هالة الفيصل رسامة نساء تستخرجهن من أحلامها وترسم المرأة التي تحب

فاروق يوسف/جريدة العرب اللندنية- رسوم الفنانة السورية هالة الفيصل لا تحفل بالزخارف أو بوسائل الزينة الزائدة، فهناك قدر لافت من الانضباط هو سر ذلك التوتر الذي يؤطر حيوات نسائها العاريات. يختزلها البعض في سلوكها البصري الصادم في العام 2005، يوم خلعت ملابسها لتمشي عارية وسط بركة مياه في واشنطن سكوير بارك بنيويورك.
كانت مأساة الحرب التي أقدمت الفنانة على الاحتجاج عليها أكبر من الحياء الاجتماعي الكاذب. سنكون مخطئين لو نظرنا إلى الفعل بمعزل عن معانيه السياسية وقبلها ما ينطوي عليه من قيم فنية فنفسره أخلاقيا ونقصره على ما تمتعت به الفنانة من شجاعة وقدرة على التحدي حين كتبت على جسدها بالإنكليزية عبارات تعترض على بالحرب.
ضد الحرب القذرة
لقد اختارت الفنانة أن تندد بالحرب في العراق وفي فلسطين عن طريق الفن. كان عرضها نوعا من الأداء الجسدي الذي ينتمي إلى ما تعارف النقاد على تسميته بالفنون المعاصرة. الفرق بينها وبين الفنانين الآخرين أنها قدمت عرضها الاحتجاجي في الهواء الطلق، أمام أعين المارة العابرين. فيما كان الآخرون يحتمون بجدران المتاحف والصالات الفنية.
لقد خلا ذلك العرض من أيّ استعراض جسدي. فبالرغم من مشهد العري المقلق للعين التقليدية، فقد كانت الرسالة التي انطوى عليها ذلك العرض قد وصلت، حين احتل الخبر حيّزا مهما من صفحات كبرى الصحف، وصار اسم هالة الفيصل يقرن بالاحتجاج على الحرب الأميركية.
حين سألتها صحيفة نيويورك تايمز عن السبب الذي دفعها إلى القيام بعرضها أجابت “فعلت ذلك لأن ما يحصل هو فوق المعقول. الدم يهدر كل يوم والتاريخ يدمر وهو ما لا يُمكن استعادته أبدا”.
تحلم بحياة كاملة
ولدت هالة الفيصل، التي يحلو للبعض أن يصفها بالفنانة الأميركية ـــ السورية في حمص في العام 1957 لأب عربي هو واصل الفيصل، الذي عمل وزيرا للمواصلات، وأمّ كردية. درست الفن في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق وتخرجت عام 1983.
بعد ذلك تابعت دراستها الفنية في موسكو وباريس ونيويورك. التنقل المبكر بين البلدان، أطلق لديها موهبة تعلم اللغات. فهي كما يقال تجيد التحدث بخمس لغات اضافة إلى العربية التي سبق لها أن درستها في إحدى جامعات نيويورك التي تقيم فيها منذ عام 1998.
في موسكو درست الفيصل السينما وفن الدراما والرسوم المتحركة ما ين عامي 1985 و1989. في باريس درست التخطيط والتلوين في عامي 1994 و1995. حين وصلت عام 1998 إلى نيويورك انخرطت في دراسة الرسم والنحت. غير أنها أضافت إلى ما تعلمته أكاديميا، موهبة أن تتعلم بطريقة شخصية كيف تكون فنانة معاصرة من خلال تقنيات التعبير الحديث وفن الأداء الجسدي. شغف هالة بالفن هو تجسيد لشغفها في الحياة. وهو ما جعلها تواجه حلم الحياة الكاملة بشخصية الفنانة الشاملة.
تصف نفسها بقولها “امرأة تحب الحياة، تكتب وتغني وتمثل وترقص وتعزف على البيانو. امرأة تحب الشمس غير أن القمر هو صديقها المفضل”.
ولكن لمَ أغفلت هالة ذكر الرسم والنحت وسواهما من الفنون البصرية التي تمارسها منذ أكثر من ثلاثين سنة؟ ربما لأنها اعتقدت أن تلك الفنون التي تشتبك في أعماقها بعلاقات عضوية مبهمة، لا تصلح للتعريف بها. من البديهي بالنسبة إليها أن تكون رسامة ونحاتة وصانعة أفلام ومبتكرة عروض جسدية.
ذاهبة إلى تخوم الروح
مدت هالة الفيصل يدها إلى كل المواد التي تعينها على استخراج كائناتها من الفردوس. المكان الوحيد من وجهة نظرها الذي يصلح أن يكون مأوى أخيرا للنساء. التخطيط بقلمي الرصاص والفحم، الرسم بالزيت والإكريليك والأصباغ المائية، ولم يفتها أن تضيف ما كان قريبا من يدها من مواد مختلفة.
في أكثر رسومها خصوصية يبدو تأثير الفرنسي هنري ماتيس واضحا. لوحة ماتيس “الراقصات” تشكل من وجهة نظري محورا أساسيا للبحث البصري الذي برعت هالة الفيصل في استخراج عناصره من حياة شخصية عاشتها بعمق شاعري متشنج. وهو ما تشهد عليه رسومها التي لا تحفل بالزخارف أو بوسائل الزينة الزائدة. هناك قدر لافت من الانضباط هو سر ذلك التوتر الذي يؤطر حيوات نسائها العاريات.
شيء مستلهم من حياتها الشخصية يسلم نساءها إلى قدرهن العذب. كائنات في طريقها إلى الخلاص. لربما عرفت هالة نساءها شخصيا. غير أنها حين الرسم لا تتفكر بالموديل الحي الذي يقف أمامها، بقدر ما تسعى إلى استعادة حياة ذلك الموديل مثلما تتخيلها.
هي حياة لا يضرها إن كانت مستعارة. ما الذي يضر لو رأت الرسامة صورتها وقد انعكست في مرايا متعددة؟ في غير لوحة تبدو هالة كما لو أنها ترسم صورة شخصية. ليس من العسير توقع أنها فعلت ذلك من أجل أن تقلب المعادلة. فبدلا من أن تتخذ من امرأة أخرى قناعا لها تكون هي ذلك القناع الذي يخفي ملامح امرأة لا ترغب في الظهور.
عري هالة الفيصل الشخصي يحل مشكلة اجتماعية ذات أصول تاريخية. تقول “الجسد العاري حساس بالنسبة إلى الإنسان العربي. الجسد شيء عظيم، لكننا في منطقتنا العربية تعلمنا أن نلغيه”. تقول في مكان آخر “يفرض على المرأة أن تغطي نفسها وتتحرك بطريقة آلية، ولكن يجب أن يكون هناك توازن بين الجسد والروح والعقل. إذا كان الجسد معوقا، لن نستطيع تطوير تفكيرنا لأن عقلنا سيكون معوقا أيضا”.
ترسم المرآة التي تحب
هالة الفيصل بالرغم من اعتناقها مبدأ الحرية الشخصية فإنها لا تظهر كثيرا من التفاؤل في ما يتعلق بوجود المرأة العربية. حلمها الشخصي يصطدم في عالمها الفني بكابوس جماعي، هو ما يعبر عن حقيقة الوضع الذي تعيشه المرأة العربية.
مناضلة نسوية من نوع هالة الفيصل لا تخفي شيئا من حقائق العيش، غير أنها تجد في الرسم ما يعوضها عن كآبة الواقع. تعرف أنها تقف وحدها. ما من شيء يقوّيها على مواجهة الواقع سوى الرسم. إنها تفكر فيه ومن خلاله.
بالنسبة إلى فنانة من نوعها، فإن الفن وإن كان معادلا للحياة، فإنه لا يغني عنها. وهو ما يظهر في رسومها جليا.
ما تفصح عنه تلك الرسوم هو بمثابة تمهيد للتمرد على الواقع وهو ما يهب الفنانة صفة الداعية المتمردة. صحيح أن صورها اكتسبت الشيء الكثير من الحزن بسبب تماسها الواقعي غير أن الصحيح أكثر أن معالجة ذلك الحزن كانت ممرا للخروج من متاهته وتلافي أضراره. يمكنها أن تقول بفرح “أنا أرسم المرأة التي أحب” وهي امرأة غير مجهولة ولا تقع خلف حجب.
تلك المرأة هي الذات التي تكتب يومياتها. فمثلما مشت هالة في مياه النافورة حافية فإنها كانت تتجول بين نسائها كما لو تتصفح ألبوما شخصيا. لا يهمها أن تقول “إنهن يشبهنني”. لربما كان الشبه يهم النساء اللواتي رسمتهن ولكنه لا يشكل عقدة لها. لن ترى الرسامة صورتها في مرايا نسائها، غير أنها لا تخفي رغبتها في أن تكون واحدة منهن.
أهو الحب؟ رسوم هالة تفيض بالحب. ليس الحب تمهيدا لما بعده. الحب بالنسبة إلى هذه الفنانة مقصود لذاته. أهو الحب أم هو الرسم؟ تمزج هالة بين الاثنين كما لو أنهما الشيء نفسه.
عريها لم يكن فضيحة كما أن رسومها تهب المرأة أبجديات أخلاق مغايرة. هالة الفيصل متمردة عن طريق الرسم، غير أن عينها لا تغمض عن الحياة.

 

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015