مقالة مترجمة/ جريدة (القدس العربي)- في العقود الأخيرة انفجرت في العالم الإسلامي البحوث المتعلّقة بالمرأة والجنس. وعلى الرغم من تنوّع المناهج والموضوعات، كانت هناك أرض مشتركة بينها: وهي نقد الاستشراق وزعزعة تصويره لفكرة المرأة المسلمة المستَضعَفَة. وهو ما سوف أُشير إليه باسم «الأدبيات النقدية».
غنيٌّ عن الذكر أنّ معظم الناس يربطون مصطلح الاستشراق بإدوارد سعيد، فقد استخدمه في الأوساط العلمية والثقافية والسياسية في أوروبا ليصف التمثيلات التاريخية للشرق. وكانت هذه التمثيلات ترتكز على فئات أساسية وثنائية تفصل الغرب (الحديث، العقلاني، التحرري) عن الشرق (التقليدي، غير العقلاني، القمعي). وهكذا لم يقتصر الاستشراق على تنظيم المعرفة عن الشرق الأوسط، بل قام أيضاً ببناء الغرب، باعتباره متفوّقاً في الثقافة والسياسة، ما أضفى شرعيةً على الهيمنة الأوروبية. وهناك مقولةٌ يتداولها المفكرون ومفادها: أن مفتاح التفكير الاستشراقي موجود في وضع المرأة المسلمة المستَلَبَة والمقهورة، التي خضعت لأعتى حضارة أبوية.
ويشير قدرٌ كبير من البحوث إلى مركزية الجنوسة في المشروع الاستعماري، فقد استخدمت فكرة اضطهاد المرأة لتبرير الاستعمار وإضفاء الشرعية عليه (بتعبير بارتا شاتريجي). ومن الأهمية بمكان أنه كان يُنظَر إلى إخضاع المرأة على أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمراض الأخرى، التي تعاني منها المنطقة، بما في ذلك التخلّف الاقتصادي والخلل السياسي والتخلّف الثقافي.
وقد تضاعف الاهتمام بالجنوسة الشرقية بعد 11 أيلول/ سبتمبر، عندما لاحظ العلماء منطقاً مماثلاً تتم إعادة إنتاجه في الحرب على الإرهاب. وقد دخل الاستشراق إلى مجال السياسة، من خلال الترويج لفكرة الحل العسكري وإنقاذ النساء الأفغانيات والعراقيات من أوضاعهنّ المزرية، وحتى بعد تضاؤل الحماس الشعبي لهذه الحروب، لا يزال الخطاب العام في الشارع الغربي مع فكرة أن المرأة المسلمة مضطَهَدة، وأن الذكور متحيّزون ضدّها.
وبقدر ما أصبح الاستشراق الجنساني ضرورياً، بشكل خاص في السنوات الأخيرة، فإن الحاجة إلى تحدّيه أصبحت مسألة ملحّة.
وفي محاولةٍ لزعزعة قوالب الاستشراق النمطية، ظهرت مؤلَّفات تتحدّى الافتراض السائد: بأنّ الإسلام هو السبب الحقيقي في قهر المرأة. وأسفرت هذه الجهود عن التأسيس لعددٍ من النظريّات منها: 1- نظرية التنوّع في تفسير التقاليد الإسلامية. 2- نظرية اكتشاف مؤسسة المرأة ووسائطها. 3- نظرية تحليل الآليات والظواهر الجيوسياسية العابرة للحدود الوطنية، التي تحدّد العلاقات بين الجنسين.
وانطلاقاً من هذه الاتجاهات، بدأنا نسمع أنّ الإسلام أو الثقافة الإسلامية، لم يتسببا بقمع النساء بشكلٍ متشابه. ولهذا الشك عدّة جوانب،
أولاً، هو يتحدّى المنظور غير التاريخي الذي ينظر إلى الإسلام على أنه مجموعة من أوامر قانونية وعقيدية لا تتغيّر، وتتصف بالجمود مهما تعاقبت الأطوار والمراحل، لسبب بسيط أنّ «الثقافة الإسلامية/ المسلمين» ليس كياناً متجانساً. ويوجد كم مذهل من التنوّع الذي تمثّله الجماعات الدينية الممتدة من أوروبا الشرقية إلى جنوب افريقيا، وحتى الشرق الأقصى. وعلى الرغم من أنّ هذه الجماعات تشترك بكتابٍ مقدَّس واحد، فإن تفسير التعاليم والممارسات الإسلامية -بما في ذلك تلك التي تحكم العلاقات بين الجنسين- تختلف بشكل كبير من جماعة لجماعة. وإذا كان الفكر السياسي يتهم الإسلام بارتكاب جناية ضدّ المرأة، ويعتقد أنه سبب جذري في القهر الذي تشكو منه، فهو يستمد رؤيته أساساً من فلسفة الحداثة و/أو «صراع الحضارات».
ويلخّص إنغلهارت ونوريس هذه المشكلة بقولهما: «إن التراث الديني الإسلامي هو أحد أقوى الحواجز أمام المد المتصاعد للمساواة بين الجنسين»، ولكن في الحقيقة كان الإسلام سبّاقاً بتوجيه النقد القاسي لأعداء المرأة. إنما لدينا ملاحظات تشير إلى أن العرب «معروفين بتبخيس قدر المرأة»، وليس المسلمين بشكلٍ عام (كما ورد في دراسة ميدانية لهيلين ريزو بالاشتراك مع آخرين 2007). ولكن مشكلة هذه البحوث أنها تتبع أساليب غير مخصّصة وطنياً (بمعنى أنها تُلغي قيمة الحدود الوطنية وتقفز من فوقها). بتعبيرٍ آخر هي تختزل الإسلام في متغيّر متبدّل أو مستمر، يفترض أنه يتسبّب بآثار موحّدة، بدلاً من متابعة الاختلاف الداخلي الذي تنتجه المؤسسات الإسلامية وأساليبها. وهذا يحجب عنا رؤية تأثير مؤسسات معيّنة تتحكّم بمختلف جوانب حياة المرأة. فعلى سبيل المثال، لا يكون محو الأمية بالضرورة متقاطعاً مع مشاركتها في قوة العمل، أو موقفها من المساواة.
وقد حاول بعض المهتمين بالفكر السياسي تجاوز النظرة الضيقة للإسلام من خلال الإيحاء بأن العوامل الاقتصادية والبنيوية، وليس الدين والثقافة، هي المسؤولة عن تبعية المرأة. على سبيل المثال قدّم مايكل روس دليلاً دامغاً على أن إنتاج النفط -وليس الإسلام- هو الذي يشجّع على عدم المساواة بين الجنسين، أولاً في المجال الاقتصادي، ثم في المجالات الاجتماعية والسياسية.
وربما تفيد أيضا بهذا الخصوص دراسة مؤسسات إسلامية محدّدة، كمتغيّرات وسيطة، تشكّلها سيرورة السياسة والاقتصاد، وفي الوقت نفسه تؤثّر في العلاقات بين الجنسين، في مجتمعٍ معيّن. مثلاً يمكن أن نبحث مستقبلاً عن الطرق التي يتمّ فيها التفاوض على السياسات الجنسانية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، خلال نزاعات النخبة وبناء التحالفات. كيف تصبح القضايا الجنسانية مسيّسة، وإلى أي مدى يتم تسييسها بشكل مختلف عبر البلدان؟ وكيف تؤثر إدارة الدولة على المكوّنات الدينية وتتعاون معها لتطوير قانون الأحوال الشخصية، أو المؤسسات الأخرى التي تؤثّر في حياة المرأة؟
وتحدّت الأدبيات النقدية، أيضاً، الصورة النمطية للمرأة المسلمة، وفكرة أنها ضحية سلبية، وأكّدت على دورها السياسي المؤثّر. وهناك اتجاهٌ يُحاول استعادة الحركة النسوية، كما عرفها الإسلام قديماً في أطوار جنينية من حياته، ولذلك فإنه يرفض فكرة أن الإسلام هو في الأساس بطريركي، أو أنّ حقوق المرأة أو الحركة النسائية فيه تحكمها مفاهيم مستوردة من الغرب. وبدلاً من ذلك، يستلهم النصوص الإسلامية المقدّسة، والفقه الليبرالي والأحداث التاريخية السابقة، ويعتبر أنها دليل على التعايش الموضوعي بين الطرفين، بل يرى أن الإسلام (مفوّضٌ بهذه المهمة إلهيّاً كما قالت أسماء بارلاس 2002).
وعليه أصبح من الشائع أن نتكلّم عن «النسوية الإسلامية» أو «الاتجاه الإسلامي في نشاطات المرأة»، ولكن هذا أدّى لفوضى في المصطلحات، وخلط بين معنى المرأة بصفة وسيط وبصفة طرف، أو مقاومة. وتقول سابا محمود في دراستها المؤثّرة عن دور المساجد في مصر؛ إن النساء التقيّات يعبّرن عن الولاء من خلال قبول الأعراف الأبوية، والتآلف معها وتوطيدها، مثل الحياء والفصل بين الجنسين. وتضيف أن الإخلاص لمثل هذه المعايير لا يمكن أن يُرفض على أساس أنه وعي زائف، أو أيديولوجية عمياء، بل هو ممارسة عملية تقوم بها المؤسسة الأخلاقية للمرأة.
ومن الأمور الشائعة أن تجد أنّ النساء قد لا يرغبن دائماً في التحرّر من القيود الدينية. وفي كثيرٍ من الأحيان يتطوّعن للعمل في ظلّ هذه القيود -مهما كانت أبوية- لتعزيز مصالحهنّ الخاصة، وفق رؤيتهنّ لها. حتى كلمة «قيود» قد تكون مضلّلة، لأنّ البيئات الدينية توفّر الموارد والفرص نفسها المتاحة في البدائل العلمانية.
والواقع أنّ الحركات السياسية الإسلامية، غالباً ما تتفوّق على نظيراتها من الحركات الليبرالية، وتوفّر دعماً استثنائياً للمرأة، وتقدّم لنا سبباً آخر لإعادة النظر في نظريات التحديث/ العلمنة التي تتهم الدين باضطهاد المرأة. وليس المقصود تجاهل أو تقليل التفاوت بين الجنسين في العالم الإسلامي، لكن التركيز على إخضاع المرأة يمكن أن يحجب جوانب واقعية أخرى ومدعاة للتفاؤل. والدراسات الميدانية التي تتناول مصر، مثلاً، تؤكّد أن غالبية المسلمين يدعمون تحرير المرأة، وينطلقون من القرآن لتبرير رأيهم وليس من مبرّرات غير دينية.
أخيراً، تبرز الأدبيات النقدية أهمية النظرة الكونية لدراسة الجنوسة في المجتمعات الإسلامية. وقد ذكر إدوارد سعيد أن الاستشراق لم يكن ببساطة مجرد سوء تمثيل لـ«الشرق»، بل قام بدور نشيط في بناء الغرب، وتحديد علاقته بأراضي المسلمين. وهذه الارتباطات بدورها تشكّل هدف المجتمعات الإسلامية نفسها.
والواقع أن عمليات الاستعمار وبناء الدولة عبر الوطنية، كانت لها آثار عميقة في المجتمعات الإسلامية، وإن ما يسمى بالممارسات «الأصلية» أو «المحلية»، كانت نتاج هذه العلاقة مع آليات العمل الكونية المومأ إليها. وأحد الآثار المترتبة على ذلك أنّ فهمنا للجنوسة في المجتمعات الإسلامية غير كامل أساساً، ونحن حتى الآن نتعامل مع هذه المجتمعات على أنها قائمة بذاتها ومنفصلة بشكل مطلق عما هو عابر للحدود الوطنية.
مثلاً إن قانون الأحوال الشخصية الإسلامي الحديث، أو قانون الأسرة له جذور تعود لفترة الحكم الاستعماري. وفي مقارنةٍ بين ماليزيا ومصر والهند، تُظهر إيزا حسين، كيف تم إنتاج وتقنين قطاع «الشريعة الإسلامية» من خلال سلسلة من اللقاءات بين الحكام الاستعماريين والنخب المحلية.
والواقع أن الهيئات النسائية كانت في كثيرٍ من الأحيان نقطة صراع سياسي على نطاقٍ أوسع، فضلاً عن كونها الحامل لأي نسخة من نسخ الحداثة وتحقيق الأمة، وإنجاز شعار السيادة حسب معايير تلك الفترة.
ونعود لإيران؛ حيث أدّى نزع الحجاب قسرياً في فترة الشاه إلى أسطرة العباءة حتى أصبحت بعد الثورة الإسلامية زيّاً موحّداً يدلّ بامتياز على معاداة الإمبريالية ( بتعبير نجم آبادي). وبالمثل، اكتسب الحجاب في الجزائر بعد حملة فرنسا الرامية للتخلّص من النقاب، أهميةً سياسية وأصبح رمزاً للمقاومة المناهضة للاستعمار.
إنّ تطوّر المعايير الجنسانية «الأصيلة» أو «الأصلية»، التي تُخالف المعايير الغربية لا تزال في صعودٍ مستمر في العصر الراهن، خاصةً منذ النهضة الإسلامية التي بدأت في السبعينيات والثمانينيات. وتكشف السرديات الأخيرة أنّ المرأة تميل لارتداء الحجاب والعودة إلى التقوى، وهذا هو الأسلوب المرغوب والسائد للتأسيس لحداثة بديلة متميّزة، تختلف عن النماذج العلمانية الغربية (بلغة نيلوفر غول).
ولنفهم تماماً الممارسات الجنسانية أو دور المؤسسة النسائية، نحتاج إلى جهاز نظري، يولي اهتماماً وثيقاً بالنشاطات العابرة للحدود الوطنية. وهنا سوف أقارب نقطتين فقط
1 ـ لاحظ العديد من الباحثين أن النقاش حول حقوق المرأة في البلدان العربية، يتشكّل من خلال معاداة الولايات المتحدة ومعاداة الغرب. وينظر الكثير من العرب إلى معايير حقوق المرأة على أنها شكل من أشكال الإمبريالية الثقافية، وبالتالي لا بد من مقاومة هذه المعايير لتحقيق السيادة وتماسك الأمة. ولكن هل هذه الملاحظة موجودة في جميع أنحاء العالم الإسلامي؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فما الذي يفسر الاختلاف في تصوّر علاقة حقوق المرأة مع الهيمنة الأمريكية، أو الإمبريالية الثقافية؟ قد يكمن أحد الأدلة في بحوث بلايدس ولينزر (2012)، اللذين يؤكّدان أن جذور معاداة الولايات المتحدة ناجمة عن التنافس بين الأحزاب الدينية والعلمانية في الشرق الأوسط.
2 ـ نحن في حاجة ماسّة إلى فهم أفضل لتأثير التدخل العسكري الأجنبي والحروب المستمرة على حياة المرأة في الشرق الأوسط، وأماكن أخرى من العالم. ومن المرجح أن يتحدّى الواقع الاستنتاجات المعيارية السهلة. وفي مواجهة هذا التعقيد، فإن البحوث المقارنة هي أداة حاسمة لتحديد الأنماط العامة والعلاقات السببية. ولكن أن أدَّعي أن البحوث المقارنة يمكن أن تتعلّم بشكل مثمر من نقد الاستشراق، لا يعني أنني أقول إن السرديات الناقدة تخلو من العيوب أو بعض القصور. إن مركزية الاستشراق تفرض عدداً من القيود على هذا المجال، بما في ذلك:
ـ خفض قيمة العلاقات الاجتماعية لصالح تحليل التمثيلات.
– الابتعاد عن المؤسسات الأبوية المحلية التي لا تستمد مغزاها من الصور الغربية.
– الخلط بين إدانة التمييز بين الجنسين في العالم الإسلامي مع فكرة الاستشراق.
والواقع أن الأدبيات النقدية، غالباً ما تستخدم مزاعم عملية تستمدها من العمل التطبيقي، بدون أن يتم التحقّق منها. والأسوأ من ذلك أنه يتم الاعتماد عليها وكأنه عقيدة مقدّسة. وينبغي على أتباع البحوث المقارنة، أن يتولوا مهمة اختبار مثل هذه الادعاءات، ومقارنتها مع البيانات المتاحة، الأمر الذي من شأنه بالتأكيد، أن يُثري النقاش النظري، ويدفعه لتجاوز الركود الذي لحق بنظرية الاستشراق.
ترجمة بتصرّف عن مقالة في مجلة «الحوليات السياسية المقارنة» لـ “روشيل ليلى تيرمان/ باحثة وأكاديمية أمريكية في قسم العلوم السياسية في جامعة شيكاغو.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.