الوعي الجمعي وتأثيره على المرأة
الوعي الجمعي والمرأة

أنجيل الشاعر/ جيرون- سمعت صوت بكاء طفلةٍ لا تتجاوز العاشرة من عمرها، ذلك بحكم سكني القريب من الشارع، نهضت لإغاثتها، بالنزعة الإنسانية الموجودة في كل واحدٍ/ةٍ فينا، وقبل أن أفتح الباب سمعت صوتًا أنثويًا آخر، يؤنب الطفلة بكلمات نابية وتهديد ووعيد! واصلتُ سيري اتجاه الأنثيين، حاولت التدخل بلباقة، لكنني نلت نصيبي من الشتائم أهمها (أننا نحن السافرات كافرات)، استغربت هذا الحديث وأنا لم أتطرق في حديثي معها إلى الحجاب، وعندما تقصيت عن الأمر بعد ذلك من المارة؛ تبين أن سبب تأنيبها للطفلة أنها خرجت من دون حجاب!

لو كانت هذه القضية قضيةً خاصة؛ لما تعرضت لطرقها في منبرٍ عام، لكنها قضية مجتمع بأكمله، قضية كل فتاة مجبرة على تنفيذ ما لا تريد ولا ترغب، وكل امرأة -أيضًا- تنظر إلى أنوثتها كما ينظر إليها الرجل، فتصبح “أنوثةً مبتورة”، تنزف تخلفًا وعبودية على طول المداومة.

ليست المسألة مسألة حجاب، أو قطعة من القماش مزركشة الألوان توضع على الرأس وفقط، ولو كان الأمر كذلك؛ لتزيّنت جميع النساء بذاك الحجاب، إنما هو وعي مجتمعي موروث ومتأصل فينا منذ آلاف السنين، ثقافة ميتافيزيقية تعود بالإنسان إلى تشكّله الأول من حيث العنف والوحشية، وإلا؛ فما الذي يُجبر امرأة كتلك التي شاهدتها (وهي جدّة الفتاة) على تعنيف فتاة بتلك الوحشية، ستصبح يومًا امرأة وستنشئ جيلًا على خطى التنشئة ذاتها التي نشأت هي عليها.

العمق المعرفي والأخلاقي في نظامٍ اجتماعي متوارث العادات والتقاليد، والمحرّمات الدينية، ينتزع من كل مَن لا يواكبه الحق في العيش بحريةٍ وإرادةٍ تدفع الأفراد (إناثًا وذكورًا) إلى بنائه وإعادة تشكيله من جديد. (استخدم تعبير أنثى وذكر بمعناه البيولوجي، لأن كل امرأة هي أنثى وليست كل أنثى هي امرأة، ولا كل ذكر هو رجل بالمعنى الاجتماعي).

هل الرجل وحده الذي يفكر تفكيرًا ذكوريًا في مجتمع تحكمه الأنظمة الذكورية، وسلطةٌ سياسية كرّست دونية المرأة واستعبادها لذاتها ولنظيراتها من النساء، أم أن هذا الفكر تسرّب إلى ذهنية المرأة، وأصبحت تنظر إلى نفسها كما ينظر إليها الرجال، جسدًا اجتماعيًا وعورةً دينية؟

نحن اليوم أمام أزمةٍ حقيقية، ليست أزمة حجاب أو سفور، إنما أزمة أخلاقية تحدّدها أجساد النساء، نكوص الفكر إلى حالة ما قبل التاريخ البشري، من حيث العنف والتسلط والتربية الفظة، تسلط الرجال على النساء، وتسلط الآباء والأمهات على الأبناء، وتسلط الشريعة على القانون، من ثم تسلط (الأقلية على الأكثرية)، على الرغم من أننا نعيش في القرن الواحد والعشرين: قرن الثورات العلمية والفكرية والمعرفية.

تقول فرجينيا وولف: “أفضّل، عندما تكون الحقيقة مهمة، أن أكتب قصص الخيال”. ذلك لأن (وولف) كانت تعي جيدًا المفارقة التي لن تفاجئ إلا الذين لديهم رؤية مبسطة للأشياء، وطرق خاصة لفهم الحقيقة، الحقيقة التي يتوهم كل شخص في العالم أنه يقبض عليها بين يديه، فالنساء اللواتي لا يرفضن الواقع الذي جعلهن في منزلة العبيد والخدم، يتوهمن بامتلاك حقيقةً ثابتة أن المرأة خُلقت لتكون كما هي عليه الآن: أدنى منزلةً من الرجل، زوجةٌ صالحة ومطيعة، أمٌّ مثالية في التربية، شرفها وشرف عائلتها في جسدها وشعرها الذي لو أُهملت نظافته أصبح مرتعًا لحشرات الرأس.

وحسب بيير بورديو: “النظام الاجتماعي الذكوري يريد تأكيد الهيمنة، وفرضها بصورة مختلفة تتسلل إلى الأجساد وتتغلغل فيها ومنها إلى المتخيّل الجمعي”، يتحدث بورديو عن الهيمنة الذكورية وجميع السلطات المهيمنة على المجتمعات، والتي تجعل من نفسها نتيجة طبيعية في حالات معينة، وأنها تمتلك من الشرعية ما يكفي لفرض سلطة القوي وزيادة استضعاف الضعيف.

ذلك النظام أقصى المرأة عن ذاتها الحرة، وكيانها المستقل، من ثم أقصاها عن أنوثتها. فإذا أردنا ابتكار عالم متغير يعترف بالمرأة على أنها إنسان وليس الآخر المختلف، وليست الكائن الناقص؛ فعلينا نحن النساء أن نقوم بثورةٍ على أنفسنا، تحررنا من عبوديتنا الذاتية أولًا، وهو العامل الأساس والأهم في قضايا النساء.

اضطهاد المرأة لا يأتي من الخارج فحسب، بل ينبعث من داخلها أيضًا، فهي تحمل عوامل تقوقعها وانغلاقها، وشعورها بالإثم منذ تفتح أنوثتها البيولوجية، باعتبارها شرف العائلة الممتدة، فتتنكر لأنوثتها، وهذا ما تعاني منه المراهقة في مجتمعاتنا المأزومة، ولا يعاني منه المراهق الذكر. لا ننكر أنه مستبطن من الخارج إلى الداخل، لكن المرأة لم تعمل على إخراج ما بداخلها من إمكانات تكافئ إمكانات الرجل، بل أصبحت تردّ على الإذلال بالعنف على نفسها، وما حصل اليوم بين الجدّة والحفيدة أكبر دليلٍ على ذلك. الأخلاق الزائفة ولّدت في داخل الإنسان العنف الناتج عن القهر والاستلاب، والسلطة الدينية أنتجت أيديولوجيا متزمتة، حجبت العقل عن التفكير وحولته إلى مسوّغٍ للعقائد الدينية والأساطير الميتافيزيقية بين كافر ومؤمن، أو كافرة ومؤمنة، وجعلت من الرجال قوّامين على النساء لتكريس استتباعهن واستعبادهن، واستغلالهنّ جنسيًا.

ألا يكفي الأربعة عقودٍ من الزمن (على الأقل) التي تفصل بين الجدّة والحفيدة؛ لتخطّي تلك الأفكار البائدة التي جعلت النساء يغتربن عن أنفسهن وعن أنوثتهن، لتستنير عقولهن؛ فينهضن بأنفسهنّ إلى مستوى الإنسانية التي هي من حقهن شرعًا وقانونًا؟

النساء اكتفين فقط بالصيحات النسوية وشعارات التحرر، والاسترجال للفت النظر إلى معاناتهن، والاعتراف بدورهن وأهليتهن، لا سيما بعد أن نالت المرأة حقّ العمل والتعليم، ثم حقّ الاقتراع، وفق شروط المركزية الذكورية وقيمها. إن معرفة المرأة لذاتها واحتفاءها بأنوثتها وتقديرها حقّ قدرها، تعني استعادة سلطتها على نفسها، واعتبارها ذاتًا حرةً ومستقلة، وليست موضوعًا مندمجًا بذاتٍ أخرى متفوقة بإرادتها السلطوية.

يقول جورج طرابيشي “الأنوثة المبتورة تظل دومًا مكفوفة أو موءودة وكليمة”. أمّنا الأنثى التي تنكرت لأنوثتها، هي من كرّست فينا عبودية المرأة وذكورة الرجل.

الوعي الجمعي والمرأة

الوعي الجمعي والمرأة

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015