كأن خلاصنا بيد نساء العالم العربي
الثورة.. أنثى

يوسف بزي/ تلفزيون سوريا- من يتذكّر تلك الصور الآتية من ليبيا في صيف العام 2012؟ آلاف النساء في الشوارع يرفعن شعار “نموت ولا نتراجع عن الانتخاب”. في أعرق الديموقراطيات قد لا نجد حماسة واندفاعة مماثلتين للمشهد الليبي هذا. بدت تلك الاستماتة من أجل الديموقراطية والاقتراع الحر، أشبه بالإيمان الديني.

في مصر، من الصعب جداً أن نرى صورة واحدة من أيام “ميدان التحرير”، في شتاء العام 2011، خالية من شابات مصر وسيداتها، اللواتي دفعن أثماناً باهظة منذ الأيام الأولى للثورة، من سالي زهران إلى شيماء الصباغ.

وفي بلد محافظ تثقله الأعراف القبلية والتقاليد الاجتماعية المتزمتة كاليمن، ليس هيناً أن تقود الشابة توكل كرمان مئات الآلاف من الرجال والشبان إلى ساحات الثورة عام 2011، سلمياً ومدنياً، بوجه سلطة الطاغية العسكري علي عبدالله صالح. شابة مزودة بميكروفون تواجه الدبابات.. وتتحول إلى واحدة من أيقونات الربيع العربي.

هنا، في سوريا، منذ أول تظاهرةٍ بسوق الحريقة في آذار 2011، ما من صورة للثورة بلا وجه أنثوي فيها.. مروراً بآلاف الثائرات والناشطات، أظهرت نساء سوريا تصميماً وعناداً للخروج والتعبير والفعل.

إن الطابع الشمولي للثورة التونسية ما كان ليتحقق لولا أن التظاهرات العارمة كانت تضم أساساً النساء العاملات وسيدات البيوت والطالبات الجامعيات. إذ أن وجودهن أضفى على الحراك الشعبي طابعه العمومي، عكس احتجاجات سابقة تقوم بها مجموعات شغب أو فئة هامشية وأقلوية.

إن أكبر مفاجأة للأنظمة السلطوية في العالم العربي، هي خروج النساء عن الصمت وعن السلوك السلبي المهادن. وجودهن في قلب تلك الأحداث هو الذي أسقط نظريات “المؤامرة الخارجية” أو التحريض السياسي الأجنبي، أو أن هذه التظاهرات بفعل دسائس دول مجاورة أو بفعل مجموعات حزبية محترفة ومنظمة، أو هي مجرد احتجاج محلي وموضعي. فمشاركة النساء الوازنة عدداً والواسعة النطاق وحضورهن في مقدمة الحدث، كانت إشارة قوية وحاسمة أن المجتمعات العربية تتغيّر.

تحولّت النسوة من دور الساكنات والضحايا إلى فاعلات في السياسة وقدوات ميدانيات وأيقونات ثورية، وبتن هن طليعة قوى التغيير. واضطرارهن إلى الانخراط في الثورات، دل على أن الأنظمة العربية القائمة أوغلت كثيراً في انتهاك كرامة مجتمعاتها وأمعنت في سلب الحقوق وفشلت في توفير الحد الأدنى من الحريات العامة أو الأمل بالمساواة والعدالة.

ومن الواضح أن مقياس نجاح الثورات أو فشلها، يرتبط إلى حد بعيد بالمكاسب أو بالخذلان الذي أصاب طموحات الثائرات. فنجاح الثورة التونسية الاستثنائي نستدل عليه بالمكاسب الحقوقية والسياسية التي نالتها النساء التونسيات، دستورياً وقانونياً. في حين أن الثورات المضادة، نجحت بالعنف والترهيب، في القضاء على هامش الحرية الذي ساد أبان الثورة أو أثناء المرحلة الانتقالية، وخير دليل على إعادة إنتاج التسلط والطغيان، هو خسارة النساء لمواقعهن وأدوارهن التي اكتسبنها في زمن الربيع المغدور، وعودتهن القسرية إلى الصمت والخضوع والإحباط.

رغم ذلك، لقد ذقن روعة حرية المشاركة في المعارضة المنظمة، وفي ممارسة التجمع وإنتاج صحافة مستقلة، وتجارب بناء مؤسسات ديموقراطية، أو حق “المبادرة” في المجتمعات المحلية والتطوع في الهيئات والجمعيات التي تعنى بالشأن العام. والأهم، أنهن ذقن استقلاليتهن الفردية وخروجهن عن الأدوار التقليدية والتقييدية، وتنكبهن وظائف وأعمالاً خطرة وغير مألوفة وتصدرهن الصورة العامة وشراكتهن في السياسة والأعمال الميدانية، إضافة إلى فرض حقيقتهن الخاصة ومطالبهن كـ نساء بحقوق جديدة وخطابهن المستقل.. هذه التجربة، ورغم الهزيمة المريرة لهذه الثورات، لا يمكن أن تُنسى أو تُمحى، وستشكل ذاكرة للنضال المستقبلي.

إن استهداف “داعش”، وما شابهها من تنظيمات متشددة وعنيفة، للنساء أولاً، يكشف أن قوى المعادية للتغيير وللديموقراطية وللحرية، تدرك بوعي عميق أن النساء هن الخطر والمصدر الأول للتمرد والثورة، هن الفارق الحاسم في الوجهة التاريخية التي ستسلكها المجتمعات. وبالإدراك نفسه، قامت الأنظمة الاستبدادية والمتجددة راهنا، باستهداف النساء، لا بوصفهن الطرف الأضعف، بل لأنهن مصدر شرعية التمرد على السلطة. هن اللواتي إن تمردن يضفين على التمرد سمة الشمولية ويمنحن الثورة قيمة أخلاقية وصواباً سياسياً وتعاطفاً إنسانياً.

الحقيقة “النسوية”، التي تفضح عجز السلطات عن التقدم إلى المستقبل وفشلها المتفاقم في مقاومة التغيير، تتبدى اليوم في أزمة السعودية الداخلية. صحيح أن جريمة اغتيال جمال خاشقجي وضعت حال السعودية تحت الضوء أمام العالم، إلا أن السجال حول أزمة نظام الحكم يشمل الأسئلة العميقة حول “استثنائية” هذه الأيديولوجيا الدينية المفرطة باللامساواة الاجتماعية والقانونية والسياسية، التي تتصف بها مكانة المرأة في المجتمع.

ويجب أن لا ننسى أن أهم “حراك” اعتراضي حدث في السعودية بالسنوات الأخيرة، قامت به مجموعات من الشابات السعوديات، حتى على المستوى الأدبي حين بدأ العالم العربي يقرأ الروايات المكتوبة ببراعة بأقلام كاتبات سعوديات بالغات الجرأة. إن جيلاً من الشابات السعوديات المتعلمات في أرقى الجامعات، اللواتي اخترن العودة إلى بلادهن أو اخترن البقاء في المنفى الاختياري، تحولن إلى مثالات لأقرانهن، وانخرطن في أنشطة إعلامية وثقافية واجتماعية تحمل خطاباً تحررياً، من حق قيادة السيارة إلى حق السفر بمفردهن إلى حق المشاركة السياسية وحق العمل.. إلخ.

إن الصدمة التي أصابت المؤسسة الدينية في السعودية كما السلطة السياسية، وأدهشتنا جميعاً، هي انكسار الصورة النمطية عن المرأة “الخليجية” المرفهة والمسرفة والقانعة بدورها “الحريمي”، ورفضها للبقاء في هذه الشرنقة، وإصرارها على الاعتراض والفعل وتحدي الوضع القائم والمخاطرة بكل “امتيازاتها” و”طمأنينتها”.

كان جلياً للسلطة هناك أن قواعد الضبط والإخضاع والسيطرة لم تعد مجدية، وأن التحولات في الوعي وفي التعبير والسلوك والثقافة، ستتحول إلى “سياسة”. ولهذا السبب ليس صدفة أن يكون أول المعتقلين في “العهد الجديد” هم النساء، وأكثر المطاردين على مواقع التواصل الاجتماعي هم الشابات.

نساء العالم العربي، يشكلن بديلاً “مخيفاً” عن الاستبداد والفساد والظلامية، كما عن العنف السلطوي والعنف التكفيري في آن معاً. كأنهن خلاصنا الأوضح في إصلاح سياستنا وديننا وأخلاقنا.

الثورة.. أنثى

الثورة.. أنثى

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015