مزن حسن: النسوية و”التمويل الأجنبي”..

جريدة السفير- في الشهر الماضي، استدعيت مزن حسن للتحقيق في القضية 173 لسنة 2011 المعروفة إعلاميا باسم “قضية التمويل الأجنبي”، والتي بدأت في 2011 باقتحام عدد من المنظمات الدولية والمحلّية ومحاكمة بعض الموظفين الأجانب في المنظمات الدولية، وصدور أحكام غيابية ضدهم لمغادرتهم البلاد. وفي الأسابيع الماضية أعيد فتح الملف بخطوات من ضمنها استدعاء المحامي نجاد البرعي، الحقوقي والشريك  بـ”المجموعة المتحدة للمحاماة والاستشارات القانونية” للتحقيق معه في تهم مثل إدارة جماعة دون ترخيص، وإذاعة أنباء من شأنها تكدير السلم العام.. قبل إخلاء سبيله، بالإضافة إلى تجميد أموال الحقوقيين حسام بهجت، الصحافي ومؤسس “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”، وجمال عيد مدير “الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان”، ومنعهما من السفر، ثم استدعاء ثلاث موظفات في مؤسسة “نظرة للدراسات النسوية” للاستدلال.
متّهمة؟
وكانت الناشطة النسويّة مزن حسن في نيويورك تحضر مؤتمراً تابعاً للأمم المتّحدة بصفتها مدير مؤسسة نظرة للدراسات النسوية، وحين علمت باستدعاء زميلاتها قطعت سفرها وعادت لتصاحبهن في التحقيق. لم يأتي لحسن وغيرها من الواردة أسمائهم في هذه القضية استدعاءات رسمية سابقا، ولقد علموا أنّهم متهمون عبر الصحف. خلال التحقيق مع العاملات في “نظرة” طلب قاضي التحقيق من حُسن، التي أشار إليها بصفتها “متهمة”، الحضور للتحقيق معها دون إطلاعها هي أو محاميها على ملفّ القضيّة أو التّهم المنسوبة إليها. ثم تأجل التحقيق لموعد غير محدّد. كانت مزن وسط بعض صديقاتها المقربات تستعد للتحقيق وتحاول تحضير حقيبة ببعض الملابس والأدوية استعدادا للسيناريو السيئ وهو أن تحبس على ذمة التحقيق، أو السيناريو الأسوأ، وهو تهمة “التّخابر” التي تصل الأحكام فيها إلى المؤبد أو الإعدام!
ولدت مزن حسن، الإسكندرانية الأصل، في السعودية. وهي متخصصة في الأدب اليوناني واللاتيني، وتخرجت في 2000. تصف نفسها بأنها من أسرة عادية ليس لها أي خلفيّة سياسية، فوالدتها أستاذة جامعية، ووالدها موظف بالجامعة. ولكن  مزن أبدت اهتماما مُبْكرا بقضايا النساء. فبتشجيع من أسرتها اطلعت على مذكرات رائدات نسويات بارزات مثل إنجي أفلاطون، درية شفيق، ونبوية موسى، وقررت السفر إلى القاهرة حيث حصّلت  دبلوم المجتمع المدني وحقوق الإنسان من كلّيّة الاقتصاد والعلوم السّياسيّة بجامعة القاهرة، ثم ماجستير القانون الدولي لحقوق الإنسان من الجامعة الأمريكية، وعملت في هذا الوقت في عدة منظمات دولية ومحلّية في مجال حقوق الإنسان، تحديدا حقوق المرأة وذوي الإعاقة، وعملت على أبحاث مع جامعات أجنبية.

نظرة
وسط الحراك السياسي في مصر في العام 2005، بخطابات جديدة وأجيال جديدة تدخل المجال العام، شعرت مزن أنّ الحركة النسويّة تحتاج هي الأخرى لخطاب جديد، وأنّ الوافدين الجدد للمجال العام يحتاجون إلى بعد “جندري”. وهي موقنة أن للحركة النسويّة المصريّة تاريخ مهم، وأي تطور يجب أن يأتي من داخلها. وكانت هناك منظمات نسويّة بارزة في هذا الوقت، ولكنها كانت تركز على المجال الخاص، مثل قضايا الأحوال الشخصيّة والعنف الأسري.. من هنا جاءتها هي ومجموعة من زملائها فكرة تأسيس “نظرة”. وبعد عام ونصف من الانتظار، حصلت نظرة على الإشهار في كانون الأول/ ديسمبر 2007 . كان التركيز الأساسي للمؤسسة على المجال العام، على كيفية إدراج قضايا النساء داخل الحراك في المجال العام. أقامت “نظرة” حلقات نقاش وحملات توعية حول تاريخ الحركة النسويّة، واهتمّت بالتعريف بنسويّات من تيارات سياسية مختلفة. وفي 2010 راقبت الانتخابات النيابية لضمان البعد الجندري، لأنه كان هناك لأول مرة كوتا للنساء من 64 مقعداً.
بعد الثورة اختلف الوضع تماما. فالمجال العام فرض نفسه، وأجيال جديدة بينهم فتيات مؤمنات بالتغيير قمن بتحركات مختلفة، فكان الهدف هو الإبقاء على الفتيات المشاركات في المجال العام،  وخلق بعد جندري وخطاب نسويّ داخل الحركة الثورية. لذلك أسست “نظرة” برنامج “المدافعات عن حقوق الإنسان”، بالتركيز على النساء الأقلّ تمكينا خاصة من خارج العاصمة. كانت المؤسسة توثق وترصد وتدعم وتدرب النساء الناشطات والمجموعات النسوية النّاشئة في محافظات أخرى، كما عملت على توثيق الانتهاكات ضد النساء في المجال العام من قبل الدّولة أو المواطنين، بصرف النظر عن خلفيتهن السياسية. عملت نظرة على العنف الجنسي الذي تعرضت له فتيات مشاركات في تظاهرات واعتصامات بميدان التحرير منذ 2012، ووثقت الحادث الذي تعرضت له متظاهرات ثوريات في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012. وكذلك ما تعرضت له فتيات مؤيدات للنظام في احتفال تنصيب السيسي في 30 يونيو 2014. كما وثّقت الانتهاكات ضد الأخوات المسلمات وفض اعتصام رابعة على الرغم من اختلاف المؤسسة مع الاعتصام ومنظميه. هذا علاوة على العمل على  دستور يضمن حقوق النساء، وعلى قوانين انتخابات تمثل جميع النساء.
اهتمّت نظرة أيضا بدعم فرص تواجد النساء في عملية صنع القرار، من برلمان أو وزارات أو مجالس محلية  ونقابات، حتى لو كانت مواقفهم تخالف وجهة نظر العاملات في “نظرة”، شريطة أن يكنّ ديمقراطيات، و”غير ممكّنات”، وألّا يكن ضد الخطاب النّسويّ حتى لو لم يتبنينه. لذا لم تدعم نظرة سيدات السلطة لأنهن ممكنات، وسيدات الإخوان المسلمين لأنهنّ ضد حقوق المرأة، وان كانت ضد منعهن من الترشح والتمثيل. وفي انتخابات 2015 دعمت نظرة 5 سيدات مستقلات، اثنتان منهن من القاهرة وثلاثة من محافظات: لم تكنّ “نساء السلطة”، وكن أقل تمكينا، ولم تكن نسويات ولكنهن  تدعمن حقوق المرأة.
كثيرات ممن تلقوا تدريبا في المدرسة النسوية لنظرة واصلن العمل النسوي في محافظاتهن، كما اهتمت المؤسسة أيضاً بالربط بين الفن والنسوية، فدعمت مجموعة “الجرافيتي حريمي” وفرقة “بنت المصاروة” الغنائية، بالإضافة إلى “كوميكس نسوي” وعروض مسرحية. بعض هذه المبادرات كانت مشاريع خارج “نظرة” ومستقلة عن حركتها، ولكنها دعمتها إيمانا منها أنّ ذلك يدعم الحركة النسويّة ويقويها.

قصّة التمويل الدولي
مزن حسن ومؤسستها لا تحصل علي أي تمويل من حكومات، بل من مجموعات ومنظمات نسوية دولية مستقلة، في إطار شراكة ودعم متبادل في الحركة النسوية العالمية. وهذا الدّعم علني ويتم وفق ميزانيات وأنشطة وتقارير معلنة للدولة وللجهات المانحة كجزء من الشفافية. وهو قانوني وأنشطته علنية، حيث أنّه مسجّل في ورق التأسيس والحسابات البنكية الموجودة داخل مصر، ويدفع عنه الضرائب المستحقة.. ومع الأزمة الاقتصادية العالمية، انخفضت المنح الداعمة لمنظمات حقوق الإنسان، فكانت المشكلة الأخرى  بالنسبة لنظرة أنّ المنظمات الدولية تفضل التعامل في قضايا النساء مع الحكومات بصفتها المشرّع ، كما زادت المشكلة مع ظهور قضايا جديدة حظيت على أولوية الجهات المانحة مثل قضية اللاجئين… وقد أوقفت كثير من المنظمات أنشطتها وأغلقت وحدات،  ليس فقط بسبب قلة التمويل ولكن أيضا بسبب تضييق المجال العام، بالإضافة إلي الحملة الإعلامية التي تتهم منظمات المجتمع المدني بالسرقة وبالجاسوسية وبتطبيق أجندة غربية، وبالانحراف وبالرغبة في الإضرار بسمعة مصر.
هناك فارق بين الشفافية والسيطرة في هذه القضية. فالحكومة المصرية تحصل فيما يخص قضايا النساء على تمويل كبير من الاتحاد الأوروبي والمعونة الأمريكية. وتعتقد مزن بأن الجمعيات أكثر شفافية من الحكومة فيما يخص تقارير حساباتهم والمبالغ التي يتلقوها كدعم، فالحكومة  لا تعلن عن حجم التمويل الذي تحصل عليه. ومن جهة أخرى، وبرأي مزن حسن، فمن حق السلطات المصرية الإطّلاع على الأموال التي تدخل مصر، لكن قانون الجمعيات الأهلية 84 لسنة 2002 يعطي سلطة مطلقة لوزارة التضامن برفض التمويل دون إبداء الأسباب أو تعطيله لأكثر من عام وعدم السماح بتقديم تظلّمات. أمّا المراقبون فلهم سلطة قضائية، وبالتالي فلهم الحق في منع النشاطات التي يرونها تمس بالأمن القومي، دون القدرة علي مراجعتهم في ذلك، هذا بالاضافة إلى السلطة الأمنية الموجودة التي يمكنها أن تمنع أيّ نشاط دون إبداء الأسباب.
خلال سنوات من العمل في قضايا النساء، واجهت “نظرة” العديد من الصعوبات، لكون قضايا النساء والانتهاكات التي تتعرضن لها، خاصة في المجال العام، ليس لها الأولوية لا على أجندة السلطة ولا حتى على أجندة القوى السياسية. لكن مزن حسن تعرضت لحملات تشنيع شخصية، مثل اتهامها بالمثلية الجنسية، وبتشويه سمعة مصر ونشر أخبار كاذبة، وتشجيع الفتيات على الإنحراف وترك أسرهنّ. حين عملت “نظرة” على قضية العنف الجنسي، تلقت حسن اتّصالات هاتفية تهددها بالاغتصاب، وتعرضت للتتبع والمراقبة من قبل أشخاص مجهولين كانوا يقفون أمام منزلها، هذا بالإضافة إلى المرّات الكثيرة التي تم استدعائها فيها “ودياً” من قبل أمن الدولة لسؤالها عن أنشطتها وأنشطة المكان، وربما تهديدها بالحبس ومطالبتها بغلق المؤسسة.
كل ذلك تقبلته مزن بنفس راضية على حد قولها. فالنسوية هو عملها منذ 14 عاما، حتى أنها أصبحت ترى العالم من منظور نسوي، الأمر الذي صنع لها بعض الخلافات مع أسرتها أو مع أصدقاء لمواقفهم السيئة من النساء. وهي تعلم جيدا منذ البداية ظروف البلد التي تعمل به، وتفهم جيدا ان إعادة فتح القضية الآن هو فقط بسب التردي الواضح في حقوق الإنسان، لذلك تلجأ السلطات لتشويه وتكميم من يحاولون رصد هذا التردي وتوثيق الانتهاكات.
بعد استدعاء حسن للتحقيق، كانت هناك حملة دوليّة واسعة للتّضامن معها وللإعراب عن القلق حيال وضع حقوق الإنسان في مصر.  زادت وتيرة الحملة بعد مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، بالإضافة إلى تزايد حالات الاختفاء القسري والاعتقالات على خلفية قضايا رأي وتعبير. لم تتوقع حسن هذا التضامن، وتأثرت كثيرا خاصة بتضامن المجموعات النسوية المحلية التي تلقّت دعما وتدريبا في “نظرة”. هذا التضامن كان مفاده أنه حتى بغلق هذا المكان العلني، (الذي يعمل بشكل علني ويتعاون حتى مع مؤسسات الدولة ويقدم لها الاستشارة ويقوم بالضغط عليها)، أو بحبس مزن حسن.. فلن تقف الحركة، ولا يوجد حركة تقوم على شخص أو تتوقف عليه، كما ووفق قولها، فإن التضامن مع قضايا النساء أصبح أوسع من قضية المنظمات.

من حملة "جرافيتي حريمي"

من حملة “جرافيتي حريمي”

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015