ندى حطيط/ الشرق الأوسط- هيمنت الصورة في العقود الأخيرة، أو كادت، على سياقات التواصل والتبادلات الثقافية بين شعوب الشرق الأوسط وأمم العالم، فبنت في ذهن الآخر – الغربي تحديداً – أنموذجاً مؤدلجاً عن شكل الناس والعيش في الشرق، ورؤيتهم للحياة والعالم، تغلب عليه السلبية وأجواء الحرب والعنف المجاني وقهر النساء والأقليات، حتى ليبدو استشراق إدوارد سعيد بالمقارنة وكأنه تبادل ثقافي شفيف بين أمم متنوعة. شكل التواصل المحكوم بتلك السلبية – الذي ينحو نحو نزع الإنسانية عن الآخر – يمثل نوعاً من استقطاب حاد، عديم العمق في الوقت ذاته، بين ضفتي المسكونة، ويخدم تحديداً نوازع الشر عند قلة مستفيدة، دون الأغلبيات المغيبة.
سرجون كرم، الشاعر وأستاذ اللغة العربية والترجمة في معهد الدراسات الشرقية والآسيوية في جامعة بون (ألمانيا)، أخذ على عاتقه، مع زميلة ألمانية له (كورنيليا تسيرات)، فتح كوة تواصل بديل بين العالم العربي والأمة الألمانية من خلال نافذة الأدب الرحبة، تقدم بلغة أوروبا الأولى من حيث عدد الناطقين بها في القارة العجوز باقة منوعة لنماذج شعر نسوي عربي من لبنان في أنطولوجيا (أنطولوجيا كما يسميها البعض) نادرة ثنائية اللغة (عربية – ألمانية)، بعنوان: «العالم في عيوننا: أنطولوجيا نسائية لبنانية».
الأنطولوجيا التي تصدر عن دار «شاكر» للنشر، في مدينة آخن الألمانية، بالتزامن مع يوم المرأة العالمي، الذي يصادف بعد غد، حشد لها كرم دعماً معنوياً من عدة مؤسسات رسمية وثقافية ألمانية ولبنانية: قسم اللغة العربية والترجمة في جامعة بون، والسفارة اللبنانية في برلين، ومؤسسة «أبعاد» اللبنانية للمساواة بين الجنسين، ومنظمة «أرض النساء» الألمانية، وغيرها. وتعرض قصائد مختارة لمروحة واسعة من الشاعرات اللبنانيات المعاصرات (37 شاعرة)، يمثلن بمجموعهن معظم أجيال ساحرات الكلم، واتجاهات اقتراف الشعر نسوياً في ربع القرن الماضي الأخير، والموزاييك الاجتماعي والطائفي للبنان، وهن: أدفيك شيبوب – صباح زوين – مي الأيوبي – باسمة بطولي – دارين حوماني – فاديا بدران – هدى ميقاتي – هدى النعماني – أنعام الفقيه عناية جابر – عناية زغيب – جميلة عبد الرضا – جميلة حسين – ليندا نصار – لوركا سبيتي – مريم خريباني – ميرا صيداوي – ندى الحاج – ندى حطيط – نادين طربيه نسرين كمال – رنيم ضاهر – ريتا باروتا – سنا البنا – سوزان شكرون – سوزان تلحوق – فيوليت أبو الجلد – يسرى بيطار – إيفون الضيعة – غادة إبراهيم – هالة نهرا – زهرة مروة – زينب حمود – نور سلمان – ماري قصيفي – مهى خير بك – مهى بيرقدار الخال.
واستقصد كرم أن يترك للقصائد المنتقاة حرية مخاطبة قارئها الألماني مباشرة، فكانت مقدمته لها بانوراما خاطفة للمناخ العام السائد في لبنان، دون محاولة تقديم تصنيف أدبي مُحدد يسبق القصائد فيؤطر فهمها من قبل الآخر المسجون بتصورات معلبة. وهو في منهجية اختياره لم يقصر الباقة على شكل شعري دون آخر، أو على مدرسة فنية دون أخرى، بل قدم ما يمكن وصفه بأنه صورة فوتوغرافية تلتقط لحظة شعر النساء راهناً في لبنان.
وعلى الرغم من أن «العالم في عيوننا» موجهة أصلاً للقارئ الألماني، فإن هذه الأنطولوجيا تسد بالفعل فراغاً في المكتبة العربية ذاتها، التي تفتقد إلى أعمال جادة تعطي نوعاً من صورة للأدب العربي (الشعر تحديداً) في لحظة تاريخية ما ولجيل ما، سواء عبر الحدود السياسية أو الفضاءات الزمانية أو المدارس الفنية.
يطرح كرم وزميلته من خلال «العالم في عيوننا»، على القارئين الألماني والعربي على حد سواء، تساؤلات مستحيلة أكثر ربما من الإجابات بشأن معنى نسونة الشعر، ومكانة الشعر في دنيا ما بعد الحداثة، وإمكان ترجمة القصائد بين اللغات، وكذلك البحث في قواسم مشتركة مفترضة يمكن أن تجمع بين هذه الأصوات المتباينة الألوان والمشارب.
فهل يمكن فعلاً قبول نظرية أن للنساء أدباً – وشعراً – مستقلاً بهن؟ إن ذلك يعني بالضرورة افتراض توحيد إحساس النساء بالحياة والكون، والتعامل مع نصف العالم بوصفه كتلة واحدة مصمتة، على خلاف الواقع الموضوعي. فالنساء – مهما تدثرن بعباءات النسوية – لا شك هن بنات واقعهن الاجتماعي والطبقي والسياسي والتاريخي المتفاوت حتماً، وما يجمع نصوصهن مع شعراء رجال قد يكون أكثر بكثير مما يجمعها بنساء أخريات، بحسب تقاطعات الزمان والمكان. وهذا ما دعا مبدعات كثيرات، مثل الأديبة البريطانية إيه إس بيات A.S. Byatt إلى رفض ترشيح أعمالهن إلى جوائز الأدب النسائي، والامتناع عن وصم نصوصهن بالنسوية، مع أنهن نصيرات بارزات للنوازع السياسية في النضال الحقوقي للمرأة. فالنص الأدبي لا يكسب كثيراً من خلال تنميطه المسبق بالنسوية أو الذكورية، على حد سواء، وهو أمر يفرض مسبقاً حدوداً على مساحات الخيال وآفاق التعبير، التي ينبغي لها أن تكون دوماً مشرعة للمبدع أو المبدعة – لا فرق – تأخذهما إلى ما بعد حدود اللغة والجسد والحاضر. والنساء الشاعرات العربيات، عبر تاريخ العرب المسجل، دفعن ثمناً غالياً لإقدام حراس الثقافة عبر الأجيال على تصنيف أعمالهن بالشعر النسوي، فاستبعدن من الأنطولوجيات العربية الكلاسيكية إلى منتصف القرن العشرين تقريباً، في إطار النظرة البطريركية التقليدية للنساء داخل المجتمع العربي، أو حدد وجودهن في فضاءات الرثاء والغياب السوداوية، أو في ملاعب التهتك والمنادمة والأنس.
كرم يتمرد بأنطولوجيته على هذا التراث كله، ويمنح ثلة من نساء بلاده صوتاً يرفرف بجناحات تقترف كل صنوف الحرية، دون أن يمارس عليهن سلطة التنميط المسبق، لتصير قصائدهن نوارس من شغف ووجع، معتبراً أنهن (مجاهدات جريئات) «تفرك كلماتهن رأس الفضيحة، وتنزع الضماد عن المأساة»، وأصوات عالية خرجت من ثوب أشعار نساء العرب القديمة لتنطق بكل ما أرادت، وتحكي رؤاهن الجدلية.
لا شك أن بعض النصوص المختارة لـ«العالم في عيوننا» قد تندرج في إطار أدوار وقعت فريسة فخ قبول التصور المجتمعي الموروث عن دور المرأة، كموضوعة للحب أو لهيمنة الآخر، مع نزوع ملحوظ نحو الذاتية والانشغال بالجسد بتفصيلاته، لكن كثيراً من النصوص أيضاً تعد بخطابٍ مختلفٍ يكسر القواعد المألوفة، ويستلهم رؤى تتحدى القائم، وتكرس ندية العلاقة مع هذا الآخر، سواء على صعيد شخصي أو على جغرافيا المواطنة ككل. وهي تصيب مواضع للألم وقلق العيش لا تعني فقط نساء لبنان والعالم العربي، بل تجد أصداء وترددات تعني وتخاطب النساء الألمانيات وعموم نساء العالم اللائي كما لو كن الضحية الأولى دائماً لأنماط الهيمنة الرأسمالية في أشكالها المتأخرة.
«العالم في عيوننا» تحدٍ أيضاً لجدران اللغة التي تعليها جدران السياسة، عبر مغامرة ترجمة الشعر تحديداً من بين الأشكال الأدبية – كأعقد نماذج التعبير الإنساني – بين لغتين كلاسيكيتين تاريخيتين لم تلتقيا كثيراً – لا سيما أن نقل بلاغة العربية وصورها الشعرية وثراء مفرداتها إلى لغة هيغل يعد بمثابة تحدٍ استثنائي يفوق المألوف من أعمال ترجمة النصوص الأخرى. كرم وتسيرات يراهنان حتماً على قدرة المعاني الإنسانية العميقة على تحطيم قوالب اللغة، ومخاطبة أرواح البشر مباشرة، رغم كل خيانات المترجمين التي لا مفر منها، وتعدد شخصيات الشاعرات، بأطباعهن التعبيرية وتجاربهن الحياتية المتفردة، وخيباتهن ورغباتهن ورؤيتهن الذاتية لتجربة الوجود، وتدرجات السواد والعتمة والبياض والضوء في جيوب أرواحهن. كرم لا يكتفي بما فعل، بل إن قائمة مشاريعه قيد التنفيذ تتجاوز حدود لبنان الصغير المنفعل أبداً بالصراع الحاد بين التقليد والحداثة، نحو بناء سلسلة أنطولوجيات عربية – ألمانية عن شعر النساء من أقطار عربية كثيرة ذات تجارب حضارية وتاريخية مختلفة: فلسطين، وسوريا، وربما العراق وتونس، إضافة إلى أنطولوجيا مخصصة لشعراء جنوب لبنان، وأخرى لشعراء اللبنانية الدارجة.
مواجهة كرم، الأخطر دون شك، هي في راهنية الشعر كأداة ممكنة لقراءة الأوضاع الاجتماعية والثقافية للمجتمعات، وهي مسألة تتقاطع فيها الآراء بين من يرى موت الشعر وانعدام دوره في المرحلة التالية لتبدد حالة ما بعد الحداثة، ومن يخلده كصوت للكون تتناقله قبائل من سحرة غامضين، ليبثونه أحاسيس للبشر من جيل إلى جيل. كرم بأنطولوجيته كما عراف لا يقبل تجريد الواقع، فانطلق يجمع ألواناً من شعر قالته النساء، ليصنع منها مداميك بناها جسراً بين العوالم؛ لو كان غوته بيننا اليوم لعبره ممتناً.