ما الذي يجعل بعض الرجال يظنون أنهم يفهمون أكثر من النساء؟
مفهوم «الفسرجة»أو ال«mansplaining»/ رسم: شيماء العلوي

عفاف بوعكادة/ Sekka Magazine- «لا ليس هكذا، دعيني أشرح لكِ كيف..»، «هل كنت تعلمين أن..»، «ما أدراك أنتِ أصلًا؟»… هذه العبارات وأكثر ليست غريبة علينا نحن النساء. حتى أنني أستطيع الجزم أننا جميعاً وبدون استثناء كنّا عِرضةً لتعليقٍ متعالٍ من طرف رجلٍ ما، يظنّ أنه يفهم أكثر منّا، على الأقل لمرة واحدة في حياتنا.

وبالرغم من أنّ هذه الظاهرة متجذّرة منذ قرون في أغلب المجتمعات، وخصوصًا تلك الذكورية منها، إلا أن الكلمة التي تدلّ عليها لم تظهر إلًا مؤخراً.

«Mansplaining» هو مصطلح هجين يمزج بين الكلمتين الإنجليزيتين «man» بمعنى رجل، و«explaining» بمعنى شرح، وهو يصف الطريقة التي يتحدّث بها الرجل للمرأة ليشرح لها موضوعاً معيّناً بنوع من التعالي والعجرفة، انطلاقاً من فكرة أنها لا يمكن أن تكون على دراية.. فقط لأنها امرأة.

غالباً ما يحدث الmansplaining خلال مناقشة المواضيع التي يُنظَر إليها على أنها «رجالية»، وبعيدة عن «اهتمامات النساء»، مثل مجالات المال والأعمال، والسياسة، والدين، والرياضة على سبيل المثال، بل وحتى في بعض الأحيان مواضيع تخصّ المرأة بشكل مباشر مثل الدورة الشهرية أو الإنجاب مثلًا.

أصبح هذا المصطلح منتشرًا بكثرة في الآونة الأخيرة، ليتم إدراجه في قاموس أكسفورد سنة 2018. غير أنّ ظهور المصطلح لأول مرة- بحسب قاموس أكسفورد- يعود إلى سنة 2008 خلال محادثة ثنائية تمّت بين مدوّنَين على منصة LiveJournal.

هل ل«Mansplaining» مقابل باللغة العربية؟

إذا كان لهذا الفعل مصطلحاً يمثّله ومعترفاً به في اللغة الإنجليزية، فإنّه في لغتنا العربية لا زلنا نفتقر إلى وجود كلمة عربية بعينها تصف بدقة المعنى المُراد منها. في هذا الصدد، قامت الدكتورة مريم أبو العز، مترجمة وباحثة في مجال اللغويات ومحاضِرة، بطرح سؤال على حسابها على تويتر تدعو فيه متابعيها وزملائها إلى اقتراح ترجمات عربية لكلمة Mansplain. جاءت الإجابات متنوّعة بين «تفسير ذكوري»، و«فتي رجال»، و«فسرجة». 

تقول الدكتورة مريم: «لدي بعض التحفّظات فيما يخصّ بعض الترجمات المتداولة حالياً. مثلًا «تفسير ذكوري» له دلالات مرتبطة أساساً بالدين، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بتفسير إحدى الآيات القرآنية. لذلك أرى أنه من المهم الوقوف عند هذا المصطلح، والبحث عن ترجمة مناسبة له. أنا لست ضد الاستعارات من لغات أجنبية، بالذات عند استخدام مفردات تقنية محضة كموبايل وكمبيوتر مثلًا. في نفس الوقت يجب [علينا] الاجتهاد أكثر في بعض الأحيان، واستحداث مشتقات خاصة باللغة العربية».

عندما سألت الدكتورة مريم عن رأيها بخصوص الترجمة التي تجدها مناسبةً أكثر لكلمة «mansplaining»، أخبرتني: «mansplain هنا تأخذ عدّة اشتقاقات، فهي فعل ومصدر ومفعول به، لذلك يجب البحث عن كلمة عربية يمكن تضمينها في كلّ هذه القوالب دون الضرورة إلى تغيير الكلمة كلّ مرة. لقد أخذتُ جميع الاقتراحات على تويتر ووضعتها في هذه القوالب. أغلب هذه الاقتراحات كانت عبارة عن دمج لكلمتين معاً، باستثناء اقتراح «إِفْكَوكَر» الذي كان مبنيًا على جذر عربي فصيح على وزن «إِفْعَوعَل»، على الرغم من اعتراض مجموعة من الناس الذين كانوا ضدّ فكرة استحداث جذرٍ جديد. لكن بعد التدقيق أكثر في هذه الترجمة تبيّن لي أنها ليست بفعل متعدّي، وهذه مشكلة، لأن الناس لن يفهموا معناها إذا تمّ استخدامها في جملة مكونة من فعل وفاعل».

وتضيف: «أنا شخصياً أرى أن «فسرجة» هي أكثر مصطلح مناسب للاستخدام والأقرب لـ mansplaining».

عندما تصير «الفسرجة» ثقافة متجذّرة في المجتمع

بعد أن حسمت أمري بخصوص الكلمة العربية التي سأستخدمها من الآن فصاعداً، جعلني الأمر أحاول أن أتذكّر جميع تلك المرات التي صادفت فيها موقفًا «تفسرج» عليّ فيه رجلٌ ما. العجيب في الأمر أنّ الأمثلة كانت عديدة ولا تُحصى؛ لدرجة أنّي أدركتُ أنني «اعتدت» الأمر وأصبح جزءاً لا يتجزء من حياتي اليومية. آخر محادثةٍ أستطيع تذكّرها، ترجع إلى بضعة أيام من كتابتي لهذا المقال، حيث كنتُ في اتصالٍ هاتفي مع محلٍ صغير متخصص في بيع منتجات صحيّة وعضويّة. عندما بدأتُ أسألُ عن الفواكه الجافة والحبوب التي أتناولها في إطار حميتي -مع العلم أنني أتبع حمية صحية منذ أكثر من سنة من الآن، يعني أنني ملمّة بجميع المعلومات المتعلّقة بكل ما أتناوله- أخبرني صاحب المحل «لكن هذه كمية كبيرة إذا تناولتُها جميعها في مدّة قصيرة فإنّكِ بالتالي لا تتبعين حمية صحية لأنها منتجات غنية بالسعرات الحرارية»، وكأنني سأستهلك ٢ كيلو من الفواكه الجافّة في يومين فقط، لأقول عن نفسي أنني أتبع رجيماً صحيّاً. طبعاً أنا على علمٍ بكل هذا، وأعرف بالضبط القيمة الغذائية والحرارية لكلّ منتج طلبتُه منك سيدي، كما أنني أعرفُ كيف أحافظُ على توازنٍ سليم في تغذيتي وأكلي. اكتفيتُ بقول «طبعاً أنا أعرفُ كلّ هذا، وإلّا ما وجدتني أقومُ بهذه الطلبية من الأساس».  لكنني بقيتُ أفكّر في الأمر طوال اليوم.

في الوقت الذي ربما لم أجدْ الكلمات المناسبة للردّ على مُفَسْرِجي، فإنّ ريما (إسم مستعار) لم تستطع ضبط لسانها عندما قام عمّها بتعليقٍ وجدتهُ هي جارحاً وفيه تنقيصٌ من قدراتها. تحكي لي: «لقد وقعت الحادثة منذ ثلاث سنوات من الآن، كنتُ آنذاك في سنتي الأخيرة من الجامعة. أنا إنسانة تهوى وتعشق كرة القدم. أتابعُ جميع المباريات المحلية، والعالمية، وأخبار اللاعبين، والأندية. لديّ إلمام واسع بالموضوع، ولا أحد يمكنه مجاراتي في هذا المجال. أذكرُ أننا كنّا في عزومة عائلية، وبدأ الحديث عن واحدٍ من الأندية الأوروبية المفضّلة لديّ، وفي خضم تبادل الآراء حول أداء أحد اللاعبين، تدخّلتُ وعبّرتُ عن وجهة نظري بهذا الخصوص، لأتفاجأ بعمّي يقاطعني من طرف الغرفة قائلاً: «انتي شو تعرفي؟ هذا لاعب ما قام بولى شي.. لا تكوني مثلو وروحي جيبي لنا شي كاسة شاي نشربها!».

تكملُ ريما: «هنا استشاط غيظي، ولم أشعر [بنفسي] عندما أجبته «أنت الي أصلاً شو تعرف، حتى اسمو ما عرفت تنطقو صح». في الحال رمقني أبي بنظراتٍ حادّة وفهمتُ أنه كان عليّ الانسحاب قبل تفاقم المشكلة». 

تضيفُ ريما: «منذ ذلك اليوم أصبح أبي يمنع عليّ التواجد في مجمع الرجال، وعمّي لم يكلّمني أبداً منذ ذلك اليوم، حتى أنّ العائلة جميعها أصبحت تراني كتلك البنت العاقة وقليلة التربية. أعترفُ أنني تسرّعتُ في إجابتي وأنه لم يكن عليّ الحديث بتلك الطريقة، لكنني لم أستطع كبح جماح كلماتي التي تساقطت كالسيل ولم تتوقف إلا بعد فوات الأوان».

بالحديث عن العائلة؛ مجتمعنا الذكوري الذي تربّينا فيه، غرس فينا منذ الصغر أدوار جندرية معيّنة ووضعنا في قوالب جاهزة لا نستطيع التزحزح منها بسهولة. أثّر الأمر بشكل مباشر في المواضيع أو المجالات «النسائية» وتلك «الرجالية». هذا ما أكّدته لي ديانا الغول، صحفيّة ومدوّنة، عندما أخبرتني: «منذ صغري لم أكن أحبُّ بتاتاً الجلوس مع السيّدات، لأنني كنتُ أرى المواضيع التي يتطرّقن لها «أنثوية»، وسطحية، وبدون قيمة، لذلك كنتُ أفضّل دائماً الحديث مع الرجال ومناقشة الأفكار معهم. كنتُ كلما بدأتُ التعبير عن رأيي بخصوص أيّ شيء سياسي، أجدُ رجلاً يقمَعُني أمام الجميع، ويُخبرُني أنّ أفكاري مغلوطة، وأنّه «إذا بتحكي هيك كلّ الناس رح تتمسخر عليكي». طبعاً لما كبرتُ ودرستُ أكثر، أدركتُ أنّ «الأنوثة» ليست عيب، وأنها غير مرتبطة بالقدرات العقلية والذهنية للمرأة».

وتضيفُ ديانا: «أنا صحفية متخصصة في مجال الحروب والخلافات الدولية، في كثيرٍ من الأحيان عند الحديث مع الرجال والشباب حول المواضيع السياسية، أجدهم يشرحون لي أشياء تدخل في مجال تخصّصي، وكأنهم يجزمون بشكل مباشر أنني أجهلُها. شخصياً أعتبرُ هذا السلوك إهانة اتجاهي واتجاه مهنتي».

ديانا ليست الوحيدة التي تُعاني من الفسرجة في مجال تخصّصها وعملها. تحكي لي الدكتورة مريم: «منذ مدّة كنتُ قد نشرتُ تغريدةً على تويتر حول واحدٍ من المواضيع التي تدخلُ في نطاق تخصّصي، لأجدَ أحد المتابعين يقترح عليّ في أحد التعليقات قراءة كتابٍ معيّن. لم أفهم لماذا افترضَ هذا الشخص أنني لم أقرأ هذا الكتاب، وأنا أساساً أُدرِّسُه في منهجي».  

متلازمة المحتال: بين الخوف من الردّ والتسلّط الذكوري 

في نظري الأمر مرتبط بمتلازمة المحتال، ولمن يجهل منكم معنى هذه المتلازمة، فهي عندما يتوهّم الشخص أن إنجازاته ونجاحاته ما هي إلا ضربة حظ، وأنه لا يستحق ذلك الإنجاز. أغلبُ من يعاني من هذا الاضطراب النفسي هن النساء الناجحات اللائي يتقلّدن مناصب كبيرة. هذا التشكيك بالذات، وبالقدرات، والمعارف الخاصة، هو ما يجعل بعض النساء خائفات من الدفاع عن أفكارهنّ، ووجهات نظرهنّ أمام الرجال المُفَسرِجين. فعند قيام الرجل بتفسير موضوعٍ ما بأسلوب متعجرف ليُثبت مكانته ويؤكّد مركزه، تجد المرأة التي أمامه نفسها في موقف ضعفٍ وكأنّ الرجل «ينزل» إلى مستواها ليشرح لها أمراً يمكن أن تكون هي أصلاً أكثر علماً منه فيه، وكأنه يفسّر فكرة بسيطة لطفل صغير.

تقول ديانا: «هذه ردّة فعل يقوم بها الرجل لتغطية الخصاص المعرفي الذي يُعاني منه فيضع نفسه موضع العالِم المُلِم بكلّ شيء، وكأنّ عدم معرفته لموضوعٍ ما، فيه تنقيصٌ من رجولته». وتضيف: «شخصياً، عندما كنتُ أصغر سنّاً وأقلّ تجربة، كانت هذه المواقف تزعزع بشكل كبير ثقتي بنفسي، وتدفعني إلى التزام الصمت وعدم القدرة على الدفاع عن أفكاري». 

إذا كانت مثل هذه المواقف تدفع بـ ديانا إلى التشكيك بقدراتها ومعارفها، فإنها تجعل ريما تشعر بالاشمئزاز: «أنا إنسانة انفعالية بطبعي، ولا أتقبّل أن يقلّل أحدٌ مني كيفما كان. حبّي لكرة القدم يجعلني أواجه يومياً مواقف تجعلني في مواجهة رجالٍ يفترضون أنني لا أفهم شيئًا في هذه الرياضة، وأنني أشاهد المباريات فقط لمتابعة اللاعبين الوسيمين. بصراحة هذه الأفكار تجعلني أشعر بالتقزّز والاشمئزاز، وما زلتُ لا أفهمُ إلى الآن لماذا كلّ هذا التعالي؟ وكأنّ كرة القدم مكتوبة باسمهم فقط». 

لهذا تقترح ريما على كلّ من تواجه مواقفاً يتفسرج فيها الرجل عليها، أن تجيبه وألّا تخجل منه: «تأكّدي عزيزتي أنّه لا يعلم إلّا جزءاً صغيراً ممّا تعرفينه أنتِ، لكنه يستعمل أسلوبه المتعالي فقط كي يُسكِتك ويفرض نفسه. أجيبي، ولا تخجلي، وثقي بقدراتك. نصيحتي فقط أن تُحافظي على برودة دمّك، وألّا تفقدي أعصابك حتى لا تضعي نفسك في مواقف أكثر تعقيداً». 

نفس الشيء تقترحه الدكتورة مريم التي تدعو النساء إلى تحدّي هذا السلوك الذكوري وتسليط الضوء عليه أكثر، حتى لا يمرّ غير مرئي في كلّ مرة: «بكُثر ما هذه الظاهرة منغرسة في مجتمعنا؛ فإننا لا نلاحظها أساساً. يجبُ زيادة الوعي أكثر بخصوصها، لا سيما في صفوف النساء، حتى يصبحن قادرات على التقاطها، وتفكيكها، ومواجهة الشخص مباشرةً؛ لفتح مجال للنقاش والحوار».

إنّ أساس كلّ حوارٍ ناجح هو تقبّل فكرة أن أيّ رأي كيفما كان؛ يحتمل الخطأ والصواب، وأنّ احترام أفكار ومعارف المُتَحدَّث إليه، سواءٌ كان ذكراً أو أنثى، هو شرطٌ أساسي ليتحقّق تواصلٌ سليم بين جميع الأطراف المشاركة في هذا الحوار.

عفاف بوعكادة كاتبة مغربية تهتم بالمجالات الثقافية والفنية والنهوض بقضايا المرأة. لها مقالات متفرقة في مجموعة من المنصات الرقمية العربية.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

مفهوم «الفسرجة»أو ال«mansplaining»/ رسم: شيماء العلوي

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015