معهد ليفانت للدراسات- لاتبدو مشاركة المرأة في الحياة الاقتصاديّة في ظل الأزمة السورية سهلة ميسرة، لكنّها ليست معدومة أو ضعيفة أيضاً، فقد أظهرت السنين الخمس الماضية قدرات النساء السوريّات وارتباطها بحاجات المجتمع المتجدّدة، كما بيّنت أدوراً جديدة للمرأة على الصعيد المهني.
اضطرّت بعض النساء وبعد فقدان معيل العائلة (الرّجل) إلى العمل، الأمر الغير مألوف لدى بعض العائلات السوريّة قبل اشتداد الأزمة ، إلّا أنّ تردّي الوضع المادي للعائلة، جعل من باقي أفراد الأسرة يوافقون على مضض على خروج بناتهم وأخواتهم للبحث عن عمل يساعد في تأمين حاجيات الحياة المتزايدة والمتسارعة في ظل غلاء الأسعار , حالهم حال بقيّة الأسر التي لم تفقد معيلها، إلّا أنّ انخفاض قيمة الليرة السوريّة، كان بمثابة أمر واقع فُرض عليهم، دفع بالمرأة إلى البحث عن عمل ، يسمح للعائلة بزيادة الدخل الذي فقد قوته الشرائية بشكل ملحوظ..
حسب مؤشرات البنك الدولي فإن معدّل توظيف الإناث بين عمر ال15 عاماً وحتى ال 24 عاماً انخفض بشكل ملحوظ مع بداية الأحداث الجارية في سورية حيث وصل في عام 2014 إلى 3 % فقط، وقد يعزا هذا الانخفاض إلى انخفاض معدلات التوظيف ، بسبب تردّي وضع الشركات والمؤسسات والمعامل وإغلاق العديد منها.
لكن وكما واقع الحال في السنوات الأخيرة من الحرب، نجد أنّ بعض الشركات والمؤسسات يفضلن توظيف النساء على الرّجال، بسبب “الخدمة الإلزامية” المفروضة على الذكور ، وما يترتب على ذلك من السفر أو الالتحاق بالجيش، ما يترك شواغر وظيفيّة كثيرة، فيلجأ صاحب العمل إلى توظيف شابات تفضيلاً منه للاستقرار , وفي ذات السياق نجد أنّ الشركات الخاصة تعمد إلى إعطاء راتب أقل للفتيات في بعض الأحيان، مستغلّة الحاجة التي تدفع المرأة للعمل، وقلّة الوعي بمستوى الرّاتب الشهري الّذي يمكنها الحصول عليه.
ساعد الانفتاح على الدول الغربيّة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، على زيادة وعي المرأة بأنّ حصولها على عمل وعلى استقلال مادي هو أمر ضروري يضمن لها الاستقلال في اتخاذ القرارات، معطياً لها دوراً هاماً داخل وخارج أسرتها، فبالرغم من قساوة التجربة السوريّة، أثمرت بشكل جيّد لدى معظم النساء.
ومن المهن التي زاد انتشارها بقوة بين الفتيات والنساء هي المهن التي تعتمد على العمل من المنزل، في محاولة للتوفيق بين المسؤوليات داخل المنزل والأعباء خارجه، فتكون هذه المهن بلا دوام معيّن، بعضها يدوي كالخياطة وحياكة الصوف وصناعة الحلي التقليديّة والطبخ المنزلي وغيرها، وبعضها الآخر يعتمد على بيع بعض أنواع البضائع الخفيفة، فتوفّر هذه المهن دخلاً مقبولاً للنساء، وحتى الطالبات الجامعيات , ويأتي دور مواقع التواصل الاجتماعي مجدّداً، حيث يتمّ عبر صفحات “الفيسبوك” مثلاً الترويج للبضائع والمنتوجات اليدوية وبشكل يصل إلى شريحة واسعة من المستهلكين، بالإضافة إلى “البازارات” الّتي يتمّ افتتاحها شهرياً، والتي توفّر فرصة جيّدة للمرأة لعرض منتجاتها أمام عدد كبير من الزوّار.
في قطاع التعليم، أظهرت نتائج مسابقة انتقاء معلمي صف من طلاب كلية التربية تفوّقاً نسائياً ملحوظاً، وتوجه لافت لدخولهنّ مجال التدريس، حيث كان نصيب العاصمة دمشق من خريجات كلية التربية – معلّم صف 89 % ، بينما كان نصيب محافظة حمص مثلاً 85 % من المعلّمات.
والأمر غير المألوف هو بداية انتشار مهن كانت حكراً على الرجال سابقاً بين النساء حالياً، سواء كان هذا الانتشار سببه مبادرة المرأة نفسها، أم خطوة جديدة تنهض بها الحكومة السوريّة، ومن بعض المشاهدات التي رصدها المارّة، انتشرت في الآونة الأخيرة بائعات جوالات في مناطق دمشق القديمة، يبعن المأكولات الخفيفة، وهنّ يجررن عربات متحرّكة، تعدّ هذه الظاهرة فريدة من نوعها في شوارع العاصمة , وفي خطوة جديدة طالبت بعض النساء من خريجات “رياض الأطفال” بالحصول على رخص لقيادة سيارات النقل العامّة ليتمكنّ من توصيل الأطفال وبشكل قانوني، وقد رحّبت وزارة النقل بهذه الخطوة على لسان معاون الوزير ” نساء سورية يفعلنها ويبدعن في أعمال ومهن كانت حكراً على الرجال”.
أمّا النساء الأفضل حالاً مادياً، فامتلكن في السنوات الأخيرة من الحرب الجرأة والرغبة على افتتاح أعمالهن الخاصّة، راغبين بأن يحذوا حذو المرأة الغربيّة، وعلى اختلاف أنواع هذه الأعمال، إلا أنّها تميّزت بشغف كبير ورغبة من المرأة بإيصال فكرتها ومشروعها الربحي إلى مستوى يرقى للتميّز والنوعيّة العالية، حيث نجد أنّ انتشار ورشات العمل والدورات التدريبية الخاصة بإدارة المشاريع وتعلّم مهارات سوق العمل ومفاهيم إدارة الأعمال بشكل عام يساعد هؤلاء النساء على اكتساب الخبرة ويشجعهنّ على القيام بمشاريعهنّ الخاصّة.
في حين تركّز الكثير من مبادرات تقديم القروض والدعم المادّي لفئة النساء، معطيةً لهنّ الفرصة للحصول على عمل يعيلهن ، فالشركة السوريّة للحرف تعتمد في غالب مشاريعها على نساء سوريّات يقمن بصناعة المنتجات اليدويّة التراثيّة، متكفّلة بإيصالهم لنقاط بيع مختلفة.
كما انطلق برنامج تمكين المرأة والحد من الفقر بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منذ عام ال 2007 واستمرّ خلال الأزمة حيث تبلغ ميزانية مشروع تمكين المرأة والحد من الفقر 700 مليون ليرة بتمويل حكومي تنفذه وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي ، وتستهدف من خلاله النساء الريفيات في القرى الفقيرة ، ووصل عدد المستفيدات إلى 9828 , و القرض نقدي ما بين 75 إلى150 الف ليرة سورية، بدأ المشروع في 2007 وانتهى في 2013 .
لا يختلف الحال كثيراً بالنسبة لطالبات اللجوء في الأردن، فقد بينت دراسة أجريت في إربد أن اللاجئات السوريات يقبلن بوظائف لا تشتمل على بعض المزايا المقدمة للعمال مثل التأمين الصحي والضمان الاجتماعي والإجازات، ما يعود بالفائدة على صاحب العمل، فتزيد فرص عملهنّ أمام فرص عمل النساء الأردنيات. كما كشف تقرير صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنّ أكثر من 145,000 عائلة سورية لاجئة في مصر، ولبنان، والعراق والأردن، ترأسها نساء يخضن بمفردهن كفاحاً من أجل البقاء على قيد الحياة، بسبب فقد أزواجهن في القتل أو الأسر وما إلى هنالك.
لكن وحسب دراسة أجريت عام 2014 تعاني الدنمارك من قلة اندماج اللاجئات السوريّات المقيمات وابتعادهن بنسبة كبيرة عن سوق العمل، ولا يتم الأمر إلا عبر إجبار بعضهن، بعد أن تتوقف عملية الإعانة الاجتماعية ليصبحن مضطرات للخروج للعمل، فيما تخفض الإعانات الاجتماعية، كلما رفضن عرضاً.
وفي المناطق التي يسيطر فيها “تنظيم الدّولة الإسلاميّة”، تواجه المرأة وضعاً عصيباً يجعلها في موقع لا يسمح لها بممارسة حياتها بشكل طبيعي، أو بالحصول على أبسط حقوقها لا سيما حق العمل , فقد أفاد ما نشرته صحيفة “الإندبندنت” البريطانيّة عن الجناح الإعلامي لـ”كتائب الخنساء” الذي يتألف فقط من النساء عبر المنتديات الجهادية الرائجة; أنّه بإمكان النساء، في بعض الحالات، مغادرة المنزل العائلي للعمل طبيبات أو معلمات أو المشاركة في الجهاد “بموجب تكليف” إذا لم يكن هناك عدد كافٍ من الرجال لمواجهة هجوم العدو. لكن أي عمل من هذا القبيل تقوم به المرأة يجب ألا تتعدى مدته الثلاثة أيام في الأسبوع و”يجب أن يكون مناسباً لها ولقدراتها، وألا يتطلب أموراً تفوق قدرتها على التحمل، أو يصعب عليها إنجازها“.
لاشك أنّ مشاركة المرأة في الحياة الاقتصاديّة ما زالت بحاجة إلى دعم وتشجيع من كافة الجهات المعنية الحكومية والخاصّة، لكن واقع الحال يفرض على المرأة السوريّة وأسرتها السعي نحو الحصول على أحد أهم حقوقها في الحصول على عمل، ولعلّ هذا الوضع سيفتح آفاق جديدة للنساء للخروج من دائرة الضغط الاجتماعي حولهن في مشاركتهن في الحياة الاقتصاديّة.