جريدة الحياة- يُدير اليابانيون العاملون في مهرجان طوكيو السينمائي مهرجانهم بدقة و ذهنية قريبة من تلك التي يحملها مواطنوهم الذين صنعوا الأسطورة التكنولوجية اليابانية الحديثة، إذ يتم التخطيط لكل تفصيل بعناية فائقة، ولا هوامش واسعة للأخطاء أو العثرات سواء في علاقات المهرجان بالإعلام أو بالجمهور الذي أقبل على الدورة التاسعة والعشرين، والتي عقدت من الخامس والعشرين من شهر تشرين الأول (أكتوبر) وحتى الثالث من شهر تشرين الثاني (نوفمبر). في حين يقترب شكل وتصميم باحات وممرات بناية واحدة من الصالات السينمائية التي عرضت أفلام المهرجان من المركبات الفضائية والصور الشائعة عن عوالم المستقبل، بيد أن الظلام الأليف الذي ينتظر الجمهور في الصالات، والضوء الذي يشع بعد ذلك حاملاً الصور والقصص والأحزان والمسرات يذكران مجدداً بالعالم بكل محنه وهمومه، والذي يبدو بعيداً كثيراً عند التفكير به من هنا.
أكثر من مئتي فيلم عرضها المهرجان خلال أيامه، والتي قسمت على مسابقة رسمية ضمن ستة عشر فيلماً روائياً، وسبعة برامج متنوعة، مع التركيز كثيراً على السينما الآسيوية التي يتم الاحتفاء بها سنوياً في طوكيو، فالمهرجان الياباني، يوفر منذ سنوات المنصة الأكبر لعرض الأفلام الآسيوية واليابانية، والأخيرة تتوزع نتاجاتها الحديثة على المسابقة الرسمية وعلى برامج خاصة بالسينما اليابانية، إلى جانب استعادات سنوية لسينمائيين يابانيين (هذا العام لمخرج أفلام التحريك مامورو هوسودا والمخرج شونجي إيواي). كما يركز المهرجان في دورته هذه – وكجزء من تقليد بدأ منذ سنوات بالاحتفاء في كل دورة بسينما دولة آسيوية – على السينما الإندونيسية، فيعرض أفلاماً من جديد هذا البلد ومن قديمه، والتي انشغل كثير منها بصعود الأفكار المتشددة في المجتمع هناك، وهواجس الشباب الإندونيسي وتمرده والرغبات الحسيّة المتفجرة فيه واصطدامها البديهي بالتقاليد والنظم الفكرية المهيمنة…
وشهدت هذه الدورة العرض العالمي الأول لمشروع سينمائي اشترك المهرجان السينمائي نفسه في إنتاجه وحمل عنوان: «تأملات: آسيا 2016 ثلاث طويات للمرآة». أُنتجت أفلام المشروع الروائية الثلاثة تحت عنوان فضفاض عن اليابان وموقعها اليوم في آسيا، وأخرجها: الفليبيني بريانتي مندوزا، الياباني إيساو يوسوكادو، الكبمودية سوثو كوليكار. برز من الأفلام الثلاث، فيلم المخرج الفيليبيني المتميز دائماً بقسوة أفلامه ونفسها الملحمي المهزوم، والذي قدم قصة عن رجل فيليبيني يتم إبعاده من اليابان بعد ارتكابه مخالفة قانونية هناك. ويسجل بأسلوب تسجيلي رحلة عودته المؤلمة إلى بلده، وبعد أن حرق في السنوات الثلاثين التي قضاها في اليابان مراكب العودة جميعاً.
افتتح المهرجان بفيلم المخرج البريطاني ستيفن فريرز « فلورنس فوستر جنكينز»، والذي لعبت فيه الممثلة الأميركية المعروفة ميريل ستريب دور مغنية الأوبرا التي يذكرها التاريخ بأنها صاحبة أسوأ صوت مرَّ على الموسيقى الكلاسكية الغربية. تحت طبقة الكوميديا التي تغلف الفيلم، هناك قصة حب ووفاء وحب مؤثرة وعاطفية جمعت المغنية وقتذاك بزوجها، والذي لعب دوره الممثل البريطاني هيو غرانت في دور ربما سيكون الأفضل في مسيرته السينمائية. سيمهد فيلم الافتتاح الذي يقدم شخصية نسائية حقيقية لدورة تميزت بوفرة الأفلام التي تتصدرها شخصيات نسائية وهي تواجه التحديات الأكبر والأقسى في حياتها. من الهند إلى إيران، ومن إيطاليا الى الفيليبين، تأتي الشخصيات النسائية في أفلام المهرجان، والتي أبرزت مواهب تمثيلية نسائية ممتازة، وإن رزح بعض الأفلام تحت ثقل القضايا التي تقدمها وغاب عن بعضها الآخر المعالجات الفنيّة المبدعة أو الأصيلة.
سبع دقائق حاسمة
يتوجب على نساء الفيلم «7 دقائق» للمخرج الإيطالي ميشيل بلاسيدو، والذي عرض ضمن المسابقة الرسمية، الوصول في غضون ساعات قليلة إلى قرار يخص وظائفهن (يستوحي الفيلم قصته من وقائع حقيقية). هن عاملات في معمل إيطالي بيع للتو لشركة فرنسية، والأخيرة تريد زيادة وقت العمل اليومي بسبع دقائق إضافية، وهذا سيطلق النقاش والجدل بين العاملات في المعمل، إذ بدت الدقائق السبع تلك لبعضهن مقدمة لتنازلات مقبلة، فيما اعتبرت العاملات الآتيات من دول فقيرة أو ممزقة بالحروب والنزاعات، بأن النقاش ذاته يعد ترفاً مقارنة بالظروف التي هربن منها في بلدانهن الأصلية. تدور معظم أحداث الفيلم وزمنه في قاعة للمصنع حيث تجتمع العاملات، فيما تنتظر الممثلة عن المالك الجديد مع إدارة المعمل قرارهن في غرفة أخرى. بعد البداية الصاخبة والمشوشة للفيلم، والتي غلبت عليها الانتقالات السريعة بين داخل المعمل وخارجه، حيث اجتمعت خارج أسوار المعمل محطات تلفزيونية ومتظاهرين، وبعد أن أشيع أن المعمل سيغلق وتسرح عاملاته، يصل الفيلم إلى صفاء وحدة جيدتين في النصف الآخر منه، عندما يصور النقاشات الحادة والعنيفة لشخصياته النسائية. تنتقل الكاميرا بحيوية بين الشخصيات وتتغلب على تحديات التصوير في مكان واحد مغلق، ويمنح الفيلم لبعض نسائه أوقاتاً مهمة للكشف عن دواخلهن وتاريخهن. من بين الشخصيات لاجئات من دول أوروبية شرقية ودولة أفريقية، وهن اللواتي سيأخذن الفيلم بعاطفية كبيرة أحياناً إلى مناطق مختلفة ويوسعن مداه، من دون تهويل أو شعارات.
إجهاض في إيران
بطلة الفيلم الإيراني «أن يولد» للمخرج محسن عبدالوهاب، والذي عرض ضمن المسابقة الرسمية أيضاً، في أزمة، والوقت مثل بطلات الفيلم الإيطالي يداهمها هي الأخرى. إذ إنها في حيرة بين إجهاض الجنين الذي تحمله، وهو الأمر الذي يحقق رغبة زوجها أو الإبقاء عليه وتحمل تبعات اقتصادية وأخرى تخص مستقبلها المهني. هي ممثلة مسرحية وزوجها مخرج سينمائي تسجيلي يواجه مصاعب مالية. يبدأ الفيلم ببداية حادة صارت تطبع الإفلام الإيرانية الاجتماعية الفنية، والتي تبدو أحياناً مثل جدر الضغط الذي يقترب من الانفجار، لكنه سرعان ما يفقد الفيلم هذا أسنانه عندما يُضيق معالجته ويحصرها بالقصة الشخصية الخاصة للزوجين ويعزلها عن الظروف العامة في البلد وكما تفعل جلّ الأعمال الإيرانية المهمة، وحتى في نطاق القصة العائلية يدور الفيلم حول نفسه، عندما ينتقل بين رفض الزوج الطفل الآتي وتمسك الزوجة به ولا يبلور أيّ تطورات درامية مهمة.
ومن الهند، عرض ضمن برنامج «مستقبل آسيا» فيلم «أحمر شفاه تحت البرقع» للمخرجة الهندية ألنكريتا شريفاستافا، وهو مثل الفيلم الإيطالي «7 دقائق» عن نساء من خلفيات متنوعة، وإن كن في الفيلم الهندي يتجاورن السكن في الحي الشعبي بالمدينة الهندية حيث تحصل الأحداث. يبدأ الفيلم بالفتاة المسلمة في المجموعة، والتي تنزع البرقع الذي فرضته عائلتها عليها في الطريق إلى المدرسة، وهناك المرأة المتزوجة والتعيسة في حياتها الزوجية، وأخرى خطبت للتو ضد رغبتها، والشخصية الأخيرة لامرأة تجاوزت منتصف العمر بقليل بدأت بالتحسر على ما فات من حياتها. يوفر هذا التنوع بين الشخصيات فرصة للمخرجة للخوض في عدة قضايا بالتوازي، وستنتقل من قضية إلى أخرى، مقدمة أحياناً مشاهد حميمة جريئة تكسر السائد في بلدها للحياة الخاصة المكبوتة لنساء فيلمها. ينشغل الفيلم بالعناونين الواسعة ويبدو منتشياً بالمحرمات التي ينبش فيها، لكنه يغفل في المقابل منح الشخصيات التعقيد والعمق المناسبين لجعلها أكثر من نموذج، ليقع عندها في التنميط والمبالغة والدرامية المنفعلة.
أنا أميركا
تحلم بطلة فيلم «أنا أميركا» الشابة (ريكا) للمخرج الفيليبيني إيفان أندرو بياوول بالهجرة إلى أميركا، وتقترب كثيراً من تحقيق حلمها، ذلك أن أقنعت أباها الأميركي الذي يعيش هناك بتسهيل هجرتها إلى هناك. لكن أحلام البطلة الشابة ستنهار عندما تكتشف أن والدها يمكن أن يكون شخصاً آخر، وليس الرجل الذي تتواصل معه منذ سنوات، فأمها، فتاة الليل الفيليبينية السابقة، أقامت علاقات عابرة مع عدد من الجنود الأميركيين الذين خدموا في الفيليبين، ويمكن أن يكون أي واحد منهم الأب المجهول. بين الانتظار تحاول «ريكا» الحصول على عمل في عالم الإعلانات التلفزيونية، والتي تبدأ كل اختبار للحصول على عمل جديد فيها بالتذكير بأنها نصف أميركية، علَّ هذا مع جمالها اللافت يزيد من فرصها.
يُوازن الفيلم الجيد الذي عرض ضمن برنامج «مستقبل آسيا» بين الكوميديا السوداء التي تتفجر من أحداثه ومفارقته وخلفيات الشخصيات وصراعها اليومي للبقاء، والطبيعة القاتمة لقصته، ويدع حيوية الحياة في البلد وفوضويتها تتسلل إلى إيقاعه. كما يحظى الأب الأميركي بمساحة درامية تجعل قصته مثيرة للاهتمام هو أيضاً، على رغم طبيعتها المختلفة وبعدها من مشاكل الشخصيات الأخرى التي تصارع الفقر، إذ إن الأب الذي هجرته زوجته بعد خيانته إياها، يحاول أن يعيد ترتيب حياته الخاصة بالاهتمام بالفتاة التي كان يتوهم أنها ابنته. تخالف القصص الصغيرة في الفيلم التوقعات، ويقدم مشاهد قاتمة عن أم البطلة المدمنة الكحول، لتذكر هذه المشاهد بقسوة الحياة هناك.