لماذا تستمر البطريركيّة؟
لماذا تستمر البطريركيّة؟‎

مي عبد الكريم محمود/ awanmedia- تُعدّ عالمة الأخلاق وعالمة النفس الأميركية كارول غيليغان واحدةً من أقوى الأصوات النسوية المعاصرة. تُرجم كتابها “بصوت مختلف” (1982) إلى 16 لغة وبيعت منه أكثر من 700 ألف نسخة حول العالم.

في كتابها الأحدث “لماذا تستمر البطريركية؟” (2018)، تطوّر غيليغان، بمشاركة عالمة النفس ناومي سنايدر، معالجةً سيكولوجيةً جديدة لمفهوم الهيمنة الذكورية. يرى الكتاب أن سبب ديمومة البطريركية لا يعود إلى امتناع أصحاب الامتيازات والسلطة التنازلَ عن مكتسباتهم منها فقط، بل لأن لهذا النظام الأبوي وظيفةً تلبي حاجةً نفسية. فعندما تُلزم البطريركية بالتضحية بالحبّ تحت تأثير نظامها التراتبي (كما في حال تضحية النبي إبراهيم بولده استجابةً لإرادة الرب، وتقديم الملك الإغريقي آغاميمنون ابنته قرباناً للآلهة)، تجنبُنا الضعف الذي توقعُنا فيه العلاقةُ العاطفية، وتحمينا بالتالي من التعرّض لتجربة الفقدان.

تعريف غيليغان للبطريركية

تعرّف غيليغان النظام البطريركي على أنه ثقافة قائمة على ثنائيّة الجندر (ذكورة وأنوثة)، وعلى الهرمية. البطريركية إذاً إطارٌ أو عدسةٌ تقودنا، من ناحية، إلى النظر إلى الطاقات البشرية على أنها إما ذكورية أو أنثوية وتميز الذكورية منها، ومن ناحية أخرى، تعلي من شأن بعض الرجال على حساب رجال آخرين (البيض على السود، الأب على أبنائه)، وكذلك من شأن جميع الرجال على النساء. كما توجب البطريركية الفصل بين الذات والعلاقة العاطفية: فيكون للرجل في الواقع ذات وللمرأة نكران للذات وتعلّقٌ عاطفيٌ غايته تلبيةُ احتياجات الرجل.

تستعين غيليغان في هذا الكتاب بمباحث علم النفس والتحليل النفسي لشرح أفكارها ودعمها، كما أنها تحيل إلى الأدب وكتّابه الكبار. فإلى جانب سيغموند فرويد، وميلاني كلاين، وجون بولبي، وأنطونيو دمازيو، هنالك دوستويفسكي، وتولستوي، وإيميلي دكنسن، وفيرجينيا وولف.

في مقدمة الكتاب، تورد غيليغان شهادتين لشابٍ وفتاةٍ هما آدم وجاكي ليكونا نقطة انطلاقها وإضاءتها على أهم مفهومين لديها: التعلق العاطفي عند المراهقين، والصمت عند المراهقات.

حكاية آدم

في نهاية خريف 2016، وعشية انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة، يصاب الكثيرون بالصدمة وخيبة الأمل، ومنهم آدم، الطالب في السنة الثالثة في كلية الحقوق، ما يجعله ينكفأ على نفسه ويراجعها. يقرر آدم حينها أن تكون ورقته البحثية المشاركة في ندوة “مقاومة الظلم”، عن خيانة الحب والتعلق العاطفي في ظل السلطة البطريركية.

كان لآدم صديق طفولة مقرب هو آولي، تعود صحبته له إلى عامهما السادس. يستذكر آدم سنوات صداقتهما وكيف أصبحا كما الأخوة يأتمنان أسرارهما الخاصة، وكيف أنه اعتمد على تشجيعه ومساعدته ليتمكّن لأول مرةٍ من المشاركة في تجربة أداءٍ للغناء المنفرد في مدرسته.

ومع بدايات السنة المدرسية في الصف العاشر، يقول آدم “أقدمت لأول مرة على الابتعاد عن آولي. وحدث ذلك بعد أن تأكد لي من فتياتٍ كنّ معه في المدرسة ما كنت أشكّ به سابقاً، وهو أن آولي كان مثلياً. وأصبحت بعد ذلك أصفه على أنه مجرد صديقٍ يلعب معي الكرة في الفريق نفسه لأبيّن أن علاقتي به كانت بحكم الرياضة والمنطقة الجغرافية ليس إلّا. ويذكر آدم إخباره جده في حينها بأنه لم يعد لديه صديق مقرب كما في السابق. وفي السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية، توقف الشابان عن التواصل نهائياً ولم يبق بينهما سوى عدد من كلمات التهنئة يتبادلانها مرتين بالسنة في عيد ميلادهما. عندما يستعيد آدم تلك الذكريات الآن، يعتصره الألم من قراره قطع علاقته بآولي، لشعوره بأن القرار كان حينها حدسياً أكثر منه دقيقاً. “لقد نفّذت بالضبط ما كان يفترض مني تنفيذه. ابتعدت عن أعز صديقٍ لي في المرحلة العمرية التي تمنع أن يكون للأولاد أصدقاء مقربين حميمين، لا سيّما أن هذا الصديق خالف قانون الحب عندنا”. بقي آدم بعدها يعيش تحت وطأة حزن عميق جراء ذاك القرار.

يقول لقد شعرت حينها بشيء يأمرني بأن أفصل نفسي عن عواطفي، ولكني لم أدرك ماهيّة هذا الشيء وكم كان سيضحكني أو يثير استغرابي لو سمعت من يقول لي إن تلك القوى التي كانت تؤثر عليّ تعود إلى 450 عاماً قبل الميلاد.

يضيف آدم: في واقع الأمر لقد تربيت داخل إطار بطريركي وذكوري من دون أن أنمّي في داخلي رأياً واعياً حول الموضوع. وهنا تكمن مشكلة البطريركية. فقوّتها، وإن كانت جماعية وواسعة النطاق، إلا أنها غير محسوسة ونتائجها مباشرة ومتفشية في الوقت ذاته. ويمكن القول إن المذنب يبقى شبحاً وإن كانت آثاره بادية للعيان ولا شك فيها.

تشبه حكاية آدم التي أوردتها غيليغان الكثيرَ من مثيلاتها التي اختبرها مراهقون ممن تحدثت معهم الباحثة في علم النفس، نيوب واي، وعرضتها في كتابها “أسرار دفينة” (2011). تبين قصص أولئك الفتية كيف يفقد بعض المراهقين، عند اقترابهم من سن الرشد، الثقة بأصدقائهم الذكور بعد أن كانوا في سنوات المراهقة الأولى لا يحتملون الحياة من دونهم، وذلك لأنهم باتوا على شفا دخول مرحلة الرجولة الحقيقية. فالأحاسيس الرقيقة والصداقات الحميمة هي للبنات وللمثليين فقط.

حكاية جاكي

في ورقتها المقدَّمة إلى ندوة “مقاومة الظلم”، تعلن جاكي، باحثة الدكتوراه في علم الاجتماع، عن غضبها إزاء الصمت الذي التزمته طويلاً عقب تعرّضها للاغتصاب. فعندما كانت طالبة في مدرسة النخبة، اغتصبها توم، أحد رفاقها في المدرسة. “كانت تعتبر ذاك الرجل صديقاً لها، لكنه كشف عن وجهه الحقيقي في ليلةٍ ما، وفرض نفسه عليها رغم صرخاتها وتوسلاتها”.

لم يكن وقوع الاغتصاب محلّ شكٍّ بذاته، ولكنها تذكر في ورقتها أن ما يحزّ في نفسها هو شعورها بأنها كانت مرغمة على تجاوز الأمر وعدم إثارة الضجة حوله كي لا تؤذي توم. فعادت إلى المدرسة مطأطأة الرأس، وأغلقت فمها. “لم أكن راغبة بالاهتمام بالموضوع كي لا أقرّ بأني كنت ضحية اغتصاب، أو أقتنع أن الشخص الذي أعرفه منذ أكثر من ثلاث سنوات بإمكانه أن يكون متهوراً وبلا ضمير إلى تلك الدرجة”.

تعترف جاكي، في قرارة نفسها، بأنها حمته على حسابها عندما تركته يواصل حياته كما لو أن حادثة الاغتصاب لم تحدث. ولذا فهي تتساءل “لم كان عليّ الالتزام بطقوس تجعلني لا أعلم ما كنت أعلمه؟ أنوثتي هي التي أباحت اغتصابي، لأنها ملكيّة ذكوريّة وهي التي فرضت عليّ التزام الصمت، فالأنوثة تعني الطيبة وحماية الرجل من أخطائه وطيشه”.

بالنسبة لآدم، كانت امتيازات الامتثال للهيمنة الذكورية بيّنة وواضحة: لو أنه بقي على علاقة قوية بآولي، لوُصم بالمثلية، أو لقيل إنه لم يكن رجلاً حقيقياً. أما جاكي، فلو أنها أصغت إلى الصوت الذي في داخلها وتحدثت عن مغتصبها، لوُصفت بالمتهورة، أو لاعتُبرت أنانية تدفعها الرغبة في تدمير حياة مغتصبها. لكن صمتها كان أقرب ما يكون للغرق بحسب قولها، وخيانةً بجميع المقاييس.

الاكتشافات الثلاثة

تذكر غيليغان أن بحثها قادها إلى ثلاثة اكتشافات. أوّلها أن قوانين البطريركية وسيناريوهاتها في ما يخص الذكورة والأنوثة ـ أي البناء البطريركي الذي يحدد الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها الرجل الشريف والمرأة الطيبة ـ تتطابق مع ما شخّصه عالم النفس جون بولبي* على أنه استجابات مرضيّة للفقدان أو الخسارة، أي قطع الارتباط العاطفي (للرجل) والعناية القهرية (للمرأة). يقول ثاني هذه الاكتشافات إن التنشئة على الذكورة والأنوثة وفقاً للنظام البطريركي تقوّض القدرة على جبر الانكسار الذي يصيب العلاقات، لأن هذه التنشئة تحثّ الرجل على فصل عقله عن عواطفه، وتحثّ المرأة على التزام الصمت حيال ما تختبره أو تعرفه. وترى غيليغان ثالثاً أن مقاومتنا لاستيعاب قوانين الجندر البطريركية تسلك نفس مسار ردود أفعالنا إزاء الفقدان الذي يُستهلّ بالاحتجاج. وعندما يُثْبت الاحتجاج عدم جدواه، يتحوّل إلى يأسٍ، وينتهي، من ثمّ، إلى فضّ العلاقة العاطفية.

لماذا تستمر البطريركية إذاً؟

تشخّص غيليغان السبب الذي يجعل البطريركية تُفقدنا العلاقة العاطفية من ناحية، وتعمل من ناحيةٍ ثانية على جعل هذا الفقدان أمراً لا يمكن إصلاحه. يرفض الإنسان أن يكون محبوباً وموضع اهتمامٍ لاعتقاده أنه غير قادر على الخروج معافى من فقدانه الحبيب وخسارة علاقته به. والحال هو أنك عندما ترغب بشخصٍ وتشعر بالحاجة إلى أن تكون معه، فهذا يعني أنك تضع أحاسيسك على محكّ اختبارٍ عسير، فتصبح سريع التأثر وعرضةً للعطب العاطفي. وقد تصاب بأذى عميق إذا ما جوبهت بالصدّ أو الرفض، أو إذا ما قيل لك “أنا معجب بك ولكني لا أحبك”. توضح غيليغان في بحثها هذه المفارقة. يكون التخلي عن العلاقة من أجل الفوز بـ”علاقات”، أي بموقعٍ داخل النظام البطريركي. هكذا تملي قوانين البطريركية وسيناريوهاتها على الرجل، وعلى المرأة، ما ينبغي عليهما فعله للبقاء في حمايتها (مثلما كان النبي إبراهيم محمياً من الرب). فالبطريركية مصدر فقدان الارتباط العاطفي، كما أنها مصدر الوقاية من المزيد من الفقدان. هي مصدر الصدمة وآلية دفاعنا في مواجهة المزيد من الصدمات الأخرى.

البطريركية والديمقراطية

هذا الكتاب هو، في واقع الأمر، وليدٌ لحدثين متزامنين ومتناقضين. أولهما تهم التحرّش الجنسي التي أطاحت بالمنتج الهوليوودي العملاق هارفي واينستين، وثانيهما فوز دونالد ترمب في الانتخابات الأميركية. هو محاولةٌ لفهم هذا التناقض الذي شهدته أميركا والعالم الغربي بين انهيار أحد أركان النظام البطريركي القائم على تكميم أفواه النساء ضحايا الاعتداء الجنسي، وبين صعود عقليةٍ ذكوريةٍ عدائيةٍ، متمثلة بترمب إلى قمة هرم السلطة التنفيذية في أكبر دولةٍ ديمقراطيةٍ في العالم. يشير هذا التناقض إلى تطبيقٍ خاطئ للديمقراطية وخروج عن غايتها الجوهرية المتمثلة في الإصغاء لأصحاب الصوت المختلف والأكثر هشاشةً وضعفاً في المجتمع. في هذا الكتاب تتمم كارول غيليغان دفاعها الذي تخوضه منذ أربعين عاماً، كنسويةٍ من الجيل الثاني، عن النساء كما عن المهمشين/ـات وغير المرئيين/ـات والمنسيين/ـات.

هامش

* تستعير غيليغان مفهومي جون بولبي عن التعلّق والفقدان (John Bowlby, attachment and loss) وتقاربهم بالوظيفة السايكولوجية للبطريركية. وتوضح أن الانفصال (detachment) هو عرض لفقدان سابق وفي الوقت نفسه آلية دفاع ضد الألم المتسبب عن فقدان مستقبلي.

لماذا تستمر البطريركيّة؟‎

لماذا تستمر البطريركيّة؟‎

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015