المرأة المعاصرة وصور من قيود الثقافات التقليدية
«الميني جيب» والأكثر قصراً «الميكرو جيب» أحياناً في سبعينيات القرن العشرين في القاهرة/ أرشيف

نبراس دلول/ alraafed- على الرغم مما حقّقته المرأة حول العالم خصوصاً خلال القرن العشرين، إلا أنها حقيقةً لاتزال أسيرة كثيرٍ من العادات والتقاليد المستندة في معظمها إلى مفاهيم دينية بدائية، لاتستوي وماحقّقه الإنسان الحديث من تطوّر وتقدّم روحي ومادي. فالمرأة ما تزال في الكثير من دول العالم خاضعة بشكلٍ أو بأخر تواجه صخرة التقاليد والأعراف تلك، وذلك بأشكالٍ وأنماطٍ ودرجاتٍ مختلفة ومتفاوتة.

فعلى الرغم من انكشاف العالم بعضه على بعضٍ وتداخله كما لم يحدث سابقاً في التاريخ، وعلى الرغم من تطوّر العلوم الإنسانية و إدّعاء الجميع عملهم وسعيهم نحو تحقيق ثقافةٍ عالمية، إلا أنّ رواسب الثقافات التقليدية، الدينية منها أساساً، مازالت تفعل فعلها وبالأخصّ في قضايا المرأة وحريتها و شخصيتها وكرامتها.

ففي الهند ونيبال، حيث تسود الديانة الهندوسية، لاتزال المرأة تُجبَر إذ ما حان موعد دورتها الشهرية على الإنزواء وعدم دخول المطبخ أو الإقتراب منه، لأنها تعتبر “نجسةً تنشر نجاستها على الطعام وكل شئ تلامسه!!!”، مما ينشر اللعنة في كل البيت. ولا ننسى هنا أن المنتجات الصحية النسائية لازالت مستهجنةً في المجتمعات الهندوسية!!

و على ما لاحظناه وعرفناه، فإن أتباع الديانة الهندوسية لايزالون الوحيدين في العالم الذين يحملون هذه النظرة المتخلفة للدورة الشهرية التي تحدث للنساء. ففي معظم الديانات والثقافات لم تحز الدورة الشهرية وصاحباتها على هذا الإستحقار وهذا العداء. فحتى في الدين الإسلامي، الذي كثيراً مايحرص أتباعه على تقديم نموذجٍ محافظ له، لاتوجد هذه النظرة الإستحقارية لعملية هي محض بيولوجية، إذ لايجري ربطها بخرافاتٍ ماورائية ونحن في عصر العلم.

بالمقابل، نشاهد في العالم الإسلامي قبولاً واسعاً للدورة الشهرية، وعدم الحطّ من قدر المرأة من خلالها. إلا أنّ الصورة لاتبدو بهذه الوردية من جوانب أخرى، إذ لازال الربط بين الأخلاق وغطاء الرأس (الحجاب) أحد أهم محاور الشخصية المسلمة، هذا على الرغم مما كان سائداً خلال النصف الثاني من القرن العشرين من تراجع عادة ارتداء الحجاب، مقابل عودته اليوم بقوّة ومنذ مطلع التسعينيات وحتى الأن.

أما في الغرب ذي الإرث المسيحي، فمازالت بعض رواسب التقاليد المسيحية المحافظة تفعل فعلها، خصوصاً بسبب تكوّرها في اللاشعور الجمعي. ومن صور ذلك، مسألة الإجهاض التي لاتزال موضع شدّ وجذب في تلك المجتمعات، وذلك رغم ارتفاع نسبة اللادينيين فيها. ففي الوقت الذي يعتبر فيه الإجهاض ليس بذلك التابو في المجتمعات الإسلامية، ويمكن وضع ضوابط مريحة له بالنسبة للمرأة، إلا أن تلك الضوابط تشتدّ  في الغرب، هذا على الرغم من ارتفاع نسبة البلدان الغربية التي تُشَرّعه، والتي كان أخرها جمهورية إيرلندا التي صوّت أكثر من 60 بالمئة من مواطنيها بنعم لحقّ الإجهاض.

طبعاً الحالة الإيرلندية مهمة جداً، وذلك كونها إحدى القلاع الأخيرة للكاثوليكية المحافظة إلى جانب بولندا. فعلى الرغم من اندحار النظرة الكاثوليكية التقليدية للمرأة، وللجنس بالعموم، تدريجياً منذ ثلاثينيات القرن الماضي، إلا أنّ الكنيسة والمؤمنين بها لا يزالون فاعلين في النقاش الغربي العام حول مواضيع كالإجهاض أو حتى استخدام الواقي الذكري!!

هذا في الوقت الذي تعتبر فيه مسألة استخدام الواقي الذكري في المجتمعات الإسلامية أكثر أريحية وقبولاً.

من ملاحظة الشواهد الثلاث تلك وحيثياتها يتبيّن لنا أن النظرة الغربية للمرأة أقلّ تديّناً بكثير من تلك الإسلامية أو الهندوسية، وذلك كون تلك المجتمعات الغربية بالأساس هي مجتمعاتٌ ديمقراطية من ناحية، وعلمانية من ناحية ثانية، ويكثر فيها اللادينيون من ناحية ثالثة. وتلك عوامل كفيلة عند تجمّعها في الإبتعاد عن صخرة التقاليد والأعراف المُستنِدَة إلى الدين، نحو فضاءٍ يخلق من خلاله أعراف وقيم جديدة تستند إلى العقل والعقلانية، و من ذاك أننا بتنا لا نقول أوربا أو أميركا المسيحيتين وإنما الغرب. فاليوم هناك ثقافةٌ غربية قد يكون جلّ أبناءها لديهم إرثٌ مسيحي، لكن ليست المسيحية بحدّ ذاتها كديانة هي من تحدّد القيم النهائية لتلك المجتمعات التي هي بالأساس لم تعد تُدافع عن هويتها وقيمها باعتبارها قيماً مسيحية بقدر ماهي قيم غربية تراكمت عبر القرون الأخيرة الماضية.

ومن ذاك أيضاً، أننا لا نشمل أميركا اللاتينية والدول الأفريقية ذات الكثافة السكانية المسيحية ضمن مابات يعرف بـ: الغرب. هذا على الرغم مماسبق وأوردناه عن بقايا دوافع دينية لدى هذا الغرب في تعاطيه مع مسائل كالإجهاض واستخدام الواقي الذكري، وما ارتفاع نسب الدول الغربية التي باتت تشرّع الاجهاض وتشجّع على استخدام الواقي سوى دليل على تراجع القيم الدينية المسيحية حول المرأة والجنس مقابل تقدّم القيم العلمانية.

إن صخرة الأعراف والتقاليد المستندة إلى الدين والتي لازالت تربط المرأة اليها، هي بالحقيقة كبيرة الوضوح في المجتمات الإسلامية والهندوسية، وقليلاً في المجتمعات المسيحية التي لاتدخل ضمن نطاق الثقافة الغربية. ففي المجتمعات الهندوسية على سبيل المثال لايقتصر الأمر على إجبار المرأة على الإنزواء وعدم دخول المطبخ أو الإقتراب منه كي لا ”تنجّس الطعام”، بل يتعدّاه في المجتمعات الريفية وضواحي المدن إلى إجبار المرأة على مغادرة منزلها والإقامة في بيتٍ معزول بعيد هي ونظيراتها، حيث دائماً يتمّ تخصيص مكانٍ موحش وبعيد عن القرية تُعزَلُ فيه النساء ويُمنَعنَ حتى من الإقتراب من موارد المياه كي لا “يُنَجّسنَها”!!

أما على الصعيد الإسلامي، فالأمر لايتوقف على ربط أخلاق المرأة بالحجاب، بل يتعدّاه إلى عدم تقبّل كثيرٍ من المجتمعات المسلمة للمرأة غير المُحجّبة، وأيّ غير محجبة تستحيل إلى مادةٍ للخلاعة والإباحية، ويُنظَرُ لها على أنها هدفٌ جنسي سهل. طبعاً هذه النظرة الإسلامية المنغلقة يخفّ حضورها في المدن الكبرى، كما كان حضورها خفيفاً قبل نصف قرن، كما يخفّ أيضاً اليوم في بعض المجتمعات التي تشهد حضوراً علمانياً كحال أكراد سوريا و عرب تونس.

وفي جزئية مهمة، تجب الإشارة إلى أنّ الإسلام والمسيحية فيهما تنوّعٌ أكبر في نظرتهما للمرأة، كما للعديد من القضايا الأخرى، وذلك بسبب من توزّعهم الجغرافي الكبير، الأمر الذي تفتقده الهندوسية. فالكبر العددي أمرٌ حاضر في الهندوسية، لكن انحساره ضمن حيّز جغرافي ضيّق (شبه القارة الهندية) قد جعل من الهندوسية أسيرة ندرة التفاعل بين الأساس الديني من جهة والتنوع العرقي والمتطلبات التي تفرضها متطلبات المكان والبيئة من جهة أخرى.  وهذه ذات العوامل التي خلقت تنويعات مهمة وروافد فرعية أغنت كلا الشخصيتين المسلمة والمسيحية.

من هنا ، يجب عدم النظر إلى التأثيرات الدينية باعتبارها عاملاً وحيداً، أو حاسماً، بل فقط كجزء أساسي من عوامل عدّة يمتزج فيها التاريخي مع الجغرافي مع الفكري مع الوقائع الموضوعية. فعلى الرغم من وجود عاداتٍ وتقاليد محورية ترتبط بالأساس الديني، إلا أن ذلك لا يمنع ظهور ثقافات وتقاليد وأنماط حياة فرعية، خصوصاً حين التوزّع الجغرافي الواسع.

من ذاك مثلاً، أن مسألة ولاية المرأة الكبرى (رئاسة الدولة) مازالت مادةً للجدل المجتمعي، لكن في الوقت الذي نجد فيه أن رفض قيادة امرأة للدولة شئٌ بديهي في كثيرٍ من المجتمعات الإسلامية من عربية وتركية وإيرانية، فإن الأمر يبدو طبيعياً ومقبولاً أكثر في كلّ من باكستان وبنغلادش، اللتان شَهِدَتا امرأةً في سدّة القيادة (بنازير بوتو ، وشيخة حسينة).

هذا على الرغم من مفارقة أنّ المرأة في كثيرٍ من الدول العربية، كما في تركيا، تتمتع بحرية شخصية أكبر من نظيرتها الباكستانية أو البنغالية!! فالمجتمع الإسلامي في باكستان ورغم تديّنه الواضح، فإنه حقيقةً سبق كثيراً من الدول، إسلامية وغيرها، في قبول الشارع لفكرة قيادة المرأة للدولة، هذا على الرغم مما تعانيه المرأة هناك من مضايقات قانونية وعرفية ومجتمعية.

نلاحظ مما سبق كيف أن المجتمع الباكستاني والبنغالي يُشبِهان الكثير من المجتمعات الغربية فيما خصّ المرأة والسياسة والقيادة، لكنهما يبتعدان عن هذا التشابه حين النظر إلى المرأة من الناحية الإجتماعية. وبالمقابل، هناك كثيرٌ من الدول العربية وضع المرأة فيها من الناحية الإجتماعية يشابه مثيلاتها في الغرب لكنها تفتقد هذا التشابه في المسألة السياسية.

وهذه النقطة الأخيرة تقودنا بالتأكيد إلى درجةٍ معيّنة من تقاطع العادات والتقاليد الفرعية الثانوية بين أتباع الأديان المختلفة، وهذا الأمر لانجده فقط في موضوع المرأة، وإنما يتعدّاه حتى إلى الرجل و نمط الحياة. ففي الوقت الذي يعتبر فيه تقبيل الرجال للرجال أثناء الترحيب عادةً شائعة بين العرب (مسلميهم ومسيحييهم)، فإنها مستهجنةٌ تماماً في المجتمع الهندوسي في الهند، والإسلامي في باكستان وبنغلادش، والمسيحي في الغرب.

وذات النقطة تقودنا إلى تسليط الضوء على مظاهر أخرى جديرة بالتأمل، و بتنا نلحظها بشكلٍ واسع.. ففي سوريا على سبيل المثال، تتقبّل المجتمعات السنية (مدينية أو ريفية) فكرة المرأة المُدَخّنة أمام الرجال وحتى في الأماكن العامة، لكنها تستهجن (خصوصاً في جانبها الريفي) فكرة المرأة غير المحجبة !!.. في حين نجد أنّ فكرة المرأة المُدَخّنة مازالت مُستَهجَنة ومُحَاربَة في المجتمع الدرزي، هذا على الرغم من الحرية الواسعة التي تتمتع بها المرأة الدرزية لناحية ارتداء الملابس المكشوفة.

لاشك أن كلّ هذه الصور التي أشرنا اليها، والتي ترمز بشكلٍ أو بأخر إلى الأصفاد التي تضعها الثقافات التقليدية على معصمي المرأة المعاصرة، هي صورٌ قابلة للتغيير وليست صوراً نهائية، وهذا رهاننا الدائم على التطوّر طالما تفاعل الإنسان بشكلٍ صحيح وتقدّمي مع البيئة والموروث والمكان والفكر ومنجزات الواقع، وهذا عموماً ما تتفوّق به المجتمعات الغربية ذات الإرث المسيحي على بقية المجتمعات ومنها مجتمعنا الإسلامي.

فعلى الرغم من بعض بقايا الرواسب الدينية التي جئنا على ذكرها أعلاه في تعاطي الغرب مع قضايا معيّنة تخصّ المرأة، إلا أنّ تلك الرواسب في اضمحلالٍ واضح، والمرأة هناك أكثر حريّةً من نظيراتها في العالمين الإسلامي والهندوسي، فقد تطورّت نظرة المجتمع اليها ولم يعد لباسها ومشيتها وخصوصيتها البيولوجية ذات كثير اعتبار في تلك المجتمعات، كما أنها بدأت تأخذ حيّزاً مهماً في الفضاء السياسي.

لا ننسى في هذا السياق أن نشيد بتلك النضالات في المجتمعين الإسلامي والهندوسي والتي تهدف إلى عقلنة النظرة التقليدية للمرأة. ففي الوقت الحالي، تشهد حاضرات المجتمعات الهندوسية بداية حراكٍ ضدّ المفاهيم الرجعية بحقّ المرأة، وهذه الحركات رغم صغر حجمها، إلا أنها استطاعت بالفعل إخراج النقاش إلى العلن حول الدورة الشهرية وحول المنتجات الصحية النسائية، وهذه خطوة جبّارة في مجتمعٍ لازالت الغالبية من أبناءه تمارس الطقوس الدينية.

كما تشهد المجتمعات الإسلامية بدورها بداية عودةٍ إلى عقلنة مجتمعية، كتلك التي سادت في الخمسينيات والستينيات، مع إضافةٍ مهمة وهي سعي المرأة للقيادة السياسية بعد أن اقتصرت فترة الخمسينيات والستينات على تطوّرها من الناحية الإجتماعية دون السياسية.

«الميني جيب» والأكثر قصراً «الميكرو جيب» أحياناً في سبعينيات القرن العشرين في القاهرة/ أرشيف

«الميني جيب» والأكثر قصراً «الميكرو جيب» أحياناً في سبعينيات القرن العشرين في القاهرة/ أرشيف

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015