منى العتيبي/ جريدة (عكاظ) السعودية- مؤمنةٌ بدور المرأة السياسي وحضورها القوي في كلّ مشهدٍ حتى وإن توارى خلف الصورة، فقد مرّت بي المرأة مراراً خلال مشوار قراءاتي التاريخية، منها ما حضر في رموز كتاب كليلة ودمنة، فقد رأيت إرادة ابن المقفّع عن قصدٍ إظهار دور المرأة في السياسة في كتابه كليلة ودمنة وربما عن غير قصد، ولكن بالنتيجة ظهر لنا هذا الدور الذي تقوم به المرأة في مساعدة السلطان على السياسة وحسن تدبيرها وتبصير السلطان بأشياء قد تخفى عليه، أو تغمض في ذهنه، وهذا أمر تنبّه إليه ابن المقفع بذكائه قبل غيره من الأدباء والفلاسفة.
فقد مثّل المرأة بدورها السياسي من خلال شخصية (أمّ الأسد) التي وقفت مع ابنها لتكشف حقيقة اللعبة التي قام بها دمنة، والتي انتهت بمقتل شتربة، ليظهر من خلال ذلك موقف أمّ الأسد ألا وهو ذكاء المرأة وحسن تدبيرها في مواقفها بأوقات المحنة بما لا يقوم به عظماء الرجال.
وأيضاً في المشهد عندما أنّب دمنة أحد الجنود وأخرجه من المجلس حزيناً، قالت له أمّ الأسد: (لقد عجبت منك، أيها المحتال، في قلة حيائك، وكثرة وقاحتك، وسرعة جوابك لمن كلّمك). وبعد أن استرسل بكلامه الفاجر قالت له: (أتظنّ أيها الغادر المحتال بقولك هذا أنك تخدع الملك، ولا يسجنك؟).. وفي اليوم التالي للجلسة الأولى جاءت أمّ الأسد لإبنها تذكّره بوعده بمحاكمة دمنة وتبيّن أمره وقالت له: (أتظنّ أيها الغادر المحتال بقولك هذا أنك تخدع الملك، ولا يسجنك؟ وقد قالت العلماء: لا ينبغي للإنسان أن يتوانى في الجدّ للتقوى؛ بل لا ينبغي أن يُدافع عن ذنب الأثيم).
وهنا وقفتُ عند سؤالٍ بالإجابة عليه تعزيزاً لدور المرأة التاريخي في السياسة، والسؤال هو: لماذا جاء النمر إلى أمّ الأسد ليخبرها بما سمعه من الحوار الذي دار بين كليلة ودمنة، ولم ينقله إلى الأسد مباشرة؟ أعتقد أنّ ابن المقفّع أو بيدبا قد جاءا بذلك قصداً ليُظهرا أنّ للمرأة دوراً في توجيه دفّة السياسة بشكلٍ عام، هذا أولاً، وثانياً ليبين لنا أنّ النساء من خواص الملك كزوجته أو أمّه قد تكون كلمتها مسموعةً أكثر من مستشاري الملك.
وقد قيل: (إنّ وراء كلّ عظيمٍ؛ امرأة!) فكم شهد التاريخ للنساء أدواراً عظيمة سُجّلَت في صفحات التاريخ وهي كثيرة، منها دور أمّ سلمة رضي الله عنها مع الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، عندما أمر الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالتحلّل للعودة إلى المدينة، فتباطأوا، فأحزن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها وشكا إليها أمر الصحابة، فأشارت عليه بالتحلّل أمامهم، فيتحلّلوا مثله، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ففعلوا مثله.
كما لا تفوتني قصّة «الحمامة المُطَوّقة» التي أظهرت العنصر النسائي بذكائه وحسن تدبيره وكيف يستطيع في الأوقات العصيبة أن يخلّص المجتمع بأكمله من كارثةٍ قد تحلّ به. فهذه الحمامة المُطَوّقة عندما وقعت هي وصاحباتها في القفص، كيف تفتّق ذهنها عن خطّةٍ للخلاص من هذا المأزق وهو أن يتعاونّ جميعاً فيطرن بالقفص بعيداً، وفعلاً، طرن به وابتعدن عن أعين الصياد، ثم لم تكتف بذلك بل أمرت صاحباتها بالذهاب إلى العمران حتى لا يستطيع الصياد متابعتهن، وفعلاً كان رأيها مصيباً وأفلتن من رقابة الصياد، ثم استنجادها بالجرذ لقرض حبائل القفص، واستجاب لها الجرذ. وفي الحكاية دلالةٌ على فطنة الحمامة، وهي أنّ الجرذ بدأ قرض عقدتها هي، فأمرته بأن يبدأ بقطع عقد بقية الحمام وألحّت عليه القول، وعندما سألها عن سبب إلحاحها بذلك، قالت له إنها تخشى إن قرض عقدتها أولاً فقد يصيبه الفتور ويترك باقي الحمام في عقده ويأتي الصياد، “أما إذا بدأت بعقد الحمام لم تزل تجهد نفسك لتفكّ عقدي، لأنك لا ترضى بأن تتركني ولو أصابك الفتور”، وهذا هو إيثار المرأة، تؤثر نجاة المجتمع على نجاة نفسها، إنها تضحية القائدة المرأة، والمغامرة بنفسها في سبيل الآخرين.
ولا يغيب عن أذهاننا كيف أنّ شهرزاد أنقذت بنات جنسها من القتل على يد شهريار في قصة (ألف ليلة وليلة).