كارمن جحا/ arab-reform- لا بد لي من الاعتراف بأنني حينما جلست لأكتب هذا المقال، فإن كل ما كان بوسعي سماعه هو أصوات النساء الأخريات اللاتي أخبرنني أن الوقت قد حان لوقف الحديث عن دور المرأة في السياسة اللبنانية. لقد تحدثنا عن هذا الأمر وأجرينا الأبحاث بشأنه وناصرناه واستجلَبنا التمويل من أجله بما فيه الكفاية طيلة عقود. وفي الحقيقة، كل ما فعلناه بشأن هذا الأمر هو الحديث عنه. كثيرون حاولوا تحسين تمثيل المرأة في السياسة اللبنانية ويبدو أن الجميع قد أخفقوا.
أسوةً بأنحاء أخرى في المنطقة، ومنذ أوائل التسعينيات، سخَّر لبنان مؤتمر بكّين لوضع آليات متقنة للغاية، تقودها الدولة، للزعمِ بأنها تعمل على تحقيق المساواة بين الجنسين، لا بل حتى بنحوٍ أكثر نشاطاً من باقي أنحاء المنطقة، تعمل منظمات المجتمع المدني اللبناني والجماعات النسوية في لبنان من أجل تحسين حياة النساء من خلال زيادة تمثيلهن وأصواتهن في مجالات صنع القرار.
غير أنَّه وبعد مرور 25 عاماً على مؤتمر بكين، ومع وجود مشروعات دولية أكثر تفصيلاً، مثل أهداف التنمية المستدامة، لا يبدو أن هناك ما هو ناجح في لبنان. وفي الواقع، يبدو من المستحيل إقناع الرجال اللبنانيين بالتخلي عن السلطة لأي أحدٍ على الإطلاق، فما بالك إذا تعلق الأمر بتخليهم عن السلطة لصالح النساء. لقد تطلّب الأمر القيام بثورة لفرض مشاركة المرأة على الرجال الآخرين؛ والسؤال الماثل أمامنا الآن هو كيف يمكننا فرض هذه المشاركة على الأحزاب السياسية والمؤسسات الوطنية؟
ما نعرفه بالفعل
تُصاغ سياسة التمثيل في لبنان من خلال نظام قائم منذ قرن من الزمن لتقاسم السلطة بين الطوائف المعترف بها، ويلائم هذا التمثيل الطائفي في المؤسسات الوطنية نمطَ زعامةٍ نابعٍ من المحسوبية، ومن الشخصية الأبوية والحامية، ومن الطائفة. نحن نعلم من خلال الأبحاث التي أجريت منذ عقود، وكذلك من شهادات النساء، أنَّ هذا النظام لا يحابي الرجال فحسب، بل هو مبني عليهم. دعونا نتأمل في تحالف المحاكم الدينية التي يقودها الرجال، مع الأحزاب السياسية، التي يتولاها الرجال أيضاً. يُموِّل هذا التحالف ويرعى نظاماً سياسياً، يكون فاعلاً، وإن بصورة غير ديمقراطية، حينما يتفق الرجال؛ بينما يتوقف عن العمل، وبنحوٍ كارثي، حينما يختلفون.
وبوسعي أن أزعم من خلال أبحاثي الخاصة مع نساء ممن لديهن طيف من الخبرات في السياسة والحياة العامة، أن محاولة تمكين النساء في هذا النظام لا تعدو كونها خرافة. تُلقي برامج وسرديات التمكين السياسي للمرأة، الممولة من الجهات المانحة، والتي تُنفَّذ محلياً، باللائمة على النساء أنفسهن. وترتكز هذه الجهود إلى حد كبير على حجةٍ مفادها أن المرأة ليست على قدرٍ كافٍ من الدراية أو المهارة لتخوض في غمار السياسة. في الواقع، ليس النظام السياسي بالشمول الكافي، وهو لا يتسم بالديمقراطية في أبسط الحدود ليكون قادراً على استيعاب تمثيل المرأة وأصواتها في العملية الانتخابية.
نحن نعلم هذا كله، وعلاوة على ذلك، نعلم أيضاً أن برنامج الدولة النسوي في لبنان، وفي جميع صُوره، قد مُنِيَ بالفشل الذريع. ولا تعني مجرد قدرتنا على الإبلاغ عن بعض التحسينات الإحصائية الطفيفة هنا وهناك أننا نقوم بعمل أفضل. إن مشهد تمثيل المرأة في السياسة وفي المؤسسات الوطنية مشهد قاتم، فقد صُنِّفنا في مرتبة اليمن، وهو البلد الذي يعيش صراعاً مستعراً. وبينما تجهد وكالات التنمية بحثاً عن الحلول، ويعبّر الصحفيون الغربيون عن افتتانهم الكبير لكون النساء متعلمات وفي غاية الفصاحة، على الرغم من غيابهنّ عن السياسة، نعلم جيداً، نحن النساء أنفسنا، لماذا لا يمكننا لعب أي دور حقيقي في هذا النظام.
يرجع السبب إلى مزيج بسيط للغاية من التداخلية والتمييز، إذ تخضع الحياة الخاصة والعائلية والأحوال والحريات الشخصية بالكامل للمحاكم الدينية، لذا فإن ممارساتٍ من قبيل التحرش الجنسي والاغتصاب الزوجي وزواج الأطفال تُعدّ قانونية إلى حدٍّ بعيد. كما أنّ الخدمات العامة غير موجودة، أو تتوزَّع وفقاً للتبعية، لذا فإنّ توفير خدمات من قبيل التعليم، والعلاج في المستشفيات، وحتى الأسفلت في الشوارع، إنما يعتمد على قدرِ الولاء الذي يُعبَّر عنهُ للطائفة والزعيم.
تأخذ السياسة شكل اجتماعات سرية وغير رسمية تُحاط بالتكتُّم وتجري بين حفنة من الرجال يجلسون إلى طاولة الحوار الوطني لصوغِ السياسات الأمنية والاقتصادية بالدرجة الأولى. أما البرلمان فلا يعدو كونه تمثيلية، إذ تكمُن القوة الحقيقية في أيدي أمراء الحرب السابقين الذين تحولوا إلى سياسيين لديهم أسهم في قطاعات البنوك والاتصالات والكهرباء، وهي القطاعات الثلاثة الأكثر فساداً وربحيّةً في الاقتصاد. كما أن الانتخابات ليست ذات أهمية، إذ يجري الترشيح الحقيقي وتوطيد السلطة وفقاً لبناء التحالفات والتلاعب بحدود المناطق الانتخابية. وتقبع النساء على هامش كل من الرصيد السياسي والاجتماعي والمالي. لذلك، ما من فرصة سانحة لنا مهما بذلتُم من جهود “التمكين” من أجلنا. نحتاج إلى راعٍ يعتمدنا على قائمته، وبمجرد قيامه بذلك فإننا نزيد تمثيلنا اسمياً لينتهي الأمر إلى حد كبير بتعزيز النظام نفسه، وهو النظام المصمم لقمعنا وتمجيد الرجال.
نحن نعلم هذا كله، مثلما نعلم أيضاً أن المنظمات غير الحكومية ذات النوايا الحسنة يمكنها أن تفعل الكثير من خلال عمليات وضعِ برامجها وتوفير بعض الحماية للنساء، إلا أنها لا تتمتع بأي وزن سياسي للدفع نحو الإصلاحات. كما نعلم قبل كل شيء أن المؤسسات التي تقودها الدولة، ولا سيّما اللجنة الوطنية للمرأة في لبنان، مرتبطة بمصالح السياسيين الذين يعيِّنون أعضاءها ولا يمكنها أبداً تحدي ركائز النظام. نعلم هذا كله، وقد سئمنا الحديث عنه.
ما الذي تغيّر في 100 يوم فقط (أو نحو ذلك)
لقد أصرّت الثورة – وأنا أُصِرُّ على أنها ثورة – في 17 تشرين الأول/أكتوبر على تغيير طريقة مشاركة المرأة في السياسة والحياة العامة. ولأن الثورة كانت حقيقية وبلا قيادة، فقد كان للمرأة أن تلعب دوراً قيادياً في تكتيكاتها وسرديتها وتوجُّهِها. تواجه النساء مشكلة وجودية في السياسة التي تحكم حياتهن، من جميع النواحي، شكلاً وصيغةً، فأجساد النساء وحقهن في الانتخاب وحصولهن على الرعاية الصحية رهنٌ بتفويضٍ من السياسيين وتحت رحمتهم. لذا كان من الطبيعي أن تكون النساء على الخطوط الأمامية لتنظيم الاحتجاجات، يكتُبن اللافتات ويتلينَ البيانات ويضَعنَ الإستراتيجيات. إن التغيير الذي حصل في غضون 100 يوم لم يقتصر فقط على المشاركة العامة والصريحة للمرأة في السياسة، بل شمل ذلك أيضاً السردية والقصة التي نرويها عن أنفسنا. وبإمكاني القول بأننا شهدنا منذ الأيام الأولى تحوُّلاً في طبيعة الاحتجاجات التي عادةً ما كانت تدور حول نوع من الولع والافتتان العربي والغربي بدور المرأة فيها، نحو نقاش أكثر موضوعية بشأن تمثيل المرأة. وفي الواقع، إنّ ما تغيَّر في 100 يوم من الثورة هو أننا اكتفينا من النقاش وأصبحنا على استعداد لتحدي الركائز التي تُبقي على تماسك هذا النظام.
وبدلاً من إنشاء التحالفات وحملات الضغط، التي لم تُخفِق فقط في تحقيق حصة (كوتا) نسائية، بل تزامنت بالفعل مع تعيين أول وزير لشؤون المرأة، وهو رجل؛ ها نحن الآن على استعداد لبناء أحزاب ومنصات سياسية جديدة. وبدلاً من مجرد الجلوس على الهامش وتبنّي نهج المنظمات غير الحكومية بمطالبة الرجال والأحزاب الموجودة بشمولنا، فإننا نقوم بإنشاء مجموعات سياسية جديدة. النساء لسنَ فقط في الصدارة بصفتهنَّ قائدات ومتحدثات باسم هذه المجموعات، بل هُنَّ يقُمن كذلك بصياغة التصورات وإدخال الأساليب الجديدة لممارسة السياسة، والمقاربة التشاركية والشاملة، فضلاً عن إيجاد منبرٍ سياسي نسوي في أكثر المجتمعات لا نسويةً. لقد حاولنا لفترة طويلة، وعبرَ طرق مختلفة، إدراج أنفسنا وطلب مقاعد في الهياكل القائمة التي صُممت لتحكم حياتنا، وما فعلته الثورة هو أنها منحتنا فرصة لبناء هياكلنا الخاصة. لهذا السبب فقد أوجدنا خدمة رعاية الأطفال أثناء النهار منذ اليوم الأول من الاحتجاجات، إذ تتناوب صديقاتي في مجالسة الأطفال ليكون باستطاعتهنّ المشاركة في الاحتجاجات في الشارع. وهذا أيضاً ما جعل من المطالبة بحق المرأة في نقل الجنسية وحقها في الأجور العادلة جزءاً من الشعارات والهتافات التي ملأت الشوارع منذ اليوم الأول. يتعذّرُ خوضُ أي نقاش ما لم تضطلع النساء بقيادة سرديته ويضعن قضاياهن أولاً. لقد سئمنا من المطالبة بالتغيير والضغط من أجل الحصول على التمثيل، سنقوم بإنشاء الهياكل والمنصات التي تحملنا وتحمل مشكلاتنا.
وفي انتظار التشريع الخاص بتجريم التحرش الجنسي، لم تتوقف النساء في الثورة عن الإشارة بالبَنان إلى المتحرشين بهنّ ومقاضاتهم. كما ردَّت الناشطات الشابات اللواتي استُدعين للتحقيق برفع دعاوى قضائية ضد المتنمِّرين السيبرانين والمتنمّرين على أرض الواقع. وقد ساد في المدنية إحساس عارم جديد على غرار هاشتاغ (metoo#) “أنا أيضا” (أو #أنا_كمان) مفاده أننا انتهينا من الكلام وصرنا مستعدات لإيجاد المنابر السياسية الشاملة للنساء في أنحاء البلاد، ولم نعد نخاطب هذا البرلمان أو الحكومة المقبلة. لقد قررنا تولّي زمام قضايانا ومعالجتها بأنفسنا. إنّ التحول الأبرز الذي أحدثته الثورة هو الانفصال العميق عن الهياكل السياسية القائمة والتصميم على إرساء الأسس لهياكل جديدة.
النساء اللبنانيات لسنَ حمقاوات، ولا أحد يتوقع أن يتغير هذا الوضع بين عشية وضحاها، غير أن الجميع باتوا مدركين أن هياكل السلطة الحالية آخذة بالتلاشي. لقد أنشأنا حتى نقابات واتحادات بديلة دأب السياسيون على احتوائها لفترة طويلة في السابق، وذلك من أجل ضمان أن تصبح أصوات العمال وأولوياتهم – وهي الجلية تماماً في الثورة – جزءاً من البِنية والسردية الجديدَتين.
ما الذي نحن بصدد أن نكسبه (أو نخسره)
النساء اللبنانيات بطبيعة الحال أكبر ضحايا النظام السياسي والقمع الناجم عن عقود من الطائفية في بلادهنّ، وهُنَّ المستفيدات الأكبر من إطاحة هذا النظام، وسوف يخسرن أكثر إذا ما بقين تحت حكم رجال حقبة ما بعد الحرب الذين يحكمون من خلال هذا النظام. الآن، وقد هزَّت الثورة دعائم النظام في حد ذاتها، انتقلنا من موقع المتفرجات والمدافعات، إلى موقع الزعيمات والناهضات الأساسيات بهذا التحول. ونحن نعلم من تجارب أخرى في أنحاء العالم أن مرحلة ما بعد الثورة قد تهمِّش النساء والقضايا النسوية. فإذا خرجنا من هذه الثورة لنجد أن حفنة من الرجال يجتمعون سراً ويحددون مستقبلنا، سنكون إذاً خاسرات. من المؤكد أن الوقت قد حان للاحتفال بتأثيرنا في هذه الثورة، لكن هذا ليس هو الوقت المناسب لإضفاء الطابع الرومانسي على شبكات التضامن غير الرسمية والأحزاب السياسية الجديدة التي يجري إنشاؤها. حان الوقت لمأسسة هذه الخطوات والانتقال من السياسة الثورية غير الرسمية إلى السياسات الانتخابية والحزبية الرسمية. لقد ظلّت أدبيات النسويات وتجربتهن في السياسات الحزبية الرسمية متشككة، إن لم تكن منتقدة كليّاً في غالب الأحيان. نحن نعرف من خلال نظرية المأسسة النسوية ما يكفي عن السلطة والسياسة لندرك أن الرجال في المؤسسات الرسمية يتصرفون كحراس البوابات ويجلبون النساء للتمثيل الشكلي- وليس الجوهري. كما نُدرك أن المرأة تتعرض للاحتواء ولاستثمار مطالبها في الترويج لنسخة من نسوية الدولة التي تصب في مصلحة رجال السياسة. ويُعدّ مجلس الوزراء الحالي، الذي يضم في تشكيلته نسبة 30% من المقاعد النسائية مثالاً رئيسياً للإصلاحات الاسمية السطحية التي تستجيب لمطالب المرأة بالتمثيل الحقيقي. نحن نعرف كل هذا بالفعل، ونعلم بأنَّ علينا أن نتوخى الحذر إزاء مساعي المأسَسة. غير أننا لا نملك ترف التهكُّم ولا الجلوس جانباً وعدم الاكتراث، فقد حان الوقت لننال ما أحرزناه (حينما لم يكن أحد ينظر أو يتوقع) ونجلبه إلى موقع الصدارة.
لقد كانت المرأة اللبنانية ولا تزال رائدة في الثورة التي هزت لبنان منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019. تجادل هذه الورقة بأن المرحلة المقبلة ستكون حاسمة إذا أرادت المرأة اللبنانية تحويل مشاركتها إلى حقوق تضمن لها المساواة. ولتحقيق ذلك، على النساء اللبنانيات أن يتجاوزن السياسة الثورية غير الرسمية وانتقال إلى السياسة الانتخابية والحزبية الرسمية والعمل على تمثيل حقيقي وجوهري.
نشرت مبادرة الإصلاح العربي هذه المقالة بالتعاون مع تشاتام هاوس، وهي جزء من سلسلة تتناول مستقبل الحوكمة والأمن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتأثيرهما على دور الدولة في المنطقة.
كارمن جحا هي أستاذة مساعدة في الجامعة الأميركية في بيروت
كارمن جحا أستاذة مساعدة في الإدارة العامة والقيادة والتطوير التنظيمي في الجامعة الأميركية في بيروت. وهي تعمل أيضًا مديرة “التعليم من أجل القيادة في الأزمات” وهو برنامج منح الدراسية للنساء الأفغانيات. وهي عضوة مؤسِّسة لـ”مركز المرأة للأعمال الشاملة والقيادة” في كلية العليان للأعمال، ويعد المركز مرجع إقليمي متعدد التخصصات لقراءة وتصنيف المشغلين الذين يشملون الجندر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. تعمل كارمن حاليًا كباحثة رئيسية في مشروع إقليمي لتطوير أول مؤشر لقياس المشاركة الاقتصادية للمرأة العربية.
تتركز خبرة كارمن البحثية على العلاقة بين السياسة والدراسات المؤسسية مع التخصص في ثلاث مجالات: حركات الاحتجاجية، والتمثيل السياسي للمرأة، وسياسات اللاجئين. تم نشر أعمالها في عدة مجلاّت متخصصة.
كارمن ناشطة سياسية وتناصر من أجل المساواة بين الجنسين وحماية اللاجئين. لديها سنوات من الخبرة العملية كمستشارة في عدد من المنظمات الدولية والوكالات الحكومية ووكالات الأمم المتحدة والشركات في المنطقة.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.