بيسان سارة/ موقع السيدة- ورث السوريون إبان خروج المستعمر الفرنسي عام 1946، دولتهم بملامح ديمقراطية برلمانية، تتمركز السلطة فيها بيد الإقطاع وطبقة برجوازية تجارية. لكنهم سرعان ما وقعوا، على مدار ما يقرب من ربع قرن أعقب الاستقلال، ضحية لأكثر من عشرين انقلاباً ومحاولة انقلاب قام بها العسكريون من ضباط الجيش، وتحولت سورية خلال السنوات التي سبقت استيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963، إلى ساحة للصراع الإقليمي والدولي، كما أدى تصارع الأحلاف العسكرية والكيانات السياسية الكبرى على سوريا إلى تعميق حالة الفوضى والاضطراب التي رافقت حكم الجنرالات، لكن السوريين اختبروا في الوقت ذاته الحراك المجتمعي السياسي، فتعددت ولاءاتهم السياسية، وعرفوا حرية الصحافة والإعلام، والأشكال الجنينية الأولى لتنظيمات المجتمع المدني.
مع وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963 إثر انقلاب عسكري، كانت سوريا أمام تحول جذري قضى نهائياً على البنية الجنينية للدولة القديمة، وأدت ثورة البعث التي خاضها باسم العمال والفلاحين إلى صعود طبقة سياسية جديدة حكمت المجتمع، وتصارع أبطالها فيما بينهم وأدخلوا سوريا في عزلة دولية، إلى أن حسم الصراع بتربع حافظ الأسد على سدة الحكم في عام 1970.
وقد عمد الأسد فور تسلمه السلطة إلى تأسيس دولة سلطوية، تحتفظ فيها الأجهزة الأمنية بسلطة شبه كلية على حكم المجتمع، وعمق الأزمات الاقتصادية التي زادت من فساد النظام وتحكم رجالاته بالدولة والمجتمع شيئاً فشيئاً.
المنظمات الشعبية سلاح لحكم المجتمع
سعى حزب البعث إلى تأسيس المنظمات الشعبية، أو التغلغل في منظمات قائمة لتوسيع قاعدته الشعبية وتطبيق مفهومه المستورد من الاتحاد السوفييتي عن الديمقراطية الشعبية، وانضمت هذه المنظمات إلى هيئات دولية وتبادلت الزيارات مع منظمات مشابهة في دول أخرى، وكان من أبرز هذه المنظمات الاتحاد العام للفلاحين، الذي تأسس عام 1964 وعقد مؤتمره الأول في العام التالي، وأسفر عن انتخاب قيادة جديدة موالية للبعث، وعملت قيادة الاتحاد الجديدة على رفض عضوية الفلاحين الذين لا يوالون البعث، وهو ما أدى إلى خسارة قاعدة شعبية عريضة خاصة في منطقة الجزيرة التي يوالي فلاحوها الحزب الشيوعي، وتأخر الإصلاح الزراعي. كذلك الاتحاد الوطني لطلبة سوريا الذي تأسس في الثالث والعشرين من نيسان عام 1963، وتأثر تأثراً كبيراً في بداياته بتيارات البعث المتصارعة، لكن البعث عاد في عام 1966 واعتقل الكثير من قياداته، ثم تسامح معهم ودعمهم مالياً وأغدق على إداراته المتعاقبة العطايا، فصار الاتحاد قريباً جداً من البعث الذي وضع آمالاً كبيرة على قطاع الطلبة كقاعدة شعبية واسعة له. واتحاد شبيبة الثورة الذي تأسس أيضاً بالمرسوم التشريعي رقم 23 لعام 1970، لتنظيم صفوف الشباب بين الـــ 14 والـــ20 عاماً في كل القطاعات الاجتماعية.
أما الاتحاد العام لنقابات العمال، فهو وإن وكان صاحب تاريخ عريق في الحركة العمالية، وضم بين صفوفه ممثلين عن مختلف التيارات السياسية من ناصريين وشيوعيين وقوميين وبعثيين، إلا أن حزب البعث وبعيد استلامه السلطة في العام 1963، سعى جاهداً إلى مد نفوذه على الطبقة العاملة من خلال السيطرة على الاتحاد، وخلال أربع سنوات استبدل قادة الاتحاد وكوادر فروعه وقادة النقابات بأشخاص اختارهم الحزب، وفي الخامس والعشرين من كانون الثاني لعام 1964، أصدرت الحكومة المرسوم رقم31 الذي نظم الاتحاد العام لنقابات العمال بشكل هرمي، واستبدل العملية الانتخابية بتعيين اللجان العمالية في المصانع واتحادات المحافظات، ثم عينت الحكومة قيادات جديدة للاتحاد العام والنقابات المنضوية تحت عضويته، وأشرف المعيّنون الجدد على انتخاب ما تبقى من مناصب تركت لعملية انتخابية، فكانت النتيجة نفوذاً حاسماً للبعث في كل المناصب والمستويات.
إذاً دأب حزب البعث منذ استلامه السلطة وحتى اليوم، إلى بسط نفوذه على هذه المنظمات من خلال عمليات مضبوطة ضمنت وصول البعثيين إلى رأس الهرم التنفيذي فيها، ليعمد من خلال هذه المنظمات إلى تمكين قبضته الحديدية على الدولة والمجتمع، من خلال بناء قاعدة شعبية لهيكلية سياسية حديثة لسوريا، “كما ادعى الحزب”، بدلا من الأرضية الطائفية والعشائرية والمناطقية، وكبديل عن التعددية الحزبية في الديمقراطية الغربية، لكن الحقيقة كانت عكس ما ادّعى الحزب، إذ تبين أن المنظمات لم تكن إلّا غشاءً رقيقاَ من التقدمية لم تُعط صلاحياتٍ تمكنها من لعب دورها، وكان محركها الفعلي مجموعات بعثية داخلها، تناور على الأوتار الطائفية والعائلية وتدعم أزلامها من المنطلقات الضيقة نفسها التي يفترض أن تحاربها، لتبقى لها اليد العليا في التحكم بالجماهير المنضوية تحتها.
البدايات الأولى للاتحاد النسائي
عرفت الحركة النسوية السورية أول أشكال التنظيم عام 1933 حين تداعت ثلاث جمعيات نسائية لإطلاق نواة الاتحاد النسائي العربي السوري، وانتخبت حينها السيدة “عادلة بيهم الجزائري” رئيسة له، وبدأ الحراك النسوي تصاعده، فشارك الاتحاد في إضراب عام 1936، وبدأ يسهم في التنمية من خلال مشروع إنعاش القرى ومكافحة الأمية في مركز جديدة عرطوز غربي دمشق، كما شارك الاتحاد عام 1938 في المؤتمر النسائي الفلسطيني الذي عُقد في القاهرة، وحينها أُعلن تأسيس أول اتحاد نسائي عربي عام، وكانت السيدة الجزائري من الموقّعين على وثائق تأسيسه. لاحقاً، وفي العام 1944، توسع الاتحاد ضاماً بين صفوفه العديد من الجمعيات النسائية: النادي النسائي الأدبي، نقطة الحليب، يقظة المرأة الشامية، خريجات دور المعلمين، دوحة الأدب، الندوة الثقافية النسائية، الإسعاف العام النسائي، المبرة النسائية، كذلك الجمعية الثقافية الاجتماعية، وهو الانضمام الطوعي الأوسع في تاريخ الحركة النسائية في سورية، وجرى حينها تجديد انتخاب الجزائري لرئاسة الاتحاد، وظلت في هذا المنصب حتى عام 1967.
وعرف الاتحاد في تلك الفترة المشبعة بالمد القومي العربي مشاركات سياسية رفيعة المستوى، إذ شارك في المؤتمر النسائي العربي العام، وفي المؤتمر النسائي الدولي الذي عقد للمرة الأولى في بيروت، كذلك انتدبت الجزائري من الاتحاد لتمثيل سوريا في لجنة حقوق المرأة التابعة للأمم المتحدة، كما نظم الاتحاد المظاهرات النسائية، التي دعت لإعادة النظر في قانون الأحوال الشخصية بهدف تلافي بعض التمييز ضد المرأة بكسر الاحتكار الذكوري للوظائف في السلطتين القضائية والتنفيذية، مع المطالبة بمساواة المرأة مع الرجل في الراتب التقاعدي بعد الوفاة، كل ذلك أسهم بشكل أو بآخر في صعود قضايا المرأة بشكل واضح على السطح السياسي، الذي اتسمت ملامحه بعد الاستقلال بالاضطراب جراء الانقلابات العسكرية المتتالية التي استمرت حتى صعود حزب البعث إلى السلطة عام 1963، ومن أبرز وجوه الحركة النسائية حينها: “قمر قزعون شورى”، التي شغلت منصب أمين سر الاتحاد النسائي حتى عام 1963، “بديعة أورفلي”، “جيهان الموصلي”، “نهلة وصفي الجابي”، “ريمة كرد علي العظمة”، “فلك دياب”، “سعاد حلبي”، “نعمة دياب”، “جيهان دياب”، والأديبة “ألفة عمر باشا الإدلبي”.
تأسيس الاتحاد النسائي العام
لم يكن موقف حزب البعث من المرأة ثورياً أو تغييرياً، بل كانت التحسينات تأتي من هنا وهناك، دون منهجية عميقة منسجمة مع الأدبيات التي طرحها الحزب في دستوره، واستخدم الحزب قضية المرأة ورقة رابحة تدافع عن شعاراته التي طرحها كبديل علماني للمجتمع، لكنه كان حريصاً على تجنب الصدام مع البنية التقليدية للمجتمع، ولعل الفترة الأولى من حكم البعث للدولة السورية لم تحقق أي مطلب من المطالب التي كانت قد رفعتها التجمعات النسائية كإصلاح قوانين الطلاق والزواج والإرث.
لاحقاً، ولا سيما بعد حركة شباط 1966، عمد الحزب إلى السيطرة على الجمعيات التي يمكن أن تساهم في الدفاع عن حقوق المرأة، وضيّق حتى على الجمعيات الخيرية النسائية، بحجة تأسيس الاتحاد العام النسائي، وبات على من ترغب القيام بأي نشاط يتعلق بالمرأة، الانضمام إليه، بدل ممارسة نشاطها خارجه، وألغيت حرية التعبير وحرية الصحافة وتراخيص الكثير من الصحف والمجلات، كان ضمنها المجلات النسائية التي تدعو إلى تحرر المرأة ومشاركتها في الحياة الاجتماعية والسياسية.
وبالفعل، دعا الحزب في نهاية عام 1966 إلى تشكيل لجان تحضيرية نسائية في مختلف المحافظات، خاصة في المدن الكبرى، لبحث مشروع إنشاء اتحاد عام نسائي، وما هي إلّا أشهر قليلة حتى صدر المرسوم التشريعي رقم 121 بتاريخ 26/08/1967، القاضي بإحداث الاتحاد العام النسائي كمنظمة شعبية لاستنفار طاقة الشعب في خدمة المصلحة القومية كما نص مرسوم التأسيس، وعينت “سعاد العبد الله” رئيسة للاتحاد، في حين بقيت عادلة بيهم الجزائري رئيسة فخرية له، ومن أبرز عضوات المكتب التنفيذي حينها، قمر كيلاني التي شغلت رئاسة لجنة الإعلام.
كما موّل الحزب هذا الاتحاد وزوّده بالمكاتب والمقرات، وخلال السنوات الأولى من تأسيسه جذب الاتحاد ما يقرب من عشرة آلاف عضوة جلهم من المنتسبات للحزب، كما عمد الاتحاد إلى تأسيس مجلة نسائية شهرية، وقدم برنامجاً تلفزيونياً أسبوعياً، وبرنامجاً إذاعياً يومياً عن شؤون المرأة، لكنه ضيّق على الجمعيات النسائية التي كانت قائمة آنذاك، ومنع تشكيل أي جمعية نسائية جديدة، أو أي تجمع يطالب بحقوق المرأة.
مراسيم ومراسيم مضادة
تنوعت نشاطات الاتحاد من تأسيس المستوصفات إلى مراكز حضانة الأطفال، إلى الدورات المهنية التي تدرب النساء على الحياكة والطباعة والقراءة والكتابة، وفتح بذلك أفقا ضئيلاً أمام المرأة للخروج إلى العمل ومحو الأمية، لكنه لم يحدث أي تغيير حقيقي في دور المرأة السورية بالمجتمع بل عمل على تحضير المرأة لتلقي دورها التقليدي بأسلوب آخر.
وقد ألغي هذا المرسوم لاحقاً وحل محله القانون رقم 33 لسنة 1975 المعدل بالمرسوم التشريعي رقم 3 تاريخ 5/2/ 1984، ثم صدر قرار وزير الشؤون الاجتماعية والعمل رقم 694 تاريخ 16/9/1986 بالنظام الداخلي للاتحاد العام النسائي.
يضم الاتحاد العام النسائي وفق قوانين تعديلاته: الوحدة النسائية والرابطة النسائية والفرع والمكتب التنفيذي ومجلس الاتحاد والمؤتمر العام. ويحدّد النظام الداخلي للاتحاد مسؤوليات كل تنظيم وأعماله وطريقة تكوينه.
وجاء في نصوص التعديلات أن الاتحاد العام النسائي يعمل على تحقيق مجموعة متكاملة من الأهداف التي تتصل بالمرأة ونشاطها ومكانتها. وفي مقدمة هذه الأهداف، تنظيم طاقات المرأة وجهودها في العمل الجماعي الموحد، وتعميق الوعي القومي لديها ورفع مستواها الثقافي، وتنمية خبراتها لتتمكن من الإسهام الفعّال في الحياة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية بما يحقق إقامة المجتمع العربي العادل في الحقوق والواجبات، والعمل على توفير الخدمات اللازمة للمرأة لتكون مطمئنة في المنزل وفي العمل، والاهتمام بالمرأة السورية خارج القطر وإقامة صلات تنظيمية معها، والعمل مع جماهير النساء والمنظمات النسائية في البلاد العربية من أجل تحرير المرأة العربية، وإيجاد الوسائل العلمية والعملية الهادفة إلى خدمة قضية المرأة العربية، والتعاون مع المنظمات والحركات النسائية في العالم.
ويحرص الاتحاد العام النسائي على القيام بكل ما من شأنه تلبية أهدافه، ويدخل في ذلك إقامة الندوات والدورات التثقيفية والتأهيلية، وإصدار النشرات والمجلات والصحف، والإسهام الفعال في خطة محو الأمية وفي رعاية الأطفال ولاسيما أولاد المرأة العاملة، والإسهام في الخدمات الريفية، والتعاون مع المنظمات الشعبية والمؤسسات الحكومية في كل ما يخدم مكانة المرأة وإسهامها في حياة مجتمعها.
تعاقب على رئاسة الاتحاد العام النسائي ثمانية نساء فقط خلال أربعين عاماً من تأسيسه، هن على الترتيب: “سعاد العبد الله، بشرى كنفاني، هاجر صادق، فريال مهايني، بشيرة توكلنا، سعاد الحاج بكور- ماجدة قطيط – رغداء أحمد”.