نوال السعداوي: كزهرة لوتس.. أو أبعد‎
نوال السعداوي/Facebook

رباب هلال/awanmedia- كنت، في المرحلة الثانويّة، كثيراً ما أدّعي السهر في سريري لإكمال دراسة واجباتي المدرسيّة، وما أن يطلّ رأسُ كبيرٍ ما للاطمئنان عليّ حتى أسارع لدسّ كتاب نوال السعداوي، تحت الوسادة، وأفتح كتابي المدرسي المضجر البليد! ما من كتب أقلقتني مثلها آنذاك، تصرخ بي أن لا وقت للنوم، فعليّ أن أتعرّف على بهاء أنوثتي الكونيّ فأحرسه بحبّ وفرح، والانتباه إلى بناء كينونتي الإنسانيّة المختلفة حرّة خصبة قدر المستطاع، وتجهيز الضرائب لدفع الأثمان. كبرنا واختلفنا قليلاً أو كثيراً عن مربّيتنا وراعية أحلامنا نوال السعداوي، لكنّنا لن ننسى أبداً حليبها الشهيّ الدسم الذي أرضعتنا.

في خطابها خاطبتنا، توجز أفكارها التنويريّة ومراميها السامية: “سأخوض المعركة، وسأحتمي بنفسي، في ذاتي، في قوّتي، في عملي، في نجاحي”، كي نكون نحن البنات، ومن شاء من الصبيان، كائنات إنسانيّة مستقلّة حرّة. سلاحنا الأمضى العلم والعمل، أي التحرّر الاقتصادي الذي يستدعي الحرّية بالضرورة.

انغمست باحثة في مسألة تخلّف المرأة، وقمعها وتهميشها، وتعنيفها وقتلها. لم يقتصر بحثها على المرأة العربيّة وتحميل ثقافتنا وزر ذلك وحدها، بل رأت ذلك بعينيها، في صولانها وتجوالها، في مختلف مناطق العالم، المتحضّرة والعالمثالثيّة على حدّ سواء. فالمرأة تعاني وتكابد عامّة وإن بشكل نسبيّ، كما أنّها لم تتهم الأديان أو تحمّلها المسؤوليّة، ولم تتهم السلطة بمختلف أنواعها وأشكالها، وحدهما، إنّما تحمّل الوزر الأكبر المنظومةَ الثقافيّةَ السائدة، البطريركية الذكوريّة المهيمنة على المجتمع البشري قاطبة، وتدعو إلى ضرورة تفكيك هذه العقليّات المستبدّة وتفتيتها، واستحداث بدائل أنجع لتوازن البشريّة، وترى استحالة ذلك من دون تحرّر المرأة والرجل معاً.

ناضلت بشراسة في مجابهتها للمجتمع كلّه، انطلاقاً من قريتها ومسقط رأسها، العام ( 1931)،” كفر طلحة”، في محافظة القليوبيّة شمال مصر، وصولاً إلى العالم كلّه.

درست نوال السعداوي الطبّ وتخرّجت سنة 1955 (كان والداها قد توفّيا فتولّت رعاية إخوتها)، وتخصّصت بالأمراض الصدريّة، لتبدأ أولى معاركها في قريتها البائسة. ولم تقتصر في معالجتها على اختصاصها فقط، إنّما عالجت الأمراض النفسيّة، لاستئصال وباء التقاليد المجتمعية الأشدّ سطوة من السلطة السياسيّة أو الدينيّة وغيرهما.

حدث في قريتها، وعمر نوال لا يتجاوز الخامسة عشر وكانت في الصفّ الأول الثانوي، أن كتبت واجباً مدرسيّاً استغرق صفحات الدفتر كلّها، وما إن قرأ فيه المعلّم بعض الصفحات حتّى تحوّل بين يديه إلى مزق، وأعطاها علامة الصفر، لتتحوّل أشلاء هذا الدفتر على الفور إلى رواية صغيرة، عنوانها ” مذكرات طفلة اسمها سعاد”، وهو سيرة نوال السعداوي الطفلة ذاتها. خلف سطوره تؤكّد نوال مقولتها بأنّ للأطفال ذكاءهم الفطريّ، وسرعان ما يكتشفون بأنفسهم نفاق الكبار، وتدعو لرفع الظلم ومنع العنف عن الطفل، وتدافع عن حقّه في التعبير وإبداء الرأي، فهو المعني ببناء المستقبل!

في هذه الرواية، تصوّر السعدواي حياة فتاة عمرها ثلاثة عشر عاماً، تعيش في قرية متخلّفة، إنّما حظيت بأب يحرص على تعليمها، وعلى حثّها على السؤال بلا حدود، وبلا خوف، حتّى لو كان يخصّ الله ذاته، وكذلك على القدرة على دفع الأثمان. هو أب نوال ذاتها، الذي كان حريصاً على تعليم أبنائه. كان موظّفاً مسؤولاً في وزارة التربية والتعليم، متوسّط الحال، مناهضاً للاستعمار الإنكليزي لمصر، وكان يجيب على أسئلة ابنته عاشقة الاكتشاف والمعرفة. في الرواية، تستغرب الابنة حال الفقر الذي تعانيه قريتها، الفقر الذي كان البعض يراه قدراً من الله لمعاقبة الخطّائين! فسألت مرة في تعجّب:” إن كان الله لا يحبّ الفقراء، فلماذا يريدنا أن نحبّهم؟”.

لنعد إلى سعاد/نوال الطفلة، فأمّها لم تكن تعارض السلطات كافة، إذ كانت سليلة عائلة أرفع شأناً من زوجها، والطبقات الاجتماعية ترضخ في النهاية للتقاليد والعادات المقدّسة! كما أنّ تحضّر الأب بدا غير مكتمل، فلم يقدر على تخليصها من الختان وحمايتها من طقوسه ومن ظلمه. مشهد ستعيد السعداوي ذكره في كتابها “الوجه العاري للمرأة العربيّة”، ثمّ في روايتها السيرية ” أوراقي، حياتي”، فالضحيّة لا تنسى آلامها، كتبت: “لم تفلت أمّي زينب هانم، ولم تستطع أن تنقذني أو أيّ واحدة من بناتها. أنا أنقذت ابنتي، وبنات أخريات كثيرات حيث بدأت أكتب منذ أربعين عاماً. في السادسة من عمري لم أستطع إنقاذ نفسي. أربع نسوة في حجم الداية أم محمد، تجمّعن حولي. مكتوفة الذراعين، والساقين، دقّوا يديّ وقدميّ بمسامير كالمسيح المصلوب.”

ستقول في وقت لاحق:” إجراء الختان لم يكن خياري، أمّا الآن فلديّ خياري”. لطالما كانت في تصريحاتها الإعلاميّة، ومن دون تشاوف أو عنجهيّة، تُلحق بكلماتها الضمائرَ المختلفة الخاصّة بضمير “أنا”، بأناها هي الحرّة، وترتسم ابتسامة التحدّي المثابرة. ناضلت طويلاً ودفعت أثمانًا باهظة، من السجن إلى النفي والاتهامات المتلاحقة بالاستشراقيّة التي تعمل لصالح الغرب في بلادها. حاربتهم بخطاب عروبيّ ووطنيّ، وبحرصها على ألّا تُلبسَ مجتمعها اللباس الغربي. وصحيح أنّها ألفت كتاب “الجنس الآخر”، عنوان كتاب سيمون دو بوفوار، لكنّها انشغلت فيه بمشكلة الختان، الذي لا يعاني منها الغرب مثلاً، وصحيح أنّها تأثرت بالموجة النسويّة الثانية، التي نشأت في سيتينات وسبعينات القرن الماضي في أوروبا، لكنّها لم تخرج أبداً عمّا تقتضيه قضيّة المرأة المصريّة والعربيّة من معالجات وحلول في صميم واقعها وبيئتها.

جابهت بقوّة الفكر الديني المتطرّف المستبدّ، سادن الذكوريّة بامتياز، هذا الذي لم تتوقّف جماعاته يوماً عن المطالبة بهدر دمها. كما ظلّت تناهض الاحتلال الصهيوني لفلسطين العربيّة. حاربت التمييز ضدّ المرأة، والزواج المبكر، والختان، وتعدّد الزوجات، وقانون الأحوال الشخصيّة، وفضحت العادات الاجتماعية، وحراسها وحارساتها، والعنف الأسري، وما يمارس في ليلة الدخلة من عنف ورعب لإظهار بكارة العروس/الشرف! كانت نموذجاً مخالفاً تماماً للمرأة العربيّة النافذة، التي ما إن تحظى بمنصب ما حتّى تتعرّى ببطريكيتها، فكانت تعمل بمفردها، وفي الوقت ذاته، نيابة عن مؤسسات عديدة.

نادرًا ما أنجب العالم العربي المعاصر شخصيّة مثيرة للجدل مثل نوال السعداوي، فثمة من قال إنّ طروحاتها لا تواكب الجيل الجديد وطموحاته. ولم يكن يخفى على أحد تطرّفها في أفكارها، التي تعتمد لتحقيقها آليّات عفا عليها الزمن، فمثلما قاطعها الشباب اليساري وهي اليساريّة بامتياز، كذلك في نضالها النسوي ظلّت مخلصة للموجة النسويّة الثانية. أو، مثلاً، يبرز تناقضها في أنّها مقابل رفضها الحجاب والنقاب للمرأة، انتقدت انكشاف جسدها، اعتبارًا منها أن انكشافه يحوّل المرأة إلى سلعة. كما أنّها لم تهتم لشأن تطور الحركات النسويّة وتنوّع موجاتها لمواكبة متطلّبات عصرها وشروطه، العصر التكنولوجيّ اللاهث بمنتجاته وقدراته المستحدثة باضطراد سريع، وما يواكبها من تضخّم للرأسماليّة العالميّة وتغوّلها. وأضيف هنا أنّها لم تنظر في تأثير وسائل التواصل الحديثة التي سمحت للمرأة المبدعة في شتى المجالات الثقافية والفنية مثلاً، بأن تقفز بطروحاتها وبلغتها عقوداً تفصلها عمّا كانت عليه قبل دخولها في القرن الجديد!

إنّ ما تثيره نوال السعداوي، من جدل واختلاف، لن يستطيع مهما كان حجمه أن يغيّب صرختها العالية التي أطلقتها، واقفة بإصرار عنيد وهي تتفتّح كزهرة لوتس في مستنقع آسن يتوسّطه مجتمع كان يرضخ للاستعمار وكوارثه، ويجترّ بؤسه المتوارث بأشكاله المدمّرة المختلفة، آنذاك، ويصبُّ جام انهزاميّته وعجزه على رأس المرأة، وجسدها العورة!

نوال السعداوي/Facebook

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015