ماجد عبد الهادي/ العربي الجديد- هذه مقالة متأخرة عن موعدها سنواتٍ أو شهوراً. كان يجب أن أكتبها منذ سنةٍ ونيف، على أقرب تقدير، حين تعرّضت الفتاة الفلسطينية عهد التميمي لحملات شعواء، وإساءاتٍ بالغة، على صفحات بعض الصحف ومواقع الإنترنت، سعياً إلى الانتقاص من قيمة إعجابٍ شعبيٍّ، وشهرة عالمية، حظيت بهما، بعد انتشار فيديو يوثّق إقدامها على صفع جندي إسرائيلي، وهو يهم، مع مجموعةٍ من زملائه، باقتحام منزل ذويها، في قرية النبي صالح قرب مدينة رام الله، لاعتقال شبان من أقاربها وجيرانها.
لم يستطع المشكّكون في المشهد الثوري الآسر أن يروا، آنذاك، غير شعرٍ أشقر ومفاتن أنثوية، لشابةٍ صغيرة، بالكاد بلغت السادسة عشرة من عمرها، فرفعوا عقائرهم بالصراخ، محاولين إقامة الحد معنوياً على الأيقونة الجديدة، أو قل وأدها، وفق منطقٍ يقوم على التساؤل عن سبب تسليط الأضواء الإعلامية عليها، بالمقارنة مع إهمال مناضلاتٍ فلسطينيات، قدّمن تضحيات أكبر، أو حتى استشهدن برصاص الاحتلال الإسرائيلي، في ميادين المقاومة.
وإذ حال ظرفٌ قاهر، في ذلك الوقت، دون أن أحقق رغبتي في كتابة رد هادئ على صخب هؤلاء، فإنهم أو من هم في مقامهم، ويفكّرون بطريقتهم، عادوا إلى طرح ما يستدعي النقاش، بترديدهم كلاماً مماثلاً تقريباً عن الشابة السودانية، آلاء صلاح (كنداكة)، بعد انتشار فيديو يوثق قيادتها مظاهرةً ضد نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، تغنّي فيها بعض تراث بلادها، بينما يهتف المتظاهرون وراءها بكلمة ثورة.
وكما في حالهم مع الأيقونة الفلسطينية، عجز منتقدو الأيقونة السودانية، وقد تصدّرت صورتُها اهتمام العالم، عن أن يلحظوا شيئاً آخر في ما فعلت، سوى أنها كانت متأنقةً بردائها الأبيض، وتتزيّن بأقراطٍ ذهبية، وتتمايل راقصةً على لحن الأغنية التي تؤدّيها، فصرخوا مرة أخرى، متسائلين عن تجاهل الإعلام نساءً رصيناتٍ، وذوات باع أطول، وتضحياتٍ أكبر، من كثيراتٍ ما فتئن يقاومن الاحتلال في أكناف بيت المقدس، أو يواجهن الاستبداد في ميادين الربيع العربي.
هل المشكلة التي استفزّت حفيظة هؤلاء تكمن في ما أثاره شعر عهد، وتمايل آلاء، من غرائز مستعصيةٍ على التهذيب، أم في أحقية مناضلاتٍ سواهن بالاهتمام الشعبي والإعلامي الذي حظيتا به؟ تتساءل، فلا تملك ابتداءً غير الدهشة ممن تتغلب مفاتن المرأة، في نظرهم، على فعلها الإنساني، فينشغلون بسفور الطفلة الفلسطينية، وقوام جسدها، عن حقيقة أنها أول عربية (عربي) تصفع جندياً إسرائيلياً على وجهه في تاريخ الصراع بين الجانبين، مثلما ينشغلون بأقراط الشابة السودانية، وصوتها الأنثوي، عن قدرتها المدهشة على استخدام تراث جدّاتها وسيلة كفاحٍ لتحريض الجماهير على الثورة.
أما الأهم، ربما، في نقد مثل هذه الصخب، فيتجاوز الحديث عما يمكن وصفه بالعقد الجنسية التي تُعمي بصر أصحابها وبصيرتهم، إلى التنويه بما قد يكون، في أحسن أحواله، نوعاً من السذاجة التي يعتقد أصحابها أن الأجدر بالشهرة، في مسيرات الشعوب نحو الحرية، هو الأكثر تفانياً كفاحياً من سواه، وإلا فإن نظرية المؤامرة، وشبهات التخوين، في رأي هؤلاء، هي التفسيرات الجاهزة، ردّاً على سطوع نجم شابة مثل عهد التميمي أو آلاء صلاح.
لا أيها السادة. ليس صاحب التضحية الأكبر، بكل ما يستحق من إجلال، هو الذي يصير أيقونةً في كفاح أمته ضد الاستعمار أو الاستبداد، بل صاحب التأثير الأقوى، والتأثير الأقوى يشترط التضحية، أو الاستعداد لها، دونما شك، غير أنه لا يتحقّق إلا بتضافر عوامل أخرى، منها ابتداع أشكالٍ كفاحية جديدة، وانتهاز لحظةٍ موضوعيةٍ مواتيةٍ، فضلاً عن توفر مواصفات شخصية متميزة.
ألم يأتكم نبأ روزا باركس التي خلدها التاريخ الأميركي أيقونة كفاح ضد العنصرية، لمجرد أنها رفضت إخلاء مقعدها في الحافلة لراكبٍ أبيض، بينما لم يحظ بما حظيت به من أضواء آلاف المناضلين الذين ضحوا بأنفسهم، وتعرّضوا للاضطهاد والتعذيب، على طريق الكفاح الطويل من أجل المساواة والحقوق المدنية؟
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.