وجد عبدالله/ raseef22- وسط الزحام الكثيف، وقفتْ بجسدها المتكوّر، حديثاً، محاصرةً بعشرات الأجساد الأضخم منها والأطول. حاولتْ الوقوف على أطراف أصابعها لتبحث بنظراتها عن أمّها التي غابت في الزحام، لكن كل ما كان يظهر على مستوى نظرها هو ظُهور الغرباء… الكثير من الغرباء.
محاولتها الإفلات من ذلك الحشد الذي كان يعصرها باءت بالفشل، نكزةٌ هنا ونكزةٌ هناك لم تنفعها في التملّص. فجأةً انتبهت إلى ذلك “الشيء الصلب” الذي كان يعوق حركتها، “شيءٌ ما” غريب كان يكبّلها من الخلف، وحين أرادت الالتفات، شعرت بلهاثٍ خفيف فوق شعرها، وهمساتٍ غير مفهومة وسط ذلك الزحام والأصوات العالية.
كان “قضيباً” ذلك الذي كبّل حركتها، وهو يُفرَك على ظهرها، مستقوياً بجسمه الضخم، وبعشرات الأجسام الأخرى التي مدّت له يد المعونة (دون تخطيطٍ ربما) ليكمل تحرّشه بها حتى النهاية.
استيعابها ما يحدث تعطّل تماماً، محاولاتها الإفلات كانت منهكةً وانتهت بأن خارت قواها وشُلَّت حركتها، صوتُها الذي كان يُصارع ليخرج من حنجرتها خُمِد بكاتم صوت لا تعرف سببه: الخوف أم الصدمة، أم كلاهما معاً؟
كانت في عمر الـ15، في المطار، حيث يحتشد الأهالي والأنسباء في انتظار خروج أقاربهم من قاعة الوصول. ذهبت مع أمها وأبيها لتستقبل قريبتها، لكنها وجدت نفسها وسط الزحام وقد غابت عن أمها… وحيدةً أمام مُتحرّش كهل.
قصة هذه الفتاة هي قصتي. أبدأُها بالضمير المؤنث الغائب: هي، لا المتكلّم: أنا، لا من باب المواربة، انتهى عهد المواربة، فلقد قرّرت البوح.
هذه أنا، وبعد مرور عقودٍ على تلك الواقعة، أتحدّث عنها بهوية مكشوفة. أنا وجدان بوعبدالله، تحرّشوا بي مراراً في وسائل النقل العام وفي أماكن أخرى. تلك الواقعة التي عشتُها وأنا مراهقة، وخرجتُ من ذلك الحشد لأعثر على أمي بعيداً، كتمتُها في قاع نفسي، كمن يخفي بملفٍ خطير في درج لا تبلغه العيون. اليوم أفتح الدرج وقد علا الملف الغبار، أمسحه بيدي وأخبرُكم عنه.
أنا مواطنة تونسية، و“أنا زادة” (تعني أنا أيضاً باللهجة التونسية) تعرّضتُ للتحرّش في تونس وخارجها، لكن الأقسى كانت تلك الواقعة في المطار وأنا مراهقة.
شيءٌ ما بداخلي انكسر يومذاك إلى الأبد، لا أعرف هل هي الاستكانة التي تحوّلت فيما بعد إلى بركان غضب أم الثقة بـ “الكبار” التي حلّت محلها الريبة مدى الحياة من هؤلاء الذين نسميهم الكبار.
يومذاك حين أفلتُّ من ذلك الكهل، اخترتُ الصمت، احتفظت ُبذلك السر عقدين من الزمن. وفي خضم الحديث مع الرفيقات عن تجارب التحرّش التي نمرّ بها، كنت أتحدّثُ في وقائع تحرّش عديدة، لكني تعمّدتُ إسقاط “واقعة المطار” من حديثي ومن ذاكرتي ووجداني، لشدّة قبحها وألمها المصاحب، كان علي أن أختار وأدها بداخلي على الإفصاح عنها.
لكني اليوم اخترتُ البوح، وكأني أشدّ بذلك المتحرّش من شعره وآتي به من وسط تلك المجموعة في المطار، لأصرخ أمام الملأ “هذا الكائن تحرّش بي”.
اليوم، سقط الخوف، الخوف من الإفصاح عن تلك التفاصيل المؤلمة، عن تلك الأجسام التي تحتّك بنا وتقتحم حميميتنا على نحوٍ مذل وعنيف قسراً وعدواناً، ونخافُ من ذكرها لأننا جُبِلنا على الخوف من ذكر “العار”. صوّروا لنا “العار” على أنه كلّ لمسةٍ تمسّ جسد الفتاة، حتى لو كانت رغماً عنها، العار أن نتحدّث، أن نكون صريحات، أن نسمّي الأشياء بأسمائها، كأن أقول بوضوح: اسمعوا هذا تحرّش بي، التصق بي، عضوه كان قريباً من ظهري، وضع يده على مؤخرتي…كلّ تلك الكلمات كانت في قاموس “العار”، وأنا لسنوات، تحمّلتُ ذلك “العار” بداخلي، فيما كان المتحرّش يواصل حياته وتحرّشه ربما.
“أنا زادة”… تحرّشوا بي. و”أنا زادة” قرّرتُ أن أحدّثكم به، “أنا زادة” ما عدتُ أخاف من البوح ولا من تلك الذكريات المؤلمة التي جعلتني ذات يومٍ حار أغادر المطار مطأطئة الرأس دون أن يُلاحظ والداي ما كُسِر بداخلي.
كنت أتملّص من تلك الأجسام، وأحياناً أصرخ “شبيك لاصقني”؟ (لماذا أنت ملتصقٌ بي؟) أحياناً أخرى كنت أنزل في محطةٍ ليست محطتي هرباً من متحرّش أو اثنين أو أكثر لم تكن لدي الجرأة ولا الشجاعة لمواجهته/هم علناً. واقعة المطار لم تكن حادث التحرّش الوحيد الذي تعرّضت له، ففي وسائل النقل العمومي التي كنت أستقلُّها وأنا تلميذة ثم طالبة، وكانت مكتظةً بما يكفي لتحتكّ الأجسام الضخمة بالضئيلة على نحوٍ مهين ويسميها البعض “شراً لا بد منه لأن الدنيا زحمة”، تعرّضتُ كغيري من الفتيات للتحرّش.
كم حادث تحرّش عليّ إخباركم به لتعرفوا حجم الاعتداءات التي نتعرّضُ لها كنساء في حياتنا، وكأنّه قدرُنا أن نكون فريسةً لتلك الأيادي العابثة وتلك البناطيل التي كانت تُفتَحُ من خلفنا أو أمامنا مستَقويةً علينا، لأنها (تلك الأيدي) لعقودٍ درست حجم الخوف الجماعي فينا من المتحرّشين أولاً، ومن مجتمعاتنا الشرقية التي درّبتنا على إتقان الصمت وجلد الذات والتستّر على مجرمين؟
أنا زادة يوماً ما حين اشتكيتُ في دولةٍ عربية بمتحرّشٍ عرّى نفسه أمامي في فندق، وعدوني بمحاكمته أمام القضاء وفصله عن عمله، وحين غادرتُ البلاد، عاد إلى عمله ولم يُحَاكم. أنا زادة، خذلوني حين حرّرتُ شكوى في متحرّش… لكن أنا زادة لن أتراجع عن فضح المتحرّشين. أنا زادة… تمنيتُ ألا يحدث كلّ ذلك، ألا يلمُس جسدي سوى من اخترتُه طوعاً، تمنّيت ألا يقتحم جسدي ولا كياني متحرّش لا فعلاً ولا قولاً.
وأنتِ زادة… لا تخافي… آن الوقت للبوح.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.