سيلا بن حبيب- منذ عقد من الزمان، سؤال راود المنظرين النسويين الذين شاركوا في تجارب اليسار الجديد والذين بلغوا الحركة النسوية عقب اشتباك أولي مع أنواع مختلفة من النظريات الماركسية في القرن العشرين: هل كان من الممكن الإصلاح بين الماركسية والنسوية، أم أن تحالفهما كان لينتهي إلا “زواج غير سعيد”؟ اليوم، النظرية الماركسية تتراجع على مستوى العالم، والنسويات لم تعد منشغلة بإنقاذ اتحادهم غير السعيد. بدلًا عن ذلك، هناك تحالف جديد، أو اتحاد غير موفق – ذلك يعتمد على منظورك – أثبت أنه أكثر إغراء.
بالنظر إلى الأمر من داخل الثقافة الفكرية والأكاديمية للديمقراطيات الرأسمالية الغربية، الحركة النسوية وما بعد الحداثة برزا كتيارين رائدين في عصرنا. فقد اكتشفا أوجه تشابههما من خلال النضال ضد الروايات الكبرى للتنوير والحداثة الغربية. وبالتالي كثيرًا ما يتم ذكر النسوية وما بعد الحداثة كما لو كان اتحادهما أمرًا محتومًا، رغم ذلك، بعض التوصيفات لما بعد الحداثة يجب أن تجعلنا نتساءل “النسوية أو ما بعد الحداثة؟”
لو نظرنا في المسألة، فبالطبع، لا يمكننا اعتبارهما مجرد مواربات اصطلاحية. لأن كلًا من النسوية وما بعد الحداثة ليسا مجرد فئات وصفية: فهما. مصطلحان تأسيسيان وتقييميان، يساعدان على توضيح وتقييم وتحديد الممارسات ذاتها التي يحاولان وصفها.
كتصنيفات حالية، هما يصيغان طرق للتفكير في المستقبل وتقييم للماضي. دعونا نبدأ إذًا من خلال النظر إلى واحدة من التوصيفات الأشمل لـ “لحظة ما بعد الحداثة” التي قدمتها منظرة نسوية.
في كتابها الأخير، شذرات التفكير: التحليل النفسي، النسوية وما بعد الحداثة في الغرب المعاصر، جين فلاكس وصفت موقف ما بعد الحداثة بوصفه اشتراكًا في أطروحات موت الرجل، التاريخ والميتافيزيقيا.
– موت الرجل. “ما بعد الحداثة ترغب في تدمير”، كما كتبت، “كل المفاهيم الجوهرية للإنسان أو الطبيعة …. في الواقع الرجل هو قطعة أثرية اجتماعية وتاريخية، ولغوية، وليس كائنًا حدسيًا أو متجاوزًا …. ينخرط الرجل إلى الأبد في شبكة المعنى الخيالي، في سلاسل من الدلائل، حيث الموضوع مجرد موقع أخر في اللغة”.
– موت التاريخ. “فكرة أن وجود التاريخ أو أن كيانه هو أكثر من مجرد شرط آخر ومبرر لخيال الإنسان. هذه الفكرة أيضًا تدعم وتشكل أساس مفهوم التقدم، الذي هو في حد ذاته جزء مهم من قصة الرجل …. مثل هذه الفكرة عن الرجل والتاريخ تميز وتفترض قيمة الوحدة، التجانس، الكلية، الخاتمة، والهوية”.
– موت الميتافيزيقيا. وفقًا لما بعد الحداثيين، ” كانت الميتافيزيقيا الغربية تحت تأثير “ميتافيزيقيا الوجود” على الأقل منذ أفلاطون …. بالنسبة إلى ما بعد الحداثيين دعا هذا للتنقيب في رغبة معظم الفلاسفة الغربيين في السيطرة على العالم للأبد من خلال تضمينه خلال نظام وهمي ولكنه مطلق، باعتقادهم أنه يمثل أو يتوافق مع كائن أحادي وراء التاريخ، متفرد ومتغير …. وبما أن المادي هو أساس الحقيقة، فكذلك الفلسفة، باعتبارها الممثل المتميز لمادية ادعاءات الحقيقة التي تلعب دورًا “تأسيسيًا” في كل “المعرفة الإيجابية”.
هذا التوصيف الواضح والمقنع لموقف ما بعد الحداثة يمكننا من رؤية لماذا تجد النسويات هذا النقد لمُثل العقلانية الغربية والتنوير أكثر من مجرد حليف ملائم.
صيغ النسوية لهذه الأطروحات الثلاثة بشأن موت الرجل، التاريخ، والميتافيزيقيا يمكن تفصيلها.
– الطباق النسوي لموضوع ما بعد الحداثة عن “موت الرجل” يمكن تسميته “إزالة الغموض عن موضوع المنطق عند الذكر”.
في حين أن ما بعد الحداثيين وضعوا “الرجل” أو الموضوع السيادي للمنطق النظري والعملي للتراث، في وحدات متغيرة تاريخيًا، وممارسات اجتماعية لغوية، خطابية وثقافية، ادعت النسويات بأن “نوع الجنس”، والممارسات المختلفة التي تسهم في دستوره، هي واحدة من أهم السياقات الحاسمة التي تعين الحياد المزعوم وموضوع المنطق الشامل.
التقليد الفلسفي الغربي يعبر عن البنى العميقة للخبرات والوعي الذاتي ويدعي أنه ممثل للبشر على ذلك النحو. ولكن في أعمق فئاتها، طمست الفلسفة الغربية الفروق بين الجنسين، بما أن هذا يشكل ويهيكل خبرة وموضوعية الذات.
وضع المنطق الغربي نفسه كخطاب لموضوع تطابق الذات، مما تسبب بتعميتنا، ونزع الشرعية عن وجود الغيرية والاختلاف الذي ينسجم مع فئاته. من أفلاطون مرورًا بديكارت وحتى كانط وهيغل جذرت الفلسفة الغربية قصة موضوع المنطق عند الذكر.
– الطباق النسوي لـ “موت التاريخ” سيكون “جنسنة السرد التاريخي”. إذا كان موضوع التراث الفكري الغربي هو عادة الرجل الأبيض، المالك، المسيحي، رب الأسرة، إذًا فالتاريخ كما هو مسجل حتى الآن كان يروي “قصته”.
علاوة على ذلك، فقد أجبرت الفلسفات التاريخية المختلفة التي كانت مهيمنة منذ عصر التنوير، السرد التاريخي على التوحد، التجانس، والتطابق مع العواقب المتجزئة والمتباينة، وقبل كل شيء مع الوتيرة المتفاوتة للتزامنات المختلفة كما حدث من قبل، فمجموعات مختلفة قد تم طمسها.
نحتاج فقط أن نتذكر قول هيغل الساخر أن أفريقيا لا تملك تاريخًا”، وحتى وقت قريب جدًا لم يكن للنساء تاريخهن الخاص، أطروحاتهن الخاصة حول فئات مختلفة من الفترات وحول الأسس الهيكلية المختلفة.
– الطباق النسوي لـ “موت الميتافيزيقيا” سيكون “التشكك النسوي تجاه ادعاءات المنطق المتعالي”. إذا كان موضوع المنطق هو سياقٍ متعالٍ وفوق-تاريخي، ولكن الإبداعات النظرية والعملية وأنشطة هذا الموضوع تحمل في كل نموذج علامات السياق خارج ما تظهره، إذن فموضوع الفلسفة متورط بالضرورة في مصالح إدارة المعرفة التي تحدد وتوجه أنشطته.
بالنسبة للنظرية النسوية، أهم “مصلحة توجيه معرفة” بعبارات هابرماس، أو الانضباطيين، ومصفوفة الحقيقة والقوة في مصطلحات فوكو، هي العلاقات بين الجنسين والفروق الجندرية الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية والدستور الرمزي بين البشر.
وعلى الرغم من هذا “التقارب الاختياري” بين الحركة النسوية وما بعد الحداثة، إلا أن كل الأطروحات الثلاثة المذكورة أعلاه يمكن تفسيرها على أنها تسمح إن لم يكن بشكل متناقض، فعلى الأقل بشكل جذري بتشعب الاستراتيجيات النظرية. وبالنسبة للنسويات، فإن مجموعة الادعاءات النظرية التي اعتمدنها باعتبارها ملكًا لهن لا يمكن أن تكون موضوع اختلاف.
وكما رصدت تليندا ألكوف مؤخرًا، فإن النظرية النسوية تمر بأزمة هوية عميقة في الوقت الراهن. وتعتقد أن موقف ما بعد الحداثة بناءًا على استنتاجاتها ربما يقضي ليس فقط على خصوصية النظرية النسوية، ولكنه سيضع أيضًا المثل التحررية للحركات النسائية تحت المساءلة.
ترجمة سماح جعفر / موقع كوّة