النساء بين المركز والأطراف
المرأة المهمشة\ تشكيل فني

سلوى زكزك\ salonsyria- ما بين المركز والأطراف، علاقة متنافرة، مجهولة لغوياً لكنها محسوسة، وإن تم تجاهلها أو تأجيل الإفصاح عنها. ويسود الرأي بأن الأطراف غافلة عن كل ما  يدور في المركز، وبأن أهل الأطراف قليلو الهمة باردو الأنفاس وغيورون. ويُتهم أهل المركز بالتعالي والغرور وبالعدوانية وبمحاولات التحايل أو السخرية و الاسترزاق من بساطة أهل الأطراف، علاقة المركز بالأطراف علاقة صارخة في حدتها التي تستعمل كوصمة، كل طرف للآخر، لدرجة تم ترسيخ صورة نمطية عن أهل المركز عممها أهل الأطراف وبالعكس، وكل الفروقات أو التمايزات غير معتد بها، لأنها أصلاً لا تُراعى ولا تُلاحظ  تحت تأثير قوة التنميط الطرفي أو الأحادي والمستعمل لتثبيت شرخ بنيوي بينهما. شرخ خارجه أو مظاهره لا علاقة لها بمضمونه العميق، فتغيب الصورة الحقيقية ويتثبت الاختلال وكأنه سمة طبيعية لا تدبير له.

أحب الاحتيالات الصغيرة، المحبوكة بقلب متوثب ومقامر، أحب الخيط الواضح في بدن التمرد، والمطلوب مجرد سحبة واحدة للخيط حتى ينفرط الموثوق، المكبّل، المرهون للحظة فرار مراوغة أو إعتاق مرتجى.

على باب القصر العدلي تتجمع النساء، باحثات عن الأبناء، الأزواج، الأخوة، والآباء، يبدو المكان مشحوناً.  انتظار وخيبات متوقعة، حر وغربة ومدينة مزدحمة والكل يتهمك بمجرد وقوفك هنا، وخاصة إن كنتِ امرأة، لا وقت  للضحكات أو للأحاديث الشيقة، هكذا ينبغي لهذا المكان  أن يكون، وهكذا ينبغي على النساء المنتظرات هنا إظهار الدموع والحزن والانكسار والرجاء المر والصامت، لكن السيدات يتغامزن حول شرطي يسد باب الكراج بجسده الضخم قائلات :(إنه جميل ولكن جلف).

يتصل والد زوج إحداهن، تصمت مرتبكة وتطلب من الأخريات الصمت، وكأنهن شريكات في جريمة واحدة ويعمل المحقق للإيقاع بهن، تحاول خنق صوتها، تقول له: (شوب كتير يا عمي وسيارة الموقوفين لم تأتِ بعد!!).

تغلق السيدة جوالها وتقول: (والله عيشة قهر) ويضحكن من جديد، لكن أوامر الشرطي الجميل بالابتعاد عن مدخل كراج سيارات الموقوفين يجعلهن صامتات وتتحول العيون نحو جسم معدني حار ومعتم، لكن العيون تسبر أغواره والدموع تطوف والصمت سيد المكان.

على مسافة قريبة صبية عشرينية تجر حقيبة بأربعة دواليب، محجبة لكن قميصها بثلاثة أرباع الكم  وتحت الكمين كفان أبيضان يصلان حتى الكوع، في لحظة لا مبرر لها، تخلع الصبية الكفين وتقول بصوت عال لمن لا يهتم بها ولا بكفيها، لمن لا يراها أصلاً ومنشغل عنها بدوامة قابعة في رأسه، (شوب)!! أنتبه بعد كلمتها لأظافر مقلمة ومطلية بطلاء أحمر لامع، ستة خواتم ناعمة وذهبية موزعة في أصابع اليدين، مساحة طويلة تعرت. باتت الصبية في علاقة جديدة مع المكان ومع يد الحقيبة المثقلة بداء التنقل من بيت العائلة في طرف المدينة نحو بيت صديقة أو قريبة في مركز المدينة، وكأن يد الحقيبة تحولت إلى معرض لتحدق الصبية ملياً في أصابعها الغضة والمتناسقة، لتفرح بهم أو لتحبهم أكثر.

ما بين الأطراف والمركز علاقة فطام إرادي، كل التبدلات والتحولات الطارئة بقوة الحرب، أو بقوة انزياح الرقابة اللصيقة من أهل وأقارب وجيران، تتحول لفعل هنا، وستظهر التبدلات هنا علنية وواضحة، لابل معلنة ومتماهٍ معها. ستخلق أجيال، ليس بالتعبير العمري فقط، لكن بالمعنى الاجتماعي للكلمة تُظهّر كل التبدلات، تمارس كل ما تغير وتعلنه. أجيال تغير أشكال التداول المجتمعي والاجتماعي، وصولاً إلى تبدل واضح في طريقة الكلام وإعلان المطالب وتحديد الأوجاع والعثرات، والصراخ ربما لإزاحتها أو لرميها جانباً، أو الاعتراض عليها، لكن بصوت عالٍ وبمساحات أكثر ليونة ومرونة، أكثر انكشافاً، وإن كانت لا تتجاوز مساحة كفين وأصابع عشرة. والتبدلات ستصير مدونة سلوك مستجدة، لكنها متجددة، متمردة، وربما لا يمكن اللحاق بتبدلاتها المتسارعة في زمن يحرق المسافات كما الوقت كما القلوب والكلمات.

القمصان بأزرار ناعمة، طويلة ولا تظهر تفاصيل الجسد بحدة بارزة، لكن الأزرار قابلة للفك زراً تلو زر والعراوي متوسعة والحجة جاهزة إن أعلى الزر انفكاكه بصورة تظهر الرقبة معها أو يبان جزء من أعلى الصدر، هو ليس احتيال، هو احتفال بالمساحات النضرة من رغبات ظاهرة ومضمرة في آن معاً، والقيد الصارم بأزرار محكمة الإغلاق يوسع فتحات العراوي في صورة عكسية ما بين القرارات والرغبات.

والتباين بين الأطراف والمركز وإن بدا هنا مجرد تباين في السلوك لأهل الأطراف القادمين نحو المركز، لكنه يبدو في بعده الإجرائي وكأنه محاولة تملص من الضوابط الحادة، وكأن المركز متسع للجميع، فلا يكترث العابر بالعابر بسبب طبيعة العلاقة العابرة بينهما، علاقة تنشأ وتنمو مكانياً لا أكثر تكرس عبارة (ما حدا شايف حدا). حتى الزوجان الغريبان القادمان للمركز يتصرفان كعاشقين يمسكان بأيدي بعضهما البعض أو يشربان العصير من محل مرتجل، لأن الأطراف قد تنظر إلى تماسك الأيدي في الأطراف وكأنه وله مبالغ به، وكأن شرب العصير في محل عام يخص مناسبات معينة لا فعلا يوميا كما يظهر في المركز.

رنا فتاة عشرينية تعمل في البيوت، بمجرد مغادرتها بيت أهلها تخرج قلم أحمر الشفاه لتلون شفتيها، تتجه من شرق المدينة البعيد نحو غربها الغني، جل ما تريده ألا يتوقع أحدا طبيعة عملها من زيها المحافظ. في الحافلة العامة تحدق مراراً في شاشة الجوال التي تستعملها كمرآة، تضع عقداً من الخرز الملون الكبير،  وتظهر وداً حيال كل الركاب مشاركة في الأحاديث بثقة عالية لا تمتلكها العاملات المنزليات.

يبدو التحايل على اختلال العلاقة ما بين الأطراف والمركز ترتيباً إجرائياً للولوج في عالم أرحب، مسموح فيه أن تدخن إسراء مع شقيقتها في مقصف الجامعة، أو أن تغير امتثال اسمها إلى سوسو ليصبح اسمها المتداول، اسم صعب وثقيل حملت ثقله حين قررت والدتها تسميتها به على اسم خالتها الراحلة.

تبدو العلاقة أصيلة ما بين الأطراف والمركز رغم التجافي المعلن، إذن لا انفكاك وإنما تغيير للحدود وللضوابط في مساحات أوسع، يضيع فيها العابرون بفوضى مشتهاة أو بخفة نوعية من ثقل الروابط العائلية أو الريفية، مجرد أنك تائه ولا وجه يعرفك في هذا الزحام، يجعلك تفكر في اتجاه واحد كيف تنجو من ازدحام الروابط الواهية وكيف تكتشف السعادة، الانطلاق، التنكر، وربما النسيان أو التجاهل الكلي.

في الأطراف، يطفو الخوف من التقييد الصارم ومن الأخبار المسربة والمتلاعب بها، محرفة بإمعان في تخييل مقصود عبر نساء متفرغات لمراقبة الجميع نساء فارغات وفاقدات لكل إمكانيات العبور نحو المركز، أو خارج أسوار الأطراف، هذا الخوف هو الذي يؤجل الرغبات للمضي نحو الحدود الخارجة عن المكان، يولد فعلا تغييرياً وإن كان بالشكل في أول لحظة لغياب حدود الأسوار الخانقة، أو تركها وراءك.

إن النكوص نحو الحلقة الأضيق من العلاقات وخاصة الأسرية وما يفرضه من التزامات خانقة، قابل للتجاهل بمجرد العبور نحو المركز، الذي قد يكون ظالماً أو معتدياً أو غير عادل، لكنه مغر ومراد، والسعي نحوه وصفة للشجاعة والجرأة. وفي أحيان أخرى يكون وصفة للتمرد أو للضياع، خاصة إذا ما كانت العابرة عبر الحدود امرأة، هنا  يحصل ما يسميه البعض انتحاراً أو حرقاً للأوراق. يقابله نجاة خالصة بهروب خالص يرمي كل ما قبله نحو ماض لا وقت لذكره أولا قلب للنواح عليه أو تذكره، أو أن الانبهار به مجرد لحظة انفعالية عابرة لا تدوم، لكن الانفراج يتحقق في الضياع بعوالم غريبة، لا رقابة فيها ولا عين لصيقة أو فم يهذي ويحرّم ويوصي ويمانع..

ما بين المركز والأطراف نساء يرسمن الحدود الفاصلة بخيبة التعثر في إدامة العبور وفي أمل جامح  بالتعرف إلى المجاهيل الممنوعة بقوة السائد وبهيمنة السلامة الركيكة والحماية الواهية، التعرف إلى  مفردات جديدة للعيش، ومحاولة إن لن تُسعد  فاعلها! لكنها لن تدمي القلب ولن تخذله. وقد تصيب الغالبية بالعدوى، وهنا المفارقة أن تغير حياتك بمجرد إصابتك بالعدوى، عدوى الهروب من الأطراف نحو المركز، أو عدوى النكوص نحو أطراف ضبابية توحي بأمان مخاتل وهش.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”. 

المرأة المهمشة\ تشكيل فني

المرأة المهمشة\ تشكيل فني

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015