السوريات في سوق العمل التركي
السوريات في سوق العمل التركي

نبراس إبراهيم/ geiroon- بعد معاناة الهجرة والحرب واللجوء، وجدت المرأة السورية نفسها أمام مواجهة واقع الحال. فبعد غياب الرجل أو الذكر الذي اعتادت الكثير من السوريات الاعتماد عليه، كمعيل ومسؤول عن الأسرة، لم يعد الرجل موجوداً في كثيرٍ من الأسر، منهم من قُتل في المعارك، ومنهم من اعتُقل، أو غُيّب أو لا يُعرف أين هو، ومنهم من بات معوّقاً ويحتاج إلى من يعيله؛ فكان لا بد للنساء من أن تقوم بإعالة الأسرة.

تفيد الدراسات التي صدرت حول فرص العمل للاجئين السوريين، ومنها الدراسة التي قامت بها وكالة (يونايتد برس إنترناشونال) الأميركية حديثًا، إلى أن نسبة النساء السوريات اللواتي دخلن سوق العمل في بلاد اللجوء أعلى بكثير من نسبة النساء العاملات في سورية قبل الحرب، حيث تُقدر النسبة بـ 13 بالمئة قبل عام 2011، وهي تُعدّ من أقلّ المعدلات في العالم، بينما وصلت الدراسة إلى أن أكثر من ربع النساء في تركيا يعملن أو يرغبن في العمل، وأكثر من النصف في دول الجوار الأخرى.

الكثيرات كنّ غير مؤهلات بمؤهل علمي يمكنهنّ من كسب لقمة العيش، فبادرن بالانضمام إلى دورات مهنية تدريبية توفّرها بعض المؤسسات المدنية لتأهيل النساء السوريات، وأتقنّ ما يساعدهنّ في أداء أعمال مهنية بسيطة. وانخرطت كثيرات في سوق العمل، وطرقن الأبواب كلّها وحقّقن نجاحات كثيرة، بالاعتماد على موارد بسيطة وتأسيس الأعمال الخاصة، كالخياطة والطبخ وما إلى ذلك.

لكن الطريق لم يكن ممهداً، فقد وقفت كثير من المعوقات في وجه النساء السوريات اللاتي سعين لدخول سوق العمل، منها ما يتعلّق بالإجراءات الرسمية للكمليك والإقامة وإذن العمل، وما يتعلّق بالاستغلال من أرباب العمل والتجاوزات التي تضطرهنّ إلى ترك العمل أو البحث عن مورد رزقٍ آخر، وكان آخرها التشديدات الأمنية على إذن السفر، ووجوب الإقامة في مدينة صدور الكمليك (هوية التعريف التركية)، فازدادت الأمور تعقيداً.

ومع ذلك نجحت بعض النساء في تأسيس عملهن الخاص، ونجحن فيه، وبتن ملهماتٍ للنجاح لغيرهن، بالرغم من قساوة الظروف.

تقول الكاتبة عبير النحاس لـ (جيرون)، وهي سيدة سورية اعتمدت على نفسها في إعالة أولادها الثلاثة بعد فقدان المعيل، وتابعت دراستها وأسست دار نشر تعمل فيها وتديرها هي وأبناؤها: “دار النشر كانت حلماً قديماً، وجدتُ أن تحقيقه في هذا الوقت الصعب سيمنحني فرصةً للصمود، عندما أنشغل بالعمل والكتابة عن التفكير السلبي في ما حصل معنا. كما أنه كان فرصة جميلة لأكون قدوةً للأولاد، فيتعلّمون الدرس ويخلقون النجاح في أصعب الظروف.. ما زلت أحاول تعلّم أشياء كثيرة بخصوص العمل، إذ ليس لدي خبرة سابقة كافية في هذا المجال”.

هناك عدد أكبر من الخريجات والأكاديميات والنساء المؤهّلات علميّاً، لم يتمكنّ من إيجاد الفرصة المناسبة لمؤهلهنّ العملي، بسبب عائق اللغة أو أسباب أخرى، وما زلن يبحثن عن الفرصة، ويعملن على تأهيل أنفسهنّ لسوق العمل التركية بتعلّم اللغة التركية، والمهارات الأخرى التي يحتاج إليها سوق العمل.

هناك جوانب إيجابية وسلبية لعمل المرأة السورية، سواء من كانت لديها المؤهلات العلمية، أم من كانت ربّة منزل، ولا تتقن إلا الحِرف اليدوية وبعض الأعمال المهنية. وقد أجرت (جيرون) استطلاعاً لرأي عددٍ من النساء السوريّات، واختلفت مواقفهن ووجهة نظرهنّ حول الموضوع، ونسرد فيما يلي ما أخبرننا به، بخصوص عمل المرأة السورية والتأثير السلبي أو الإيجابي عليهنّ، وسبب توجههنّ للعمل.

تقول الصيدلانية مي الأمير، وهي تشرف على مبادرة ملتقى النساء المؤثّرات: “إن معظم النساء السوريات دخلن سوق العمل في تركيا بسبب الحاجة والضرورة.” أما من حيث التأثّر، فترى الصيدلانية مي أنه “كان تأثيراً سلبياً، لأن معظمهنّ لا يعملن بتخصصهنّ أو بشهادتهنّ”. وتكمل: “بحسب اطلاعي ومعايشتي لوضع المرأة السورية، فإن ازدياد نسبة عمل المرأة ناتجٌ بالدرجة الأولى عن الحاجة، خاصةً في ظل الظروف المعيشية السيئة التي يعيشها معظم السوريين، أما الوعي بضرورة عمل المرأة فهو غير متحصّل، وما يدل على ذلك أنّ المرأة عندما تجد من ينفق عليها لا تفكر في العمل، وكثير من العاملات يتركن عملهنّ، عند حدوث هذا”.

أما الدكتورة رغداء زيدان فترى أن هناك نواحي إيجابية وأخرى سلبية، أما النواحي الإيجابية لعمل المرأة، فإن العمل عموماً يمنحها “الأمن الاقتصادي، الثقة بالنفس، الخبرة الاجتماعية، القدرة على الإبداع، الحضور المؤثّر، القدرة على اتخاذ القرار”. وتضيف: “أما النواحي السلبية فهي الإرهاق، والتعرّض لمشكلات العمل كالتحرّش والاستغلال، والضغط النفسي، والوقوع تحت المجهر الاجتماعي المُرَاقِب لتصرفات المرأة ولباسها وحركاتها وعلاقاتها”.

وترى دينا جاويش أن تأثير دخول المرأة للعمل هو أمرٌ إيجابي “طبعًا”، لأنه “يعطيها قدرة على رؤية نفسها بشكل مستقل، وعندها تعرف قوة الاستقلالية، على الرغم من صعوبة الموضوع، ستكون قادرة على تربية جيل قادر على أن يعتمد على نفسه”. ولكن دينا ترى أن “الطريق ما يزال طويلًا أمام المرأة السورية، وذلك لأن العمل مرتبط بالتعليم، والقدرة على التعامل مع معطيات كانت غير معروفة بالنسبة إليها”.

وتعتقد شيماء البوطي، مديرة تجمّع سنا للمرأة، أنّ دخول المرأة السورية سوق العمل أمرٌ إيجابي، وكان ذلك الدخول لسببين، الحاجة والرغبة في العمل نتيجة ازدياد وعي المرأة بحاجتها إلى دخول السوق العملية.

وتقول كوثر سعيد المختصة النفسيّة: “إن العمل هو حاجة من الحاجات الأساسية في حياة الإنسان، والمرأة هي نصف المجتمع، لذلك لا بد من أن يكون للمرأة دورٌ في العمل. وهناك أعمال مهمة جداً، ولا بد للمرأة من أن تكون ضمن دائرة العمل فيها، والمجالات واسعة وكبيرة ولا يمكن إحصاؤها (منها التعليمية، الطبية، السياسية….. إلخ)”.

وتكمل كوثر أن دور المرأة “يظهر عند الأزمات، ولكن إذا لم تجهّز نفسها خلال حياتها، فمع ظهور الأزمة وهي غير مؤهلة، ستضطر إلى دخول أعمال غير لائقة بها، مما يجعلها تعيش في سلسلة من التوترات هي في غنى عنها”، لذلك تنصح السيدة كوثر كلّ امرأة “بالاستعداد للعمل، وإن لم تكن بحاجة مادية، فالعمل إنجاز وثقة واطمئنان”.

أما رندة، وهي تعمل مع مؤسسة تُعنى بشؤون النساء، فتخبرنا رأيها الذي كوّنته من متابعة واقع عدد كبير من النساء اللواتي تتعامل معهنّ في المؤسسة، وقد وصفته بأنه “واقع مؤلم”، وتقول إن “ازدياد نسبة عمل المرأة السورية في تركيا ناتج عن الضرورة، وهناك حالات كثيرة لأمهات يترُكنَ أطفالهنّ الصغار وحدهم من الصباح للمساء لأجل إعالتهم، وأيضاً هناك كثيرٌ من النساء الكبيرات في السن، يطلبن أيّ عمل، وإن كان في الخدمة والتنظيف”.

وترى رندة أنّ “لدخول المرأة السورية سوق العمل مسارين إيجابي وسلبي؛ أما الإيجابي فهو الانخراط بالمجتمع وعدم التقوقع والكآبة المنزلية، خاصةً أن البيوت مليئة بالفقد والبعد والوحدة وأحزان الحرب وغيرها. والجانب الإيجابي الآخر هو التعرّف الحقيقي إلى حجم الضغط الاقتصادي، ومقدار المسؤولية. أما الجانب السلبي فيكمن في ترك بيتها وأولادها ساعات طويلة، مما يؤدّي إلى خلل أُسري كبير، إضافةً إلى الإرهاق والتعب أو المرض الجسدي لها كأنثى، فالسوريّات غير معتادات على الجهد الكبير في العمل. وهذا يترتب عليه أيضاً مساواتها مع الرجل في المسؤوليات المادية”.

وتضيف: “أحبّ إضافة فكرة أخرى أنه كون تركيا بلد مساواة (لا بلد عدل) فعمل المرأة التركية هنا يتساوى كثيراً مع عمل الرجل، من حيث الجهد والتعب، لكنّ الدولة توفّر للعامل التركي ظروفاً وأدوات متطوّرة، وهذا يساعد ويخفّف العناء عن العامل. بينما العامل السوري، رجلًا كان أو امرأة، يتساوى مع الأتراك فقط في مدّة العمل الطويلة والمرهقة، بينما لا الظروف ولا الأدوات متوفّرة له، مما يزيد من جهده وعناءه، وخصوصاً إذا كان العمل في مشاريع يديرها سوريون أو عرب، بالتالي المرأة هنا تبذل جهداً مضاعفاً، فهي مضطرة إلى العمل اضطراراً وليس وعياً”.

الكثير من الفتيات السوريات أكملن تعليمهنّ في تركيا، وحقّقن درجات عالية ونجاحات وتفوّق في كافة المراحل الدراسية، فكنّ متميّزات تجاوزن الظروف القاسية المحيطة. وبالطبع سيكون نجاحهنّ في التحصيل العلمي وتعلّم اللغة التركية عاملًا مهمًا لهنّ، للحصول على فرص عمل مناسبة تمكّنهن من الاعتماد على الذات.

لكن مع ذلك هناك أعدادٌ كبيرة من الفتيات اللاتي لا يجدن فرصةً للالتحاق بالتعليم، سواء داخل المخيمات أو خارجها، لأسباب عدّة منها الظروف العائلية، والزواج المبكر، أو المعوقات الأخرى. ولا يزال هناك أعداد كبيرة من النساء، والفتيات اللواتي يحتجن إلى أن يتدربن أو يخضعن لتعليم مهني، ليتمكنّ من سد حاجاتهن وحاجات أُسرهنّ اللاتي بتن مسؤولاتٍ عنها.

ويمكن القول إنّ الحرب في سورية كانت فرصةً للمرأة السورية لتُمَكّن طاقاتها، وتثبت لنفسها والآخرين أنها قادرة على فعل الكثير، كما كانت فرصةً كي تتحرّر من قيود المجتمع والرجل. ويتبادر إلى الذهن هنا السؤال: هل كان الرجل في المجتمع السوري الذكوري يحمي المرأة أم كان يعوقها ويقيّدها؟!

أيّاً كانت الحال، فلا بد من المزيد من التأهيل للنساء السوريّات على كافة الصعد، ودعمهن بكل الوسائل الممكنة، من توفير الرعاية لأطفالهنّ، إلى حمايتهنّ من التحرّش والضغوطات الأخرى، ليس لتمكينهنّ من كسب لقمة العيش بكرامة فحسب، بل كي يكون لهنّ الدور الفاعل الحقيقي الريادي والقيادي في إعادة بناء وإعداد شعب وأمة انهارت ودمّرت، وخاصةً أن عدد النساء السوريّات يتجاوز نصف عدد سكان سورية.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”. 

السوريات في سوق العمل التركي

السوريات في سوق العمل التركي

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015