

ولأنّ موضوع العُذرية في المجتمعات العربية أكبر من مجرد سؤال شخصي بل موضوع قلق جماعي، بات أيضاً دخلاً مالياً للجهات الطبية، التي تقوم بالعشرات من عمليات ترميم “غشاء البكارة” بشكل يومي، وللمختبرات التي تبيع “غشاء بكارة” زائف مصمّم للنزف في اليوم الأول من الجماع الجنسي.

رغم أنّ الطب ومعه منظمة الصحة العالمية أكّدوا على عدم وجود شيئ إسمه “غشاء البكارة” فإنّ هناك أطباء دجّالون يدّعون بأنهم يقومون بعملية خياطة “غشاء البكارة” و يدّعون أيضاً بأنهم قادرون على تشخيص عُذرية الفتاة، أي فيما لو أنّ الفتاة لها “غشاء البكارة” أم لا. هؤلاء الأطباء الدجّالون يقومون بإستغلال العادات والتقاليد السائدة لخداع الناس و إبتزازهم مادياً بالإدعاء بتمكّنهم من خياطة “غشاء البكارة” أو معرفة  عُذرية الفتاة.

لماذا تستمر خرافة العُذرية بالانتشار؟

تستمر خرافة العُذرية في الإنتشار بسبب انعدام التثقيف الجنسي في أغلب دول العالم، وحول طبيعة العلاقة الجنسية وما يحدث خلالها من جهةٍ ثانية. وهي معلومات لا تتوفّر أيضاً بشكلٍ صحيح داخل الأسرة أو المجتمع أو غيرها من المؤسسات الأكاديمية والتعليمية الأخرى؛ بسبب تصنيفها كإحدى التابوهات الإجتماعية يمنع الاقتراب منه.

لابد أيضاً من الإشارة إلى أنّ وجود هذه الأسطورة يُستَغلُّ ثقافياً، إذ من شأنه أن يبثّ الخوف في صدور النساء وتقييد حريتهنّ الجسدية، وهذا يعمل على تشكيل رقابة ذاتية؛ يُريح وجودُها المحافظين من الأهالي.

كما أنّ الخوف لا يزال يلعب دوراً كبيراً في استمرار انتشار خرافة العُذرية، فقد ألقت تلك الأساطير والمعلومات الكاذبة التي تداولها الناس لسنين طويلة فوبيا وهوس حول جسم المرأة والعملية الجنسية في العقل الجمعيّ داخل الكثير من المجتمعات، هوسٌ ذكوري تحوّل إلى فوبيا نسائية، تخطّيها قد يكلّف الواحدة حياتها.

من أجل الحدّ من إنتشار هذا المفهوم المُغالط للشرف، فإنّ المجتمعات العربية بحاجة الى توعية للإطلاع على المعلومات الطبية حول ما يسمى جهلاً “غشاء البكارة” عند النساء. كما ينبغي على المؤسسات الصحية توعية الناس بنشر المعلومات الصحيحة عن طريق الندوات والمحاضرات ووسائل الإعلام.

المؤسسات التعليمية والثقافية تتحمّل أيضاً مسؤولية تدريس الحقائق العلمية التي تدحض خرافة العذرية ضمن المناهج الدراسية مع تغيير المصطلح الخاطئ “غشاء البكارة” الى “إكليل المهبل” المُستعمَل عالمياً. كما أنّه ينبغي على المؤسسة القضائية منع العيادات الطبية من تشريع ما يسمّى “رتق غشاء البكارة”؛ لما مافيه من إستغلال، وتجريم فحوصات العُذرية لما فيها من إنتهاك لكرامة النساء.

منظمات المجتمع المدني بشكل عام والمنظمات النسوية بشكل خاص؛ تتحمّل بدورها مسؤولية توعية المجتمع بكل الوسائل للإسهام في إنقاذ حياة عشرات الآلاف من الفتيات البريئات المعرّضات يومياً لخطر الموت، بسبب سطوة هذه الخرافة على الفكر الجمعي.

في الواقع عارٌ على الإنسانية أن تسمح بأن يستمر سنوياً موت المئات من النساء البريئات ضحايا خرافة “غشاء البكارة” بسبب إدّعاءٍ واهٍ يفنّده العلم الحديث.

Shumaila Islam

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015