عندما تكون المرأة مُقاوِمة وسجينة
"سجينة الثوب الأحمر" هالة الفيصل

فلسطين/ موقع (صوت العروبة)- لا أرى عين الصواب ما يتردّد على ألسنة كلّ الذين يردّدون مقولةً شعبية ”السجن للرجال”. هذه المقولة غالباً ما تستخدم لتبرير الحكم بالسجن على أحد الأصدقاء أو المقرّبين أو أحد عناصر الحركة الوطنية. الهدف من هذه المقولة هو معنويٌّ، وأحياناً تلقائي، يرمز للشدّ من أزر هذا السجين ورفع معنوياته، والتخفيف من انقباض روحه.

السجن للرجال، هذا ما يسارع لقوله كل من يرغب بمواساة السجين، ولكن بأسلوب الدعم النفسي، لأن تحمّل معاناة السجن يعتبر في نظر الكثيرين أحد مقاييس الرجولة، فلسان حال من يردّد هذه المقولة يقصد بما معناه: أنت رجلٌ لا يهمّك السجن، مهما كانت ظروفه، رجولتك وصبرك وتحمّلك أقوى من ظلمة وقساوة السجن.

إن حصر تحمّل السجن ومعاناته وقسوته بالرجال فقط، فيه غبنٌ وتمييز اجتماعي من الرجال بحقّ النساء، فيه استخفافٌ بقيمة المرأة وقدراتها، ومفهومه الوحيد أنّ النساء قاصرات، عاجزات، يفتقدن قوّة الصبر والثبات والمواجهة، مثل الرجال، أي أنّ المرأة التي تتحمّل مخاض الولادة، والقادرة على قيادة المركبات الفضائية، وقيادة القاطرات والطائرات والسفن البحرية والغواصات، غير قادرةٍ على تحمّل عناء السجن.

لكن الواقع غير ذلك، فهناك الكثير من النساء في فلسطين ووطنا العربي اللواتي دخلن السجن، خاصةً سجينات الضمير، سجيناتٌ وطنيات قدّمنَ أمثلةً تُحتذى بتحمُّلِهنّ لعذاب السجون وظلمتها وظلامها، تحدّين السجّانين والسجّانات وجلاوزة السلطة. هناك الآلاف من النساء اللواتي خرجن من المعتقلات والسجون موشّحاتٍ بأكاليل الانتصار، ومنهنّ من قضين في السجون دفاعاً عن شرف هذه الأمة، منهنّ من حوّلن السجون إلى مدارس فكرية ووطنية.

هناك سجيناتٌ تحوّلن إلى مرجعياتٍ في ثباتهنّ، لكنهن فضلن البقاء في دوائر الظل، لم يلهثن وراء الشهرة وبريق الإعلام ودور النشر، اخترن القيام بالواجب الوطني، لكن خارج مساحات الضوء الإعلامي، وهناك نساء رأين عكس ذلك، من حقّهِنّ تصدّر الإعلام، والكشف عن هويتهنّ السياسية والنضالية، خاصةً السجينات السياسيات والمقاومات اللواتي قارعن ظلم الاحتلال، مثل الجزائريات الجميلات الثلاث –جميلة بوحيرد، جميلة بو باشا، جميلة بو عزة– أو قارعن النظام الحاكم مثل المصريات الكاتبة نوال السعداوي و الكاتبة فريدة النقّاش أو الكاتبة فتحية العسّال أو الكاتبة لطيفة الزيّات أو الكاتبة صافيناز كاظم.

أما المقاومة الفلسطينية التي ما تزال تقارع الاحتلال وتُسجّل في أرشيفات الشرف اليومي نضالها الذي لا يتعب ولا يكلّ، فقد تصدّرت مئات السجينات الفلسطينيات، تريز هلسة، أحلام عارف التميمي، الأسيرة سناء محمد شحادة والأسيرة قاهرة سعيد السعدي والأسيرة آمنة جواد منى والأسيرة لطيفة أبو دراع وريما رياض ضراغمة وايرنا نقولا سراحنة وغيرهن من الأسيرات، عدا عن المُقاومات أمثال ليلى خالد، فاطمة غزال، ميمنة عز الدين القسام، طرب عبد الهادي، عقيلة البديري، نبيه ناصر، الأختين مهيبة وعربية خورشيد، عادلة فطايري، يسرا طوقان، فاطمة أبو الهدى، نجلاء الأمر، حياة البلبيسي، جوليت ركا، فاطمة برناوي، شادية أبو غزالة، عبلة طه، لطيفة الحوراني، خديجة أبو عرب وغيرهن ولا ننسى الصبية عهد التميمي التي ما تزال بوجهها البريء تصفع الضمير العالمي.

هذا إضافةً إلى أعدادٍ كبيرة من سجينات الضمير في الوطن العربي، خاصةً في مصر والسعودية والسودان وتونس والمغرب وغيرها، ممن قارعن لهيب السجون في إسرائيل والأقطار العربية و أثبتن أنّ المرأة لم تخلق فقط كي تكون أماً وأسيرة المنزل، فبالإضافة إلى الأمومة المميزة، فهي عند الحاجة محاربةٌ شرسة في دفاعها عن حقوق شعبها.

هناك العديد من السجينات السياسيات قهرن السجّان بأقلامهن وبورق التواليت الذي استُخْدِم للتعبير عن إبداعاتهن –كما رأينا في كتاب مذكراتي في سجن النساء للكاتبة نوال السعداوي–، فكان لهنّ الفضل في ظهور نوعٍ جديدٍ من الأدب العربي، وهو ما عُرِفَ بأدب السجون، توأماً لغوياً وفكرياً لأدب المقاومة الذي ابتدعه الأدباء والشعراء الفلسطينيون، هنا في الداخل وهناك في الشتات.

نحني قاماتنا لكلّ امرأةٍ عربية قاومت الاحتلال، أو قاومت الظلم والاستبداد والقهر في أيّة عاصمةٍ عربية، لكننا  نحني هاماتنا أكثر لكلّ امرأةٍ فلسطينية مكافحة ومناضلة داخل مخيمات الفلسطينية، أينما كانت .. و هنا لا بد أن نتذكّر أول شهيدةٍ للحركة الطلابية في فلسطين، الشهيدة رجاء حسن أبو عماشة، رغم مرور حوالي ستة عقود على استشهادها لكنها لا تزال خالدةً في سجلات وضمائر الفلسطينيين.

نعم الشهيدة رجاء حسن أبو عماشة، إنها من مواليد بلدة ”سلمة” القريبة من مدينة يافا، وُلِدت عام 1939، ما يميّزها بأنّها أول طالبةٍ فلسطينية استشهدت وهي تحاول إنزال العلم البريطاني من فوق القنصلية البريطانية في مدينة القدس يوم 19/ 12/ 1955 .. في هذا اليوم اقتحم المتظاهرون الفلسطينيون مبنى القنصلية البريطانية في المدينة، احتجاجاً على إقامة حلف بغداد، ومحاولة النظام الأردني الالتحاق بهذا الحلف الاستعماري، فهبّ الشعب في الأردن خاصةً في الضفة الغربية وداخل المخيمات في المملكة، وشارك في هذه المظاهرات مختلف قطاعات الشعب الفلسطيني وفي مقدمتهم الحركة الطلابية التي نظّمت فعاليتها بشكلٍ ملفتٍ للنظر، كونها أدركت أنّ العمل الطلابي هو الرافعة السياسية الأولى والحاضنة المناسبة لمثل هذه الاحتجاجات الوطنية.

الشهيدة رجاء عاشت منذ عام 1948 لاجئة في مخيم عقبة جبر في أريحا، بعد أن سقطت قرية سلمة بأيدي العصابات الصهيونية. ومن أزقة مخيم اللجوء كبرت رجاء لتجد نفسها وشعبها تحت حكم استعمارٍ لا يرحم. وفي ظلّ هذه الظروف هجرت قريتها إلى مدينة أريحا، وافتتحت رجاء سجل شرف شهداء الحركة الطلابية الفلسطينية، فألهب استشهادها شوارع الوطن من أقصاه الى أقصاه. وقد واصل زملاؤها وزميلاتها أبناء الحركة الطلابية أداء واجبهم الوطني، والمشاركة بفعّالية في إلغاء المعاهدة البريطانية الأردنية، التي كانت تنصّ على أن يتولى قيادة الجيش الأردني ضباطٌ بريطانيون.

لم يذهب دماء الشهداء هدراً، فقد استشهد في اليوم التالي ثلاثة شهداء جدد وهم يدافعون عن شرف فلسطين والأردن، استشهدوا في مدينة بيت لحم، بعد أن حققت هذه الهبّة الشعبية المطالب الوطنية، أهمها إلغاء المعاهدة المُذلّة مع بريطانيا ومنع الأردن من الالتحاق بحلف بغداد، ووافقت الحكومة الأردنية على إجراء انتخاباتٍ نيابية، عبّر من خلالها الشعب عن خياره  حيث فازت القوى الوطنية بأغلبية مقاعد البرلمان، وتشكّلت أول حكومة وطنية برئاسة سليمان النابلسي.

استشهدت رجاء حسن أبو عماشة، وعمرها لم يتجاوز الخمسة عشر عاماً. وهناك على أحد سفوح تلال مدينة أريحا، يقوم ضريح في العراء، ضريح شهيدة الوطن رجاء، حيث كتب عشرات الشعراء ومنهم شاعر فلسطين عبد الكريم الكرمي ( أبو سلمى ) قصيدةً رثى فيها الشهيدة رجاء حسن أبو عماشة.

"سجينة الثوب الأحمر" هالة الفيصل

“سجينة الثوب الأحمر” هالة الفيصل

تعليق واحد في “عندما تكون المرأة مُقاوِمة وسجينة”

  1. يقول الدكتورة نهى سالم الجعفري:

    الشهيدة رجاء أبو عماشة من فلسطين هي خالتي أخت والدتي رحمهما الله. شكرا لكم على ذكر اسمها في مقالكم القيم.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015