المرأة السوريّة، الضحيّة الصامتة
لوحة تشكيلية للفنان السوري زهير حسيب

راتب شعبو/ مجلة “أصوات سورية”- تفتح الحروب، ولاسيّما المديدة منها، الباب أمام أنواعٍ من النكبات الشخصيّة التي يكون للنساء فيها النصيب الأكبر. أمام هول الحرب وما تنتجه من دمارٍ وموت، تبهت المآسي الشخصيّة وتبقى في دائرة الصمت العامّ. يتفرّغ الرجال للحرب، يموتون فيها ويختفون ويخسرون أو يرفعون إشارات النصر البائسة، فيما تترك الحياة اللاحربيّة جلّ ثقلها على النساء اللواتي يظهرن على ضوء هذا جيشًا للحياة، مقابل جيش الموت الذي يشكّله الرجال الحربيّون الذين يتقنون القتل ومحاصرة الحياة.

لا نتحدّث هنا عن الحرب العادلة أو غير العادلة، كما يدرج الكلام في السياسة، فللحروب منطقٌ عسكريٌّ واحد، ونتائجُ متشابهةٌ بصرف النظر عن تقييمها السياسيّ. وفي الغالب تدفع المرأة ثمنًا خفيًّا في الحرب بصرف النظر أيضًا عن وقوعها في هذا الطرف أو ذاك من الصراع. الاغتصاب والترمّل والعنوسة والانتظار اليائس للمفقودين والقيام بأعباء تغذية الحياة العائليّة في ظروف الحرب والخضوع لأنواع الابتزاز والعنف ومسّ الكرامة…إلخ، هذا ما يخطر في البال حين يفكّر المرء بوضع المرأة في حالات الحروب والصراعات العنيفة.

تقول سيّدةٌ سوريّةٌ مثقّفةٌ لا تزال تنتظر معرفة مصير زوجها منذ خمس سنوات: “ليتني أعرف مصيره لأعرف مصيري. أنا لست أرملةً ولا زوجة، أولادي ليسوا أيتامًا وليس لديهم أب. أشعر أنّني مفقودةٌ مثله، من الممكن أن يكون قد مات في معركةٍ ما أو في قبوٍ ما. أمّا أنا فمفقودةٌ في الحياة، مكبّلة بنظرات الآخرين وهمسهم. صرت أكره حتى تعاطفهم معي. أراهم يكذبون ويخفون سعادتهم لأنّهم ليسوا في وضعي. باتت في داخلي مساحةٌ واسعةٌ من الكره والنفور حتى من نفسي. ولا شكّ أنّني أتسبّب لأولادي بضغطٍ نفسيٍّ دائمٍ لأنّني على هذه الحال المقيتة التي لا أجد منها مخرجًا.”

حقًّا، قد يكون حال المرأة الأرملة أهون من حال زوجة المفقود. الأولى تستقرّ على أرضٍ حزينةٍ ومؤلمة، ولكنّها تستقرّ على أرضٍ مهما تكن، فيما تبقى الثانية معلّقةً في فراغٍ من الانتظار والأمل المنهك، فلا تستقرّ على أرض. الأولى يمكن أن تبحث عن حياةٍ جديدةٍ دون لوم، أو يمكن أن تختار التضحية الذاتيّة وتعيش من أجل أولادها فحسب، وهذا خيارٌ له تقديره الاجتماعيّ المعروف والمكرّس، فيما الثانية لا يمكنها البحث عن حياةٍ جديدةٍ لأنّ في هذا شعورًا ذاتيًّا بالخيانة، فضلًا عن التهمة الاجتماعيّة الجاهزة لمثل هذا الخيار. ويبدو انشغالها المخلص في تربية أولادها أقلّ قيمةً في عين المجتمع من انشغال الأرملة، لأنّها لا تملك، في نظر المجتمع، سبيلًا آخر سوى الاهتمام بالعائلة والانتظار.

غير أنّ سيّدةً سوريّةً أخرى تنتظر زوجها المفقود منذ أربع سنواتٍ، قالت: “أعيش على أمل عودته. حالي هكذا أفضل من حال الأرملة. على الأقلّ لديّ أمل”. مهما يكن الحال وكيفما كان إدراك المرأة للوضع الذي هي فيه، ينبغي ألّا ننسى أنّ هناك أسرةً كاملةً تعيش، بعد فقد الزوج، على كتف هذه المرأة أو تلك. تقول التقارير اليوم إنّ ربع الأسر السوريّة تعيلها امرأة. ينبغي أن نلاحظ أنّ إعالة الرجل للأسرة تقتصر غالبًا على تأمين المال، فيما تنهمك الزوجة في تحويل هذا الدخل إلى أسبابٍ للحياة، أمّا إعالة المرأة السوريّة للعائلة فهي تكون غالبًا في غياب الزوج أو عجزه الدائم، ما يعني أنّها تقوم بدورٍ مضاعف.

الجانب الأكثر صمتًا في مآسي الحروب، هو حرمان أعدادٍ متزايدةٍ من النساء من الزواج وتكوين أسرةٍ بسبب اختفاء الشباب، سواء في المعارك أو المعتقلات أو الهجرة. المرأة التي تفقد زوجها المحتمل قبل الزواج أو قبل أن يختارها زوجٌ محتمل، هي أيضًا ضحيّةٌ منسيّةٌ في الصراعات العنيفة التي تتغذّى على أرواح الشباب، أزواج المستقبل. ليس هذا الألم النفسيّ بقليلٍ رغم أنّه يتعيّن إخفاؤه أو تجاهله وفق معايير ثقافتنا العامّة.

“كنت أتمنى أن يرزقني الله عائلة، لكن هذا نصيبي”، تقول امرأةٌ سوريّةٌ تجاوزت الأربعين من العمر دون زواج، وتضيف: “حتى الصبايا لا يجدن من يتقدّم لزواجهنّ”. غالبًا ما يُغضّ النظر عن هذه الحالات، دون وجه حقّ، رغم أنّ نسبة العنوسة في سورية بلغت 65 في المئة بحسب تقاريرَ صحفيّةٍ، ما دفع القاضي الشرعيّ الأوّل في دمشقَ لتشجيع الرجال على الزواج الثاني وتسهيل هذا الإجراء بالتخلّي عن شرط التأكّد من ملاءمة الزوج اقتصاديًّا وقدرته على إعالة أسرتين، ليصبح هذا الشرط مرعيًّا في الزواج الثالث فحسب.

فئة النساء السوريّات اللواتي يتحمّلن بصمتٍ أعباء صراعٍ لا يدَ لهنّ فيه، فئة تتزايد باطّراد. يطال الأمر أحلامهنّ ومصائرهنّ ونمط حياتهنّ. الشابّة التي لا تجد زوجًا، تطوي راية أحلامها يومًا وراء يوم، وتنصاع لشروط حياتها بأن تكون الخالة أو العمّة الحنون المكسورة الخاطر، أو البنت المتفانية في سبيل والديها، أو الزوجة “الثانية” لعجوزٍ لم تجد الحرب فيه شبابًا تستهلكه فتركته ليستهلك شباب فتاةٍ لم تجد زوجًا.

أرملة أو زوجة مفقود أو امرأة بلا زواج، ثلاثة مصائر تعتصر نفوس السوريّات اللاتي تنشغل عنهنّ العيون بالنظر إلى خريطة المعارك ونتائجها و”أبطالها”.

لوحة تشكيلية للفنان السوري زهير حسيب

لوحة تشكيلية للفنان السوري زهير حسيب

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015