المرأة تحت أغلال اللغة «مقاربة سوسيولوجية»
المرأة واللغة

Ronahi- تعدّ النظرية النسوية لما بعد الحداثة من أبرز النظريات التي اهتمت بتفسير الفروق بين الجنسين على أساس اللغة، وكون هذه الأخيرة عبارة عن سلسلة مترابطة الحلقات من القواعد والإشارات والرموز والمعاني والأدوار التي ينشأ عليها الأطفال اجتماعياً وثقافياً، فالأطفال الذكور يتوافقون مع آبائهم لأنهم يشبهونهم فيزاءياً ومادياً، من خلال اللغة السائدة والأدوار التي يكتسبونها عن آبائهم، مما يطوّر حسّهم الأخلاقي، عكس الفتيات أقلّ حسّاً أخلاقياً لأنهنّ لا يتماثلن مع آبائهن.

الثقافة المصطنعة بَخَسَتْ المرأة حقّها…

اعتبر جورج هربرت ميد، الأب الذي طوّر نظرية التفاعلية الرمزية، أنّ “اللغة هي الأساس الذي يتعلّم من خلاله الأطفال الأدوار الجندرية من خلال الاتصال والتواصل مع الآخرين”. وذلك عن طريق عملية التنشئة الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي مع الآخرين حيث يتطوّر مفهوم الجندر الخاص بكل جنس بناءً على قيم وتوقّعات المجتمع، فيتعلّم الأطفال كيف يرون أنفسهم وأنفسهن من خلال المحادثات والتفاعل المستمر واستخدام الرموز المناسبة للموقف.

وتؤكّد شهادات النساء أنفسهن على أنّ الديانات الإبراهيمية قد أكرمت المرأة، وأعطتها حقّها غير أنّ الثقافة والتاريخ من خلال اللغة قد بخساها هذا الحقّ، “إن موقف الدين بوصفه وحياً منزَّلاً وبوصفه دين الفطرة، يُعطي المرأة حقّها الطبيعي، ولكن الثقافة بوصفها صناعة بشريّة (ذكوريّة) تُبخِس المرأة حقّها ذاك وتُحيلها إلى كائن ثقافي مُستَلَب”، خصوصاً على مستوى التعابير والإشارات والرموز.

وعندما جعل النظام البطريركي الرجل على رأس هرم المجتمع والمرأة في القاعدة، ترك النساء يقتصرن على استخدام اللغة الذكوريّة معاً، وأدى ذلك إلى إحلال الرجل كممثّل للعقل والمرأة ممثّلة للجسد، لدرجة اعتُبِرَ “التذكير في اللغة هو الأصل والتأنيث فرعٌ من هذا الأصل تماماً كالأسطورة القائلة بأنّ حواء فرعٌ من آدم وهذا اعترافٌ دائم باستِلابٍ مستمر لحقوق المرأة”.

وعندما تدخل المرأة مجال العمل الوظيفي، فإنها تدخل في سياق التذكير، فهي عضو وهي مدير وهي رئيس الجلسة، وبما أنّ التذكير هو الأكثر أصبح الأصل، ولن يكون التذكير أصلًا إلا إذا صار التأنيث فرعاً، ومن هنا فإن الفصاحة ترتبط بالتذكير؛ فيُقال عن المرأة أحياناً أنها زوج فلان وليست زوجة فلان، والعكس لا يُقال إن كنت تتحرّى الفصاحة والأصالة، وهذه مسألة تمرّ في الممارسات اللغوية دون ملاحظة، لأنها صارت هي الطبع وهي حقيقة اللغة وضميرها المتغلغل في نسيجها وخلاياها.

يقول عبد الله الغذامي أنّه في اللغة الإنجليزية ليس للمرأة من وجود إلا داخل مصطلح الفحولة، ولننظر في الكلمات الثلاثة التالية: ”wo-man hu-man- man-kind“. وإذا ما تأمّلنا في الأمر سنجد أن المرأة مجرد إضافة لفظية إلى الرجل، ولو حذفنا كلمة «man» لضاعت وسائل المرأة من الوجود في اللغة، وكذا مصطلح «إنسان» «hu-man» ومصطلح «بشرية» «man-kind»، بالإضافة إلى ذلك عندما نترجم كلمة «التاريخ» إلى اللغة الانجليزية سنجدها تعني «History»، وإذا قسمنا هذه الكلمة سنجد أن بدايتها «His» تعني «هو»، و«story» تعني «قصة»، ويصبح المعنى الشامل لكلمة «History» قصته دلالة على قصة الرجل أي تاريخه كإحالة صريحة بأن التاريخ ذكوري حتى في اسمه.

وقيل إن خير الكلام ما كان لفظه فحلاً ومعناه بكراً، وكتحليل لهذه المقولة باعتبارها قسمة غير متساوية، حيث يأخذ فيها الرجل أهم وأخطر مكونات اللغة وهو اللفظ الذي يعدّ التجسيد العملي وأساس الكتابة والخطابة، ويتبقى للمرأة المعنى الذي يوجه بدوره من اللفظ، فيفقد المعنى وجوده وقيمته خارج إطار اللفظ أو الكتابة.

احتكار الرجل للكتابة …

وقد أدّت هذه القسمة إلى احتكار الرجل للكتابة وترك الحكي للمرأة، مما أدّى إلى سيطرة الرجل على الفكر اللغوي والثقافي، وبالتالي السيطرة على التاريخ، لأنه الكاتب؛ وهذا ما جعله صانع التاريخ والثقافة، في حين بقيت المرأة في جميع ثقافات العالم مجرد معنىً للغة، وبالتالي تابعة للرجل وليست فاعلة لغوية قائمة بذاتها، وبما أنه لا معنى للمعنى إلا داخل اللفظ، تسبب ذلك في إعلاء صورة الرجل وأهميته وتقوية مكانته الرمزية من داخل أحضان التاريخ وفوق أراضي الثقافة، والتقليل من المرأة على مرّ العصور وفي جميع ثقافات العالم حتى في اللغة نفسها.

وإذا كانت اللغة عنصراً أساسياً فاعلاً في صياغة وبناء الثقافة والهوية، فإنها تحدّد موقف الإنسان من نفسه ومن الآخر، فالنساء هُمِّشن من كتب التاريخ لأن عملهن كان محصوراً في البيت، وحتى وإن كتبت المرأة أُجبِرَت على التكلّم بلغة الرجل وثقافته وتفكيره، وهذا التفكير استعمر اللغة واحتل الثقافة، حتى صارت اللغة رجلاً وصارت الثقافة ذكراً، لأن “المرأة في صورتها الذهنية الراسخة كائنة اندماجية وليست كائنة مستقلة، فهي وسط الآخرين وفيهم ومنهم وبهم، فهي بنت فلان وزوجة فلان وأم فلان”.

عنفٌ رمزي تُمارِسُهُ اللغة…

وبما أننا في مجتمع الامتلاك لا تقاسم الحياة واشتراكها، نجد أنّ الرجل يضع المرأة في موقع الأشياء التي يمتلكها، فيتم اعتبارها ملكيةً خاصة وفق مبدأ المركزية الذكوريّة، يقول أحد الباحثين : “لمرا ملي تتزوّج تولي جوهرا ديالي”، حيث تظهر تعابير لغوية واضحة دالة على امتلاك المرأة في ثقافتنا من حيث لا ننتبه، لأنّ الوعي يقوم بظاهرة الانتقاء، عندما نقول لها جوهرة، بهذا التعبير اللغوي تخسر المرأة بضربةٍ قاضية واحدة أدميَّتها وإنسانيَّتها وتتحوّل إلى عالم الشيء والممتلكات وتدخل إلى خزانة الرجل الممتلئة بالأشياء، لأن المرأة تحضر في المجتمعات المُتَخلّفة التي تتبنى هذه التعابير من باب الملكية الخاصة، الشيء الذي يُشرعن للرجل تبرير وضعيةٍ أعلى للذكر على الأنثى باسم عنفٍ رمزي تمارسه اللغة، وتكريس كلّ أشكال الدونية والطبقية.

ولا شك أن الفلسفة قد ولِدت في مجتمع ذكوري متشدّد في ذكوريته وفي تعاليه عن الأنوثة، لدرجة أن سيد الفلسفة الإغريقية أفلاطون كان يتأسّف أنه ابن امرأة وظل يزدري أمه لأنها أنثى، وكان يرى أن “الحبّ الحقيقي هو ما كان بين الرجل والرجل، ويرى الجمال المبهج في الشبان، وللمجتمع أن يُكافئ الرجال المحاربين بأن يمنحهم نساءً جائزةً لهم على شجاعتهم”، ولذا تراجع وجود المرأة إلى الهامش وغابت عن محاورات أفلاطون واختفت من الخطاب اللغوي المكتوب.

وكون اللغة تعمل على نقل أنساقٍ جاهزة من القيم إلى الإنسان، تؤدّي بدورها إلى الفصل الجذري بين الجنسين وإعطاء الأولوية لصفات الذكورة على الأنوثة وتغليبها، “اللحية تسبق الضفيرة”؛ هنا اللحية حسب الخيال الشعبي رمزٌ للرجل ذو الصفات المرتبطة بالعقل والقوة الجسدية، والضفيرة رمزٌ للمرأة على أنها جسد وشكل.

هكذا إذن يمكننا أن نتساءل من خلال ما سبق، هل فعلًا انحازت اللغة إلى الرجل؟ وهل تمّ تذكير اللغة تذكيراً نهائياً أم أن هناك مجالٌ للتأنيث؟

ورغم خروج المرأة من طور الحكي والدخول في طور الكتابة، سنجدها تكتب حسب شروط الرجل، فهي إذن تتصرّف مثل الرجل، أو بالأحرى كما قال الغذامي إنّ المرأة تسترجل في لغتها وكتاباتها، وهذا ما نادت به مي زيادة، بقولها: “نحن في حاجةٍ إلى نساءٍ تتجلّى فيهن عبقرية الرجال”، ويتبيّن من خلال قولها أنها تطلب عبقرية الرجال لأنها لا تملك نموذجاً لشيءٍ يمكن أن نسميه بعبقرية النساء، لذلك فما السبيل لبناء وتكوين عبقرية نسائية؟ وما هي الاستراتيجيات للخروج من هذه الرؤية اللغوية الذكورية؟ وكيف يمكن إرساء لغة خاصة بالمؤنث قادرة على زعزعة الفكر واللغة المهيمنين؟

وأخيراً كيف يمكن خلق قيم إبداعية تجعل الأنوثة مصطلحاً إبداعياً بإزاء مصطلح الفحولة؟

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”. 

المرأة واللغة

المرأة واللغة

2 تعليقان في “المرأة تحت أغلال اللغة «مقاربة سوسيولوجية»”

  1. يقول محيي الدين محروس:

    بداية لا بد من الانطلاق بأن اللغة هي ناتج عن البناء التحتي أي العلاقات الاقتصادية الاجتماعية.
    وبالعودة للتطورالتاريخي نجد المكانة للمرأة في المشاعية البدائية متساوية مع مكانة الرجل، وذلك للتساوي في تقسيم العمل، وفي عصر كانت الأطفال تحمل اسم عائلة الوالدة وليس الوالد.
    أما في الأنظمة اللاحقة: الاقطاعية وبدايات الرأسمالية حيث الرجل هو الذي يعمل وهو الذي يجلب الدخل للعائلة، أصبح له الدور الاجتماعي الأول…وتم التمييز لصالح الرجل.
    لكن مع تطور الرأسمالية ودخول المرأة المصانع ..أي خروجها من المنزل ودخولها العمل، وأصبح لها دخلها المالي، دخلت نضالاتها من أجل حق المساواة في الأجر ..ومن ثم المساواة مع الرجل في بقية حقوق المواطنة، وصولاً لحق الانتخاب والترشح لأعلى المناصب في الدولة.

    ملاحظة أولى: الأديان الثلاثة جاءت في العصر الذكوري، لهذا كانت تنص على تفوق الذكر في النصوص وفي الممارسة إلى يومنا هذا بالنسبة للمؤمنات وللمؤمنين.
    ملاحظة ثانية: هناك محاولات جريئة وهامة وتم تحقيق بعضها في اللغة العربية لتأنيب العديد من تسميات المهن والمراكز الاجتماعية والسياسية للمرأة.
    ملاحظة ثالثة: توجد محاولات جريئة في نشر الثقافة الجندرية للنظر إلى الإنسان بغض النظر عن جنسه إمرأة أم رجل.
    ومن الجدير بالذكر بأن بناء دولة المواطنة ذات النظام العَلماني الديمقراطي هو الحل للمساواة التامة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل.

  2. يقول محيي الدين محروس:

    أصدر مجمع اللغة العربية قرارًا بتأنيث الوظائف هذا نصّه: «لا يجوز في ألقاب المناصب والأعمال -اسمًا كان أو صفة- أن يوصف المؤنث بالمذكر، فلا يقال: فلانة أستاذ، أو عضو، أو رئيس، أو مدير». بل تؤنث الوظائف إن كانت وصفًا للمرأة، فيقال مديرة ووزيرة ومعلمة وأستاذة.

    يقال تصريفًا: أمير وأميرة، وصيّ ووصيَّة، وكيل ووكيلة، رسول ورسولة، شاهد وشاهدة، ومؤذن ومؤذنة.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015