التغيير الكبيرالذي طرأ على النمط المعتاد للأعمال والمهن التي كانت تمارسها النساء السوريات قبل الأزمة شكّل الصدع الأكبر في العلاقات الاجتماعية والأسرية في المجتمع السوري، ليخلّف أسراً مفككة غير مترابطة.
وضحى العثمان/ مرآة سوريا- رَمَت الحرب بأثقالها على كافة جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع السوري، وتسببت بهزات ارتدادية إلا أن الأثر الأكبر يأتي من التغيير الكبيرالذي طرأ على النمط المعتاد للأعمال والمهن التي كانت تمارسها النساء السوريات قبل الأزمة.
فشكّل هذا التغيير الصدع الأكبر في العلاقات الاجتماعية والأسرية في المجتمع السوري، ليخلّف أسراً مفككة غير مترابطة بسبب التناقض الذي يعيشه الرجل السوري مع المهنة التي تُزاولها زوجته أو أخته بعد أن كان من المُستهجن أن تجد عملا، وخاصة في المناطق الريفية كأن تعمل الفتيات في المقاهي والمطاعم أو في البقاليات.
مهن يعتبر المجتمع مزاولتها من قبل المرأة “عيبًا”
“خالد” شاب من ريف حماة فقد ساقه في إحدى المعارك مما أجبر زوجته على العمل لإعالة أسرتها. يقول خالد:”لا أستطيع تقبّل عمل زوجتي في تقديم الطعام للزبائن، ولكنها لم تجد سوى هذا العمل، أنا دائمُ الغضب، أفكر بما تتعرض له زوجتي في العمل، لم أكن أتصورُ في يوم من الأيام أن تختلط زوجتي بمن هبّ ودبّ”.
و يكمل:”(شو جبرك على المر غير الأمر منه ) أشعر بانتقاص في رجولتي، وأخجل من نفسي وهذا ينعكس على علاقتي بزوجتي وأطفالي مع أنّه ليس لها ذنب في ذلك، وبتُّ أشعر أنها تكرهني وتتمنى لو لم أكن موجوداً في حياتها؛ مع أنها تحاول أن تثبت لي العكس، ففي مجتمعنا من المعيب أن تعمل النساء في مثل هذه المهن”.
أما “أبو عمر القاضي” المتقاعد الذي لم يجد فرصة عمل فأجبر على قبول عمل ابنته في محل لبيع الأدوات المنزلية حتى تؤمن مصروفهم . يقول أبو عمر: بت أتحاشى أن ألتقي بأحد من معارفي حتى لا أُسأل كيف قبلتُ أن تعمل ابنتي في محل كهذا، وأحاول أن أنام قبل أن تأتي حتى لا أشعر بضعفي أمامها وأنها تتحمل كل مصاعب ومشاكل عمل من هذا النوع، أنا أثق بأخلاق ابنتي وبتربيتي، ولكنها تجبر في مثل هذا العمل أن تجامل الزبائن وتتعرض لمواقف لا يمكن أن أتحملها كأب كان يحرص على عدم اختلاط أبنائه في بيئات لا تناسبهن، ولكن جاءت هذه الظروف القاسية لتجبرني على قبول هكذا وضع.
لا يمرّ يوم دون مشاكل وأغلبها ليس لها سبب سوى أني لا أستطيع تقبل هذا العمل لابنتي ولكن ليس باليد حيلة.
لم يكن خيارنا تلك المهن ولكن لم نجد سواها
أما سحر فتتكلم عن عملها بطريقة مختلفة، لقد أجْبِرتُ على التخلي عن حلمي في إكمال تعليمي ولا أتقن أي مهنة، وعندما حاولت أن أبحث عن عمل لأساعد أسرتي بعد محاولات أبي الفاشلة في إيجاد فرصة عمل، وكانت الفرصة الوحيدة التي وجدتها هي كمشرفة نظافة في واحد من المقاهي العامة.
أتعرض للكثير من المضايقات، ولكن ليس أمامي خيار آخر وعندما أعود إلى البيت يشعرني أبي وكأنني قد ارتكبت معصية أو ذنب، وتغيّرت معاملته معي ولم يعد كما كان في السابق.
أنا أقدّر ما يفكر به أبي ولكن كان الموقف الأقسى عندما تأخرت في العمل؛ وقام صاحب المقهى بإيصالي مع أنه رجل مسن، ولكن أبي لم يتقبل الموقف. بدأ الصراخ وتأنيبي أنه يجب علي عدم المجيء مع أي شخص غريب وبعدها انفجر بالبكاء وهو يقول: ليتني متّ قبل أن أتقبل وضعاً كهذا.
تيماء خريجة اقتصاد تُجبر على العمل هي وزوجها لتأمين متطلبات الحياة، تتحدث واليأس يخفي تفاصيل وجهها الجميل:
واقع فرضته ظروف الحرب على السوريين لم يختَر فيه الرجال ولا النساء ما حلّ بهم وفرص العمل المتاحة أغلبها لا تتناسب معنا ولا مع تركيبة المجتمع السوري وخاصة في المناطق الريفية، هذا الواقع أدّى لتباعد وتشتت أفراد الأسرة .
أعمل أنا وزوجي في نفس المكان؛ وهو متجر لبيع الملابس، ولكن زوجي في كلّ يومٍ يسألني آلاف الأسئلة (هل تحدث معك مالك العمل، هل بقي لوقت طويل بعد ذهابي ) والقهر يملأُ صوته وهو يقول: لا أستطيع أن أتصوّر أن أتركك مع رجل غريب ولكن ماذا أفعل فراتبي لا يكفى سوى آجار المنزل.
وعندما أحاول أن أخفف عنه وأني لست منزعجة من عملي يقول لي: يبدو أنك مرتاحة بهذا الواقع، وكأنه يلمح لشيء ما في كلماته، وكأنه يقول لي: أنت مرتاحة في العمل مع هذا الرجل الغريب.
وتنتهي جلستنا بخلاف لنستيقظ على نفس الواقع الذي كان بالأمس.
عندما أرتدي ملابسي بشكل طبيعي يقول لي: أصبحت تهتمين بنفسك أكثر، عداك عن الغضب بسبب وبدون سبب أصبحت حياتنا كالجحيم.
تقول ابنتي: أصبحت أكره أن أعود من المدرسة، وأن أجدكم أنت وأبي معاً.
ستنتهي الأزمة السورية بعد مدة غير معروفة ولكن الأزمات النفسية التي تخلفها داخل الأسرة السورية ستكون أكثر كارثية من واقع الحرب الذي نعيشه، إنها مهن لم تختارها السوريات ولكن أجبرن عليها ويتحملن نتائجها كل يوم، وكأنهن من اختَرنَ ذلك.