تأنيث الشتيمة: لماذا تحضر المرأة وجسدها في مسبّاتنا؟
“علم الشتيمة”

غيداء أبو خيران/ نون بوست- كانت اللغة منذ اكتشافها جزءًا لا يتجزأ من التكوين الثقافيّ والاجتماعيّ للأفراد. فإلى جانب استخدامها كأداةٍ للتواصل والتخاطب، ساهمت اللغة بشكلٍ كبير في تشكيل هوية المجتمعات وأفكارها وطرق تعامل الأشخاص مع بعضهم البعض ونظرتهم للعالم من حوله بما فيه من أشياء وأفراد وموضوعات.

وقد بدأ علماء اللغة في القرن العشرين بدراسة أثر اللغة التي يستخدمها الفرد في التعبير عن الكثير من القضايا والموضوعات النفسية والاجتماعية مثل الهوية والسُلطة والتكافل الاجتماعيّ والذكورية وغيرها الكثير. ولعلّ واحدة من أكثر المجالات إثارةً للجدل، هي دراسة الكيفية التي يستخدم بها الناس اللغة والمفردات في الشتيمة وتوجيه الإهانات، لا سيّما تلك التي تدرس صورة المرأة\الأنثى في الشتائم، الجنسية منها على وجه الخصوص.

صور نمطية: المرأة ضعيفة، تأتي تابعًا

ممّا لا شكّ فيه بتاتًا، فقد خلقت العديد من المجتمعات الكثير من الصور النمطية فيما يتعلّق بالمرأة والأنوثة كالضعف والانفعال وتباعيتها للرجل وخضوعها لسلطته، الأمر الذي ينعكس بشكلٍ واضحٍ وجليّ على سلوكيات هذه المجتمعات ولغتها المستخدمة. ولهذا نسمع كثيرًا جملًا من قبيل “يبكي مثل النساء”، “عاطفي وكأنه امرأة”، “يتحدث كثيرًا كالنساء”، “ضعيف كالنساء”، وغيرها الكثير الكثير ممّا تعجّ به عقولنا وتنضح به لغاتنا المحكية.

تعكس هذه الصور النمطية والشتائم الناتجة عنها ذكورية المجتمع ولغته المستخدمة، أي انحيازها للذكر وإثبات هيمنته وسلطته وخضوع المرأة له. ففي الحياة الاجتماعية، يُنظر للمرأة بكونها الجزء الضعيف من المجتمع الذي ينبغي عليه أن يبقى تحت مظلة الرجل تتبع له وتخضع لسلطته. أما جنسيًا، فلا يزال كثيرون يتصوّرون العلاقة الجنسية بوصفها علاقة فيها “أعلى وأدنى” يُنظر للمرأة خلالها بكونها مشارِكًا سلبيًا أو غير فعّالًا، وبتعبيرٍ آخر “مفعولًا به” لا الفاعل. ومنا هُنا، يمكننا أنْ ننطلق في تساؤلاتنا حيال الشتائم الموجهة للأنثى، سواء البذيئة والتي تتعلّق بالجنس أو غير الجنسية ممّا يتعلّق بالصفات والسلوكيات والأفعال.

ولا تزال كثيرٌ من المجتمعات أيضًا، وإنْ أبدت عكس ذلك، تتعامل في وعيها الجَمعي مع المرأة بوصفها إمّا قدّيسةً أو عاهرة. الأمر الذي يمكن أنْ يفسّر لنا سبب قيام رجل بسبّ أمّ رجل آخر أو أخته، أو تهديده جنسيًا فيها بدل أنْ يهينه هو مباشرةً. إذ ترتبط صورة الأم والأخت عند الرجل بصورة الشرف والقداسة بعيدًا عن “دناسة” الجنس، الشعور الذي يهدّد شعور الرجل في واحدٍ من أكثر ما يقدّسه، العَرض والشرف المرتبطين دومًا بمسائل الجنس.

الأنثى وأعضائها الجنسية: كيف أصبحت موضعًا للإهانات؟

لا يقتصر الأمر على المجتمع العربيّ وحسب، فالكثير من الشعوب والمجتمعات في العالم تميل عادةً إلى استخدام المفردات المتعلّقة بالأعضاء التناسلية، سواء الذكرية أو الأنثوية، في شتائمها. ففي العربية، قد تشتم عضو الأمّ أو الأخت تعبيرًا عن غضبك، وفي الصين وروسيا قد تنعت المقابل لك باسم العضو الذكري والأنثوي، وفي فرنسا وأمريكا والفلبّين، تُعتبر أعضاء الأنثى التناسليّة جزءًا مركزيًا من مفردات الشتائم والمسبّات. إضافةً إلى أنّ “الفِعل الجنسيّ” نفسه يُستخدم بذات السياق عند الكثير من الشعوب، إذ تكاد تعثر على كلمات مرادفة لكلمة “F-word” الإنجليزية في العديد من اللغات، والتي باتت تستخدم بوصفها شتيمة أو إهانة بعيدًا عن معناها الأصليّ.

أمّا اللغات التي حضرت فيها “الأم” بقوّة في المصطلحات النابية والشتائم أكثر من غيرها فهي الإنجليزية والسلافية والصينية والعربية والتركية والبلقانية ولغات الدول المجاورة، ما يُحيلنا أساسًا إلى ضرورة الغوص في شكل الأسرة والمجتمع ودور الرجل فيه وصورة المرأة التي تشكّلت على مدى سنين طويلة، ثم إلى سؤالنا عن كيفية تحوّل الجنس، الفِعل المرغوب، إلى جزءٍ من العقل العدوانيّ الغاضب عند الأفراد.

تاريخيًا، شكّلت اللغة مساحةً خصبة تُستخدم فيها “المرأة” وخصائصها الأنثوية في الإهانة والتحقير، الأمر الذي لم يقتصر ضد النساء وحسب، بل كان الرجال منذ القدم يصفون غيرهم من نفس الجنس بأوصاف النساء في سياق التحقير والإذلال. فقد يخبر الرجل ابنه أنه يتصرف مثل “الفتيات الصغيرات”، أو كم مرة قيل لطفلٍ صغير “لا تبكِ مثل الفتاة”، أو أن ينعت شابٌ صديقه بأنه “فتاة” في حال أبدى عاطفةً ما أو جُبنًا أو غيرها من المواقف الكثيرة.

وبالتالي، يمكننا القول أنّ هذا المعجم اللغوي المليء بالمفردات التي تشتم المرأة وتركّز على أعضائها التناسلية هو نتاج لعقود طويلة من هيمنة الرجل ووضع نفسه موضع السلطة والتحكّم على المرأة من جهة، وامتلاكه لها من جهةٍ أخرى. ولهذا، يكثر في كثيرٍ من اللغات استخدام كلمة “عاهرة”، أو ما يشابهها ويحمل نفس معناها، على المرأة كتحقيرٍ لها، الأمر الذي يعكس لنا كيفية نظر مستخدِم الكلمة للأنثى التي أمامه وكأنها ملكٌ له  يتحكّم بها كيفما يشاء. وبتعبيرٍ آخر، تعدّ هذه الشتائم الجنسية تعبيرًا عن تشوّه صورة الجنس عند الأفراد بوصفها علاقة بها فاعل ومفعول به، وبالتالي فإنّ الطرف الفاعل، أي الرجل، هو الأقوى والمسيطر بينما الطرف المفعول به هو المسيطر عليه والمتحكّم به.

وبكلماتٍ أخرى، يتوقّع الرجل من المرأة أنْ تكون سهلة الانقياد والاستسلام حينما يتعلّق الأمر بذكوريّته التي غالبًا ما ترتبط بالعملية الجنسية. وبالتالي، تكون الشتائم غالبًا متحيّزة ولها خصائص منحرفة معينة تكشف الكثير عن كيفية بناء المجتمع والثقافة التي تهين المرأة من خلال الإشارة إلى الأخلاق الجنسية، في حين أنّ الإهانات والشتائم الموجّهة للرجل فغالبًا ما تنبع من التلميحات التي تشير إلى الضعف والأنوثة.

المحرّمات اللغوية: الجنس كأرضٍ خصبة للشتائم

كانت المصطلحات الجنسية تقبع تحت قائمة “المحرّمات” والمحظورات لفترة طويلة من الزمن، وغالبًا ما كان يتمّ التعبير عن الحاجات والغرائز الجنسية عن طريق الكنايات والاستعارات والمجازات. وشيئًا فشيئًا، تنتقل هذه المفردات من قائمة المحرّمات إلى قائمة أكثر صراحة وشيوعًا لكنّها مع الوقت تفقد دلالتها الأصلية ويتمّ استخدامها بغير معناها الأصيل.

يمكن تفسير الأمر من بابين اثنين؛ أولهما كتعبير عن “حرمان لا واعٍ” تجاه العلاقة الجنسية التي أصبحت وكلّ ما يرتبط بها بمثابة “تابو taboo” يحرّم الحديث به، وثانيهما أنّ تلك الشتائم والإهانات تُستخدم كشكلٍ من أشكال التنفيس عن الكبت والقمع الاجتماعي والجنسي والسياسي المعاش، من خلال اللجوء إلى استخدام كلمات بذيئة تمنح قائلها شعورًا بالسلطة والهيمنة والسيادة الوهمية، كما تخبرنا به نظرية سيغموند فرويد عن الكبت الجنسيّ.

لكن بالنهاية، ليس كلّ من يستخدم هذه الشتائم هو شخصٌ مكبوتٌ جنسيًا يحاول التنفيس عن كبته، فالنساء أيضًا قد يجدنَ أنفسهنّ يتفوهن بتلك الشتائم ضد بعضهنّ دون أي وعي أو إدراك، فهي بالنهاية ترتبط بصورةٍ أو بأخرى بالسلطة والقوة والقدرة على الإخضاع والإذلال. ولذلك، لا يجب علينا أبدًا أنْ نهمل التنشئة التي تبني في عقولنا تلك الصور النمطية التي لا تنتهي عن المرأة والأنوثة من جهة والرجل والذكورية من جهةٍ أخرى.

ولهذا، فجميعنا بحاجة لأنْ نكون أكثر إدراكًا ووعيًا للكلمات التي نستخدمها في حياتنا اليومية والتي نلجأ إليها للتعبير عن غضبنا وحنقنا دون إدراكٍ لماهيّتها أو للمغزى الذي يقبع خلفها، والذي غالبًا ما يكون ضدّ المرأة ويحمل الكثير من العصبية والتفرقة حيالها، لا سيّما وأنّ الكثير منا، ذكورًا وإناثًا، لا يجد حرجًا في استخدامها دون تفكيرٍ أو استبطان.

“علم الشتيمة”

“علم الشتيمة”

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015