ليندا بلال/ شبكة الصحفيات السوريات- فرضت الحرب السورية تواجد السلاح في أغلب البيوت، الأمر الذي انعكس سلباً على النساء والأطفال! هنا تحقيق ميداني من بلدة “معرتحرمة” بالريف الجنوبي لمحافظة إدلب يوضح تلك الأثار ويسلّط الضوء عليها.
جرى هذا التحقيق في بلدة معرتحرمة بالريف الجنوبي لمحافظة إدلب شمال غرب سوريا. بهدف رصد انعكاس انتشار السلاح الناري الفردي على مستويات العنف ضدّ النساء. خاصةً أنّ سوريا تشهد حرباً واسعة النطاق منذ نهاية العام 2011، عقب اندلاع الثورة السورية التي كانت معرتحرمة من أوائل المناطق المشاركة فيها، ما وضعها في مرمى نيران النظام السوري وحلفائه أو الفصائل الإسلامية المتطرفة.
“قولي بحبك! يا بفجّر هل القنبلة فيني وفيكي”..أيُّ حبّ هذا؟
هذا ليس مشهداً سينمائياً مُتَخيَّلاً، إنها حكاية فاطمة (30 عاماً)، فاطمة التي تزوّجت قريبها كما جرت العادة في ريف إدلب. بعد عشرة أيام حمَل عليها القنبلة مطالباً بإعلان حبّ غير مشروط. سمع الجيران أصواتهم وأنقذوا الفتاة بصعوبة.
تكرّر المشهد مرّات ومرّات، فقرّرت فاطمة التي تعمل في المجتمع المدني والصحافة، وتعيش في معرتحرمة، ألّا تموت بشبهة الخيانة. إذ لا أحد سيقتنع أنّ زوجها قتلها لأنها امتنعت عن كلمة حبّ تحت تهديد سلاحه. صاحب القنبلة لم يتوقّف بعد الطلاق، بل تابع حياة فاطمة فأحَالها جحيماً.
“هدّد بقتل أهلي إذا ما تزوّجت من غيره. هاجمنا في البيت ولولا تدخل الشرطة الحرّة، التي اعتقلته لليلةٍ واحدة فقط، لكنّا في عداد الموتى. الشرطة لا تملك السلطة الكافية لمعالجة مثل هذه القصص بشكلٍ جذري”تقول فاطمة، وتتابع: “شعرت أني سأموت يوم حمل القنبلة المفتوحة فوق رأسي. نجوت من الحياة معه بعد صراعٍ مرير. إلا أنّه منع زواجي حتى اليوم بقوّة سلاحه وتهديده لكلّ من يتقدّم للزواج مني. جازفت بالارتباط بمعرفة أهلي فقط. لكنه علم بالقصة ونصب حاجزاً على أبواب البلدة بهدف خطف الشاب الذي تقدّم لخطبتي. لم يتوقّف عند هذا الحد، لذا طلبت تدخّل الأقارب الذين تبرّؤوا من عمله”.
حال فاطمة لم يتغيّر لا بقوّة القضاء، المُقَرّب من الفصيل العسكري الذي يعمل معه طليقها، ولا بتدخّل العائلة، لذا بقيت دون زواج تحت تهديد سلاحه، فلا أخوة لفاطمة يمنعونه عنها وعن حياتها. فـ “أيّ غابةٍ نعيش فيها؟” تسأل في ختام قصتها.
حكايتها ليست الوحيدة في سوريا بعد سنواتٍ ثمانٍ من الصراع الدامي.
سوريا مصغّرة
استطلعنا آراء مائتين وسيدتين في بلدة معرتحرمة، حيث تعيش فاطمة. معتبرين البلدة نموذجاً مصغّراً عن سوريا. بلدة وصل تعداد سكانها إلى أكثر من عشرين ألف نسمة بينهم خمسة آلاف نازح\ـة، من ريف حماة الشمالي وأرياف إدلب ومناطق وبلدات سورية أخرى.
مرّ على بلدة معرتحرمة سلسلة من الفصائل العسكرية المختلفة على فترات متفاوتة. نهاية العام 2011 أسس شباب البلدة كتيبة درع الإسلام، التي انضوت تحت ألوية متعدّدة على مدار السنوات التالية، كان آخرها حركة حزم العسكرية. طرد تنظيم “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقاً)، كلّ القوى المُخَالِفة له من البلدة وسيطر عليها منذ عامين وحتى تاريخه. حالة عسكرية انعكست انتشاراً واسعاً للأسلحة الفردية، (80.7%) من المستطلَعات يوجد سلاح ناري في منازلهن.
جاءت نتائج العينة العشوائية التي استُطلِعَت متوافقة بشأن العنف والموقف منه. (27.2%) منهن كحال فاطمة امتلكن الشجاعة للإقرار بتعرّضهن لعنف جسدي من رجال مقَرَّبين. وأقرّت (70.3%) منهن بتعرّض قريباتهنّ لعنف جسدي من رجال مقَرَّبين.
لاحظنا امتناع المتزوجات عن الاعتراف بوقوع العنف عليهن في حين يذكرنَ تعنيف قريباتهنّ.
لعبت الحالة الاجتماعية للمُستَطلَعات دوراً مفصلياً في تحديد إجابتهن، وهو ما ظهر جلياً في الجواب على السؤال العام عن العنف ضدّ النساء، حيث أجمعت (71.8%) من المُستَطلَعات على وقوع العنف ضدّهن في البلدة.
أفكّر بالانتحار!
إن كان لفاطمة بعض أهلٍ يرعونها ويساندونها في طلاقها، فإنّ أم محمد (ربّة منزل/ 60 عاماً) النازحة من حماه إلى معرتحرمة، لا تملك نفس الأمر لأنها بعيدة عن أهلها، إذ تقول: “عندما سحب السلاح عليّ غطّتني ابنتي بجسدها، لو أطلق النار علينا لقتلنا. تبكي على حالي دوماً لكونها طفلتي الوحيدة. تحلم أن تذهب إلى المدرسة وتكون مثل قريناتها من البنات إلّا أنّ ضيق ذات اليد يمنعها”.
هذا مختصر العلاقة بين أم محمد وزوجها الذي خرج من معتقلات النظام السوري بحالة نفسية مشتّتة. فبات سلاح ولده “محمد” أداة تهديده الأعنف والأشد في نوبات غضبه، التي يعتذر عنها لاحقاً.
“اختلفنا البارحة فضربني، ثم تهجّم عليّ بسلاح ولدي، ولولا تدخّل الجيران لقتلني. ربما يفعلها ذات مرة، فقد أطلق النار على الأولاد سابقاً، الحمد لله، لم يصب أحدٌ بأذى. يضربني منذ خمس سنوات ويهدّدني بالسلاح دوماً. يعتبرني سبب اعتقاله، فبعد خروجه من السجن لم يعد كما كان، خسر عمله ومصدر رزقه وقدرته على إدارة البيت فبات عنيفاً جداً” هذا ما تقوله أم محمد التي يتواجد السلاح في بيتها باعتباره وسيلة للحياة. يعمل ابنها مع إحدى الفصائل العسكرية مقابل مرتب شهري بالكاد يكفي أهله حاجة السؤال. حاله كحال الكثيرين من الشبّان، والمفارقة أنّ (74.3%) من المستَطلَعات يفضلن تعليم أولادهن على السلاح، السلاح الذي بات وسيلةً لتعنيفهنّ وبذات الوقت سبيلاً لحياتهن.
تفكّر أم محمد بالانتحار، فهي تعاني عنف زوجها منذ سنواتٍ طِوال، إلا أنّ عنفه بات أخطر بحضور السلاح.
أم محمد كغيرها من النساء “منسجمة مع التخبّط والشعور بالعجز الذي تعكسه أجوبة المستَطلَعات اللواتي اعتبرنَ السلاح أداةً للدفاع عن الذّات. لكنها مثل قريناتها ترى أنّ السلاح المتواجد بكثرة بين أيدي الأهالي هو استمرار لحالة عدم الأمان بحد ذاتها” ربما تختصر هذه الجملة، التي قالها الطبيب النفسي السوري، بسام عويل (55 عام) والمقيم في بولونيا، في تحليل بيانات الاستطلاع، واقع المرأة في سوريا اليوم، ويتابع “في الحروب عموماً يسوء وضع الإناث والأطفال أكثر لكونهم الحلقة الأضعف بالمقارنة مع واقع الذكور، وعادةً ما يتم استغلالهن كوقود للحرب”.
يكمل الطبيب النفسي تحليله قائلاً: “أتت الأجوبة بأكثريةٍ ساحقة ما بين الهروب أو طلب المساعدة ردّاً على السؤال المُتَعلّق بما يمكن فعله في حال تعرّضهنّ لهجوم عسكري. هي إجابات تتناقض مع مثيلتها عن السؤال حول الأمان الذي يُمكِن للسلاح في البيت أن يضمنه، والتي بيّنت بأن (74.3%) من المستَطلَعات يعتقدن بأنّ السلاح في البيت مصدرٌ للأمان”.
أمانٌ استحال شكلاً جديداً من العنف ضدّ بعض النساء وخطأً قاتلاً ضدّ بعضهِنَ الآخر. خطأٌ عطّل حياة لمار (٢٢ سنة، معرتحرمة، طالبة جامعية) لسنوات وأورثَها عجزاً دائماً.
“أصابني ابن عمي برصاصتين. هشمت الأولى يدي والثانية أضرّت بأعصاب قدمي كما مزّقت القولون المستعرض وحطمت حوضي” تروي لمار حكايتها بهذه الكلمات البسيطة.
أصاب لمار بعض حظّ فنجت من الموت، إلّا أنّ أم عبدو قضت برصاصة ابنتها!
“ذهبت أم عبدو لتساعد زوجات أولادي بالخَبز على التنور، في باحة البيت. سمعت صوت رصاص قريب. خرجت من الغرفة، فإذا بزوجتي ممددة غارقة بدمها على الأرض. ضممتها وحملتها إلى المستشفى إلا أنها كانت تنازع الروح. ماتت على الفور. ابنتي، ذات الاثنتي عشرة عاماً، رافقتني وهي تصرخ مكرّرةً: “أنا التي أطلقت النار“. عندها عرفت أنها لعبت بالبندقية التي تركها أحد الجيران في بيتنا فقتلت أمها خطأً“ هكذا يروي أبو عبدو (ستيني، يعمل في الزارعة) مُصابه في زوجته بيد ابنته التي تزوّجت لاحقا وتركت البلدة.
رفض الأب أن نسأل ابنته عن الحادثة، فلا أحد يعلم حجم الألم النفسي والعذاب الذي عاشته بعدها. قُتلت أم عبدو نهاية العام 2012. خسرت حياتها خلال دقائق قصيرة.
“بعد الحادثة منعت أيّ شكل من أشكال السلاح في البيت. عشت معها أربعين عاماً وفجأةً فقدتها“ بالطبع لم يشتكي أبو عبدو لأي جهة رسمية، كحال الكثيرين ممن تعرّضوا لحوادث مشابهة.
محاكم ولكن!
“خلال عملي لم تسجّل لدينا أي شكوى لحالات إطلاق نار على نساء دون قصد. سجّلنا بعض الحالات المقصود فيها القتل، ولكن حالات إطلاق النار غير المقصودة لم نسجّل أي منها رغم كثرتها في مناطقنا“ الكلام لـ محمد (40 عاماً)، أحد العاملين السابقين في المحكمة الشرعيّة بريف إدلب الجنوبي.
المحاكم الشرعية باتت البديل للمحاكم المدنيّة والجزائيّة المختصّة في مثل هذه القضايا. أصبحت تلك المحاكم الشرعيّة الجهة القضائيّة الوحيدة العاملة في المنطقة.
ما الحل إذاً، في ظلّ حربٍ لم تنتهي بعد؟
صراعٌ تُشارك فيه قوات مختلفة الجنسيات والعقائد والميول والأهداف والغايات، حربٌ لا قانون يحكمها، أنتجت واقعاً سوريّاً شديد التعقيد، تختصره قرية معرتحرمة؛ بلدة غارقة بالسلاح والخوف من المستقبل. وصل البلدة مئات النازحين وفرّ منها المئات، بهذا وذاك تشبه أرياف حمص وحماة وإدلب وحلب ودمشق وغيرها من المناطق والبلدات. لذا رفضت (76.7%) من نساء معرتحرمة سحب السلاح من المدينة خوفاً من هجوم قوات النظام السوري أو إحدى الفصائل المتطرّفة.
يبقى السلاح مصدراً للأمان برأي المستَطلَعات، ويُسقِطن الرابط بينه وبين العنف عليهنّ. إلا أنّ البندقية باتت وسيلة جديدة للتعبير عن العنف الذكوري، عنفٌ يعتبره الدكتور عويل ثقافة سائدة في تلك المجتمعات التي تعاني من “تنافس عقائدي مسلّح تعيش أجوائه النساء المُشارِكات بالاستطلاع كغيرهِنّ من النساء في المناطق السورية الأخرى”، وهذا “يلغي العلاقة بين سحب السلاح الفردي من المدينة وانخفاض العنف الموجّه ضدّ النساء” برأي الدكتور عويل.
إذاً لا يمكن مقارنة مستويات العنف ضدّ النساء في سوريا اليوم، بما كانت عليه قبل الحرب، لعدم وجود أي إحصائيات سابقة في هذا الشأن.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.