كاتبات يضعن الأمومة على ورق
لوحة (Triple-Face Portrait) لسيلفيا بلايث

وفيقة المصري/ 7iber- قد لا تختلف الكتابة عن أي مهنة تزاولها الأم العاملة وتقضي جزءًا من الوقت منشغلة بها بعيدًا عن أطفالها، إلا أنها واحدة من تلك المهن التي تسمح للأم بإحضار أطفالها مجازًا إلى حيز العمل؛ إلى ضيق تلك الصفحة البيضاء، وإما أن تتسع بمزيد من الإلهام أو يزيدها عبء الأمومة والإحساس بالذنب ضيقًا. وفي حين أن الكثير من الأمهات الناجحات يؤكّدن أنهن قادرات على الموازنة بل والفصل -إذا اضطررن أحيانًا- بين الأمومة والعمل، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة والوضوح بالنسبة للأم الكاتبة، إذ بقدر ما تكون الأمومة تجربة ذاتية فريدة تثري وتعمّق من مشاعرها وأحاسيسها المتولدة جراء ارتباطها بكائن آخر وتجربة حضوره إلى هذا العالم، قد تمسي فيما بعد مزاحمة على كيان الأم وهويتها ومساحة الكتابة الخاصة التي تهرب إليها من العالم. فهل يمكنها الاحتفاظ بهذه المساحة وحدها أم يجب أن تكون مستعدة للتفاوض عليها واقتسامها بالتراضي مع أطفالها كما سبق واقتسمت كل شيء آخر؟

ولادة ذاتية

ترى الفيلسوفة والناقدة النسوية البلغارية-الفرنسية جوليا كريستيفا أن الأمومة تنطوي على مفارقة راديكالية بين الفردية والتعددية وبين التشابه والاختلاف. إذ توضح في مقالها «الأم ستابات»[1] نظرتها إلى تجربة الأمومة قائلة: «الأم عبارة عن حالة من الانفصال المستمر، انقسام حاصل في اللحم الذي يكسو جسدها، والذي يتبعه انقسام حتمي في اللغة. ثم هناك هذه الهاوية الأخرى التي تنشق بين الجسد وما كان في أحشائه: هذه الهاوية بين الأم والطفل (..) أحاول أن أفكر في عمق تلك الهاوية: أف دوار رهيب! ولن تصمد أي هوية بعده». إن تصور كريستيفا عن الهاوية هنا هي لحظة خروج الطفل من أحشاء أمه؛ اللحظة التي تنفصل بها الذات عن ذاتها ويشرع بعدها الصراع على الهوية الجديدة.

توافق الشاعرة والمترجمة المصرية إيمان مرسال على رؤية كريستيفا المتعلقة بالأمومة، إذ ترى أن الولادة لحظة تنشق بها الأم إلى نصفين، لكنها لحظة جوهرية في حياة كل أم ورحلتها في البحث عن هوية، فتقول في كتابها «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»: «صحيح أن الولادة ستشقك إلى نصفين. ولكن، أليس بحياة كل منا كسر ما، شرخ، كما يقول فيتزجرالد؟ أليس هذا الشرخ هو هويتنا التي نتحرك بها في العالم؟»،[2] تشير نظرة مرسال إلى أبعاد واقعية أخرى تتناولها خارج المتن الثقافي والنظرة المثالية المعتادة للأمومة، فتنتقد تلك المؤسسة التي تجبر الجميع على التعامل مع الأمومة ضمن إطار اجتماعي وأخلاقي يدين كل أم تمر بتجربة مغايرة، فالأمومة كما تصورها مرسال في كتابها تنطوي على كثير من الصراعات الشخصية والإسقاطات الخارجية التي تؤثر على هوية الأم في نهاية المطاف.

أمّا الشاعرة النسوية الأمريكية أدريان ريتش فتعتبر تجربتها في الأمومة ولادة لذاتها، فتقول: «كنت أحاول أن ألد نفسي، وبشكل ما كنت مصممة أن أقوم بذلك عبر الحمل والأمومة».[3] وفي كتابها الذي يجمع ما بين تجربتها الشخصية كأم ونظرتها النقدية إلى الأمومة كمؤسسة اجتماعية، تعبّر ريتش عن مشاعر القلق والغضب والإرهاق واللوم والضجر والانقسامات الداخلية التي شعرت بها تجاه نفسها وأطفالها.

وبالنسبة للشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث، فعلى الرغم من الاضطرابات النفسية الحادة التي سيطرت على حياتها وأدت إلى انتحارها المأساوي فيما بعد ومن كل مخاوفها أن تنجب أطفالًا مرضى أو مشوهين إلا أنها اعتبرت الإنجاب من أسعد التجارب التي مرّت بها في حياتها وكانت ترغب باستمرارها كما ذكرت في إحدى الرسائل إلى والدتها بعد ولادة طفلتها الأولى قائلة: «أشعر بأكثر الأحاسيس غرابة وكأنني وُلدت مرة أخرى مع فريدا».[4]

إلهام للكتابة أم إلهاء عنها؟

نظرًا لأن الكتابة وسيلة أساسية تحاول الكاتبة من خلالها استيعاب ذاتها وجسدها وما يدور من حولها فإن الكتابة عن الأمومة تضحي تجربة لا مفر منها لمعظم الكاتبات، وبقدر ما يمكن أن تكون تجربة روحانية تشبع الصفحات البيضاء وتغنيها فإن أعباء الأمومة اليومية قد تحولها إلى استنزاف جسدي وعاطفي خاصة في فترة ما بعد الولادة. فقد لا يكون هناك تعارض ظاهر بين الأمومة والكتابة كما ترى الشاعرة إيمان مرسال، إلا أن ثمة «تمزق» حاصل بين هوية الأم الكاتبة والكاتبة الأم يتمثل في «صراع على الوقت والطاقة. عندما تنجح الكاتبة في أن تكون أمًا ليوم ستشعر بالفشل تجاه ما لم تنجزه من قراءة أو كتابة، عندما يكون لها يوم لنفسها ستتألم من أنانيتها. عندما تستطيع في يوم ثالث أن تكتب بينما يجلس طفلها على ركبتيها، وأن تلعب معه لعبة الاستغماية بينما تفكر في تغيير كلمة في قصيدة، لا توجد ضمانة أنها لن تشعر بالذنب أو الفشل في فعل ذلك».[5]

إن عدم وجود تعارض ظاهر لا يعني بالضرورة سهولة الجمع بين المهمتين، إذ إن ما تتطلبه الكتابة من انعزال وتركيز يمسي صعب الإدراك بوجود الأطفال وحاجتهم للاهتمام والرعاية الدائمين. تخبرنا مرسال عن الشاعرة أدريان ريتش وإحباطها الدائم الذي تكلمت عنه في أماكن متفرقة من كتابها لعدم استطاعتها أن تجد وقتًا لذاتها «وطفلها الذي يرفض أن تكون آخر بالنسبة إليه فهو يترك ما في يده ويقفز على الآلة الكاتبة بمجرد جلوسها للعمل».[6] وعليه، فإن عدم قدرة الطفل على تصور أو تقبل أمه «كآخر» حتى لو رغبت الأم بذلك يصعّب من عملية رسم الحدود بين الجسدين، ويجعل من فكرة الانعزال من أجل الكتابة رغبة شبه مستحيلة.

تسلّط الكاتبة التركية إليف شافاق الضوء على هذا الصراع الأبدي بين الكتابة والأمومة في روايتها «حليب أسود» من خلال الكتابة عن تجربتها الشخصية واكتئاب ما بعد الولادة الذي أصابها وأبعدها لفترة عن شغفها بالكتابة. تعكس شافاق في كتابها صراعًا قائمًا لا يرتبط بزمن محدد أو ثقافة دون غيرها، إذ إن معاناة الأم الكاتبة كما تصورها ممتدة من الشرق إلى الغرب وحتى هذه اللحظة. تقول شافاق في مقدمة الكتاب معبرة عن التناقضات والمشاعر المتضاربة التي اعترتها منذ معرفتها بخبر الحمل: «يوم عرفت أني حامل، ارتعبت المرأة الكاتبة بداخلي، فيما اضطربت المرأة المجاورة لها بسعادة، أما داعية السلام فأبقت نفسها غائبة، وراحت المرأة المدنية داخلي تفكر بأسماء عالمية للطفل، والمرأة الصوفية إلى جوارها تهلل للخبر، في حين راود القلق المرأة النباتية في داخلي بشأن احتمال أن أضطر لأكل اللحوم، وأخيرًا، لم تكن تلك المرأة المترحلة فيَّ تريد شيئًا سوى أن تقف على قدميها وتركض بأسرع ما تستطيعه. لكن هذا ما يحدث عندما تحملين: تستطيعين الهرب من كل شيء ومن أي أحد، سوى التغيرات التي تطرأ على جسدك».[7]

تضحي حرية التصرف في الجسد مسألة جوهرية ستجد الكاتبة نفسها مجبرة على مواجهتها في مرحلة ما سواء قبل الولادة أو بعدها، وفي خضم هذا التمزق بين الهويتين وتحت وطأة الصراع القائم بين شغف الكاتبة وواجب الأم، وفي مفارقة بين حليب الأم والورقة البيضاء أمام الحبر الأسود والاكتئاب الذي قد يسود حياتها بعد الولادة، تقدّم شافاق الأمومة للعالم مؤكدة أن الأم الكاتبة لن تتغلب على كل ذلك إلا عبر الكتابة فقط لا غير، فتقول: «اخترت لهذا الكتاب عنوان حليب أسود لسببين أولهما أنه يتعامل مع اكتئاب ما بعد الولادة الذي تبين لي خلال التجربة التي عشتها معه بأن حليب الأم ليس دائمًا ناصع البياض كما يُحب المجتمع تصويره. ثانيهما للخروج من هذا الاكتئاب وبسببه كنت قادرة على التقاط الإلهام ومن هذا الحليب الأسود تمكنت من تطوير نوع خاص بي من الحبر للكتابة».

عندما تتصالح الكاتبة مع أمومتها ستصير بلا شك مصدر إلهام لها، وستجد من خلالها مدخلًا فريدًا لعالم الكتابة، وفي النهاية فإن ما يجمع الأمومة بالكتابة ليس أمرًا عارضًا وإنما استجابة طبيعية لنداء داخلي، لا تقوى الأم ولا الكاتبة على تجاهله. علّقت الكاتبة والروائية الكويتية بثينة العيسى على صورة نشرتها مع والدتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك في عيد الأم العام الماضي قائلة: «الأمومة مثل الكتابة. إنها عملية استدعاء متواصلة لأمومة النساء السابقات؛ أمي، جدتي، أم جدتي، جدّة جدّتي (..) أنا مجرد حلقة في سلسلة من النساء؛ حمّالات الحكايا، حارسات الذاكرة (..) الأمومة مثل الكتابة؛ إنها محاورة مع أمومة سابقة وانفتاح على أمومةٍ آتية. عملية استدعاء أبدية للذاكرة، وهي المكان الذي تكتسي فيه المجتمعات بالخصوصية، وتحظى بالهوية والتفرد». إن ارتباط الأمومة بالكتابة كما ترى العيسى يرقى بهما إلى منزلة الموروث الجمعي، فالأمهات يحفظن الحكايا ويصنّ الذاكرة وما الكتابة إلا عملية استدامة واستدعاء لهذا الموروث الثمين. من الجدير بالملاحظة أن بثينة العيسى (وهي أم لثلاثة أطفال) واحدة من الكاتبات اللاتي وظفّن أمومتهنّ بغزارة في عملية الكتابة، ويظهر ذلك جليًا من خلال تركيزها على ثيمة الأم في رواياتها مثل: «الجنة تحت أقدام الأمهات» عام 2009 و«عائشة تنزل إلى العالم السفلي» عام 2012.

في مقابلة أجريت مع الكاتبة البريطانية زيدي سميث (وهي أم لطفلين) سئلت عمّا إذا كانت الأمومة قد أثرت على كتابتها، فأجابت أن تجربة الأمومة كانت «نافعة جدًا» بالنسبة لها وتابعت: «عندما أفكر في الكاتبات اللواتي أحبهن، تخطر على بالي كاتبة مثل أورسولا لي جوين. لقد كانت أمًا لثلاثة وعاشت حياة بيتوتية تمامًا. أستطيع أن أرى أطفالها من خلال كتبها، وأدرك قيمة تجربتها كفتاة وامرأة وأم وعجوز. ثمة شعور غامر ينتابني عند قراءتها». وتروي سميث قصة أغضبتها عندما علّق أحد الكُتّاب على حملها وما إذا كان الشعور بالقلق يجتاحها لأنها ستضيّع كثيرًا من الوقت وستتخلّف عن الكتابة، فأجابته قائلة: «نعم، أعتقد ذلك، ولا بد أنك قلق أيضًا لأنك تفتقر تمامًا للتجارب الإنسانية وها أنت ستبلغ الأربعين من عمرك، ثم الخمسين!»، وعلى ما يبدو فإن ما قالته سميث قد أربك الكاتب بل وأخافه حسب قولها، ولكنها كانت إجابة ذكية لإيقاف رجل يتهكم على حياة كاتبة اختارت أن تكون أمًا في الوقت ذاته.

الأمومة بعيون رجولية

يقال أن عملية الكتابة كالحمل والولادة، ولكن هل يمكن القول إن الكُتّاب لا يستطيعون أن يجربوا شعورًا شبيها بالولادة والأمومة إلا من خلالها؟ يكتب الرجال أيضًا عن الأمومة والأمهات، وغنية عن الذكر أسماء الشعراء والكُتّاب الذين كتبوا عن عظمة الأم وتفرد منزلتها في قلوبهم. إلا أن الأمر يختلف عندما تصبح زوجاتهم أمهات، فالأمومة في هذه الحالة ستكون أبعد قليلًا عنهم من تجربة الأبوة الجديدة التي تشغلهم، ولكن حينما يلتفت الكاتب بتعاطف إلى زوجته ويشعر بأوجاع الحمل والولادة وأعباء الأمومة التي تعاني منها فليس أمامه إلا الكتابة عما رآه متأثرًا. يصف الكاتب الفلسطيني مريد البرغوثي في كتابه «رأيت رام الله» تجربة ولادة زوجته الكاتبة المصرية رضوى عاشور لابنهما تميم قائلًا: «كانت الولادة متعسرة. رأيت بعيني وجع الولادة فشعرت أن من الظلم أن لا يُنسَبَ الأطفال إلى الأم. لا أدري كيف اغتصب الرجل حق نسبة المولود لنفسه؟ ولم يكن شعوري مجرد رد فعل مؤقت على رؤية أم تتعذب في ساعات الوضع . ما زلت أومن إلى الآن أن كل «مولود» هو ابن «والدته». وهذا هو العدل».[8]

وعلى الرغم من أن كلام البرغوثي مؤثر وعلى درجة عالية من التعاطف في تطرقه إلى موضوع خاص كولادة زوجته، إلا أن الكلام عن تفاصيل عملية الولادة مغيّب ومن الواضح أن موضوعًا كهذا ما زال يعتبر تابوهًا في الأدب. تتحدّث باميلا إيرنز في مقالها «لماذا تتغيّب مشاهد الولادة عن الأدب؟» عن الكليشيهات التي يلجأ إليها كُتاب الأدب المعاصر لوصف رحلة الذهاب إلى المستشفى والصراخ والألم الذي تشعر به المرأة الحامل وما إلى ذلك لتجنّب الخوض في تفاصيل عملية الولادة والمعاناة الهائلة التي تشعر بها المرأة أثناءها، ولكنها تذكر بعضًا من الكتاب الذين لم يستبعدوا قصص المخاض والولادة مما كتبوه. فمثلًا يأخذ الكاتب الروسي الشهير تولستوي في روايته «آنا كارنينا» عام 1877 ثلاثة فصول لوصف مخاض كيتي سكيرباتسكي في « … مقاطع أظهرت تشويه مرور الوقت بشكل جميل… والرعب والانبهار الذين هُما جزء من أي عمليَّة ولادة».

مما لا شكّ فيه أن كتابة الرجل عن الولادة والأمومة تختلف اختلافًا كبيرًا عن كتابة الأم، وفي النهاية ما هي إلا محاولة للتعبير عن تجربة شهدها بدافع التعاطف والمؤازرة، وقد لا تختلف كثيرًا عما تكتبه امرأة لم تكن أمًا ولم تجرب شعور الأمومة قط. وعلى الرغم من كل الذي كتب عن الأمومة والولادة وما يتعلق بهما، يظل هناك أسلوب فريد لا نستطيع تمييزه إلا من خلال ذلك الورق الذي يعبق برائحة الحبر والدم ويقطر حليبًا بدرجة حرارة الغرفة التي تجلس فيها كاتبة بعد أن ينام طفلها لتكتب.

 لوحة (Triple-Face Portrait) لسيلفيا بلايث

لوحة (Triple-Face Portrait) لسيلفيا بلايث 

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015