ترمّم النساء دمار حروب الرجل
لوحة تشكيلية (المصدر: انترنت)

رشا عمران/ ضفة ثالثة- مهما حاولت أن أضع نفسي في مكان النساء العربيات المعنّفات، لأكتب عنهن، فلن أتمكن من فعل هذا بشكل دقيق. ذلك أنني لم أتعرّض إلا للقليل مما تتعرض له النساء في مجتمعاتنا عادة، فأنا ابنة عائلة منفتحة أساسًا، لا تفرق في يومياتها بين الذكر والأنثى في أي شيء، وما يفعله صبي العائلة تفعله بناتها تلقائيًا، وما تمنع عنه البنات يمنع عنه الذكر تلقائيًا.

لم أشعر يومًا أن هنالك مفهومين للأخلاق في عائلتي، مفهوم ذكوري وآخر أنثوي، وليس هنالك نمطان للحياة الاجتماعية أيضًا، ذلك أن عائلتي تنتمي إلى بيئة فيها كثير من الانفتاح الاجتماعي، وهو عمومًا ما يميز حياة الأقليات الدينية في سورية (رغم أن الانفتاح لدى الأقلية التي أنتمي لها لا يشمل حقوق البنات في الميراث، ولا حقوقهن في معرفة تفاصيل المذهب الذي ينتمين له)، لكن على الأقل تتمتع بناته ونساؤه بحريات فردية تتعلق بطريقة العيش والملبس (وهذا من صلب تعاليم المذهب الذي لا يعترف بفرائض يعدها الدين الإسلامي، بمذهبيه الأساسيين السني والشيعي، من أركان الدين الصحيح)؛ يضاف إلى ذلك انتماء أسرتي إلى الطبقة الوسطى السورية، وإلى شريحة المثقفين، التي ظلت إلى وقت طويل تملك ذلك الاتساق بين سلوك أفرادها المعلن والخفي، وبين النظريات التي اعتنقتها والمستمدة من أيديولوجيات تفصل الدين عن سياق الحياة اليومية، مثلما تفصله عن السياسة، لولا أن أصحاب تلك الأيديولوجيات تنكروا لهذه الأساسيات لاحقًا لامتلاكهم السلطة، وتجيير كل شيء لصالح بقائهم متسلطين ومستبدين وطغاة متحالفين مع المؤسسات والحركات الدينية الأكثر رجعية، التي استفردت بأكثرية المجتمع بعد نشاط طويل من التهميش السياسي والمجتمعي والثقافي لها.

لكل ما سبق، فإنني لا أستطيع، حقًا، أن أدعي مظلومية نسوية عربية، وليس من الأخلاق بمكان أن أستخدم هذه المظلومية، لا في الحياة اليومية، ولا العامة، ولا في الكتابة والأدب، رغم أنني تعرضت في حياتي للتحرش الوظيفي، وتعرضت للتمييز الجنساني في العمل، وتعرضت للتمييز المجتمعي كمطلقة، وتعرضت للتنمر الذكوري كأنثى ممتلئة الجسد (تعرضت له من مثقفين علمانيين، وهذه واحدة من مفارقات كثيرة عاينتها بأم عيني)، وتعرضت لاستباحة سمجة وممجوجة من كثير ذكور طائفتي ممن يعتقدون أن انتماءهم لنفس مذهب رأس السلطة هو امتياز يتيح لهم سلوكًا استعلائيًا على النساء العابرات بهم، سلوك يميز من تمرس في مهنة الأمن بكل ما فيها من عجرفة وابتذال واستهتار بمساحة الآخرين. وتعرضت للإساءة من ذكور المجتمع السوري لأنني ألبس ما يراه البعض خارجًا على ثوابت المجتمع، أو لأنني أعيش نمط حياة لا يتناسب مع المفهوم المجتمعي عما يجب أن يكون عليه سلوك المرأة، فأنا أحتسي الكحول، وأصادق رجالًا علنًا، وأتحدث صراحة عن علاقاتي، ودافعت عن خيارات ابنتي الشابة حتى النهاية.

كما أنني نشطت على المستوى الثقافي المدني حين كان هذا النشاط مقتصرًا على الذكور، ما عرضني لكثير من الاتهامات، وتشويه السمعة، والكراهية، والغيرة؛ تلاه موقفي السياسي بعد الثورة، وهو ما جعلني، مثل كثيرات غيري، في مرمي حملات تشويه وشتائم شارك فيها من كان ذات يوم بمثابة الصديق، ولم تخل من مشاركة نساء وجدن في انحيازنا للثورة فرصة للانتقام الشخصي، أو الأدبي.

لكن ذلك كله، بكل أثره السيء، يمكن أن يكون بمثابة المزحة لو قيس بما تعرضت وما زالت تتعرض له النساء في المجتمعات العربية من عسف وتمييز وقهر واعتداء وتسلط ذكوري سلطوي ومجتمعي وشرعي وقانوني نادرًا ما نجت منه امرأة، والناجية ستكون غالبًا مستندة إلى حماية عائلة تتمتع بامتيازات ثقافية، أو مهنية، وبالطبع اقتصادية، ذلك أنه ثمة تناسب طردي بين المستوى الطبقي العربي والوضع الاجتماعي للمرأة، كلما انحدرت الطبقة الاجتماعية كلما ازداد وضع النساء سوءًا، وكلما ارتفعت الطبقة الاجتماعية كلما تمتعت النساء بحياة متخففة جدًا من التمييز والعنف والاعتداء؛ ومع الأزمات الاقتصادية العالمية الحالية، ومع الأوضاع المعيشية المتردية في عالمنا العربي، وانزياح الطبقة الوسطى عن مكانها ومكانتها متراجعة لتحتل الصفوف الملاصقة لخط الفقر، أو المتجاوزة له، تزداد الأخبار من هنا وهناك عن اعتداءات لا تتوقف ضد النساء تصل إلى حد القتل، ومحاولات التستر على الجرائم من قبل المجتمع، وأحيانًا كثيرة من قبل عائلات الضحايا، حيث تترك الأنظمة الفضاء مفتوحًا لتجار الدين ممن يطلق عليهم اسم الدعاة، وهم مجموعة من المختلين المتسلحين بالدين ممن وجدوا في السوشيال ميديا، وفي الإعلام المنفلت، وفي الأنظمة غير المعنية بحياة مواطنيها، منابر مناسبة ليصبحوا نجومًا يجمعون المريدين من بقايا الطبقة المتوسطة الذين لم يعد لهم من ملجأ غير الدين، بعد أن جردتهم الأوضاع المعيشية المتردية من قدرتهم على المحاكمة العقلية والعلمية اللازمة لفهم وتحليل أسباب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي يمرون بها؛ مستعيرين من ماضي التاريخ ما لا يتناسب مع حداثة الحياة وعصريتها، فتحدث تلك الفجوة التي ستدفع النساء ثمنها أولًا من خياراتهن ومن حقوقهن ومن حياتهن في حالات كثيرة.

أعترف أنني أشعر بالحرج حينما أهم بالكتابة عن الوضع البائس للمرأة العربية للأسباب التي شرحتها سابقًا، مع أن واجبي هو إيصال صوت النساء المعنفات والمتعرضات لكل هذا التعسف والتمييز والاعتداءات المتكررة والمقصودة، واجبي ككاتبة وكإنسانة تملك حصانة السن والتاريخ الشخصي، وتملك منبرًا يمكنها من خلاله التعبير عن وضع كثيرات ممن عرفتهن شخصيًا، أو ممن سمعت بهن وعنهن، خصوصًا حين يكون الأمر يتعلق بوضع المرأة السورية في الداخل والخارج، وفي المخيمات داخل سورية وخارجها، فلا أجد في نفسي الكفاءة الكافية لتقمص ما حدث ويحدث لهن، أنا التي نادرًا ما اختبرت جزءًا من اختباراتهن اليومية، حتى من وصلت منهن إلى مجتمعات متقدمة، ما زالت رهينة تقاليد الأسرة والعائلة والدين، ومنهن من استطاعت نيل استقلاليتها لكن يتم رجمها من قبل الغوغاء على وسائل التواصل، إن لم تصل إليها قبلًا سكين الزوج، أو الأب، أو الأخ، من حماة الشرف الرفيع.

لماذا أكتب هذا في يومياتي؟

حدث اليوم أن قرأت منشورًا لمثقف مصري يتحدث فيه عن حجاب المرأة، ويطالب المرأة المسلمة التي ترغب بخلع الحجاب بأن تفكر قبل الإقدام على هذه الخطوة، وأن تكون خطوتها محسوبة، فلا تراوغ ولا تتراجع، أو لا تخلعه مطلقًا. بادئًا ومنهيًا منشوره بعبارة (لا علاقة لي بالأمر)! قرأت المنشور إياه أكثر من مرة وأنا أحاول فهم ماذا يريد هذا المثقف (سجين سياسي سابق)، وفعلًا ما علاقته بما تفعله أية امرأة في حياتها؟ فكرت بالثقة الكبيرة التي يملكها الرجل العربي حول أحقيته في مناقشة ما تفعله امرأة ما في حياتها، أيًا كانت هذه المرأة، من أين تأتي هذه الثقة؟ هل هي نتاج طبيعي لمنظومة المجتمع الدينية السلطوية السائدة، أم هي جزء من طبيعة الذكر في كل مكان وزمان؟ من يمنحه هذا الاستحقاق؟ من يعطيه تلك المساحة الهائلة لتسفيه خيارات امرأة ما؟ من يجعله مالكًا للسلطة الأخلاقية والقيمية التي تتيح له تصويب سلوك كائن آخر يمتلك من الصفات الفيزيولوجية ما تتفوق على صفات الرجل؟ هل من داع لنعيد الكلام عن تشريح جسد الأنثى ودوره الأساسي في صنع معجزة الحياة؟

يخطر لي التالي؟ ماذا لو حصل العكس؟ ماذا لو تسيدت الأنثى، وأصبحت هي المسيطرة، وامتلكت كل الحقوق الممنوحة للرجل، وبدأت بتوجيهه وتقييم سلوكه، والتدخل في خياراته، واستباحة خصوصيته ومساحته؟ ماذا كان سيحدث لو حصل شيء كهذا؟ هل سيشعر الرجل بالظلم، ويعاني من القهر، ويناضل لنيل حقوقه؟ ماذا لو كان الرجل معنفًا من قبل امرأة تمنحها السلطة التشريعية والقانونية حق التعنيف والسيطرة، وتتعامل باستعلاء وفوقية وتسلطية مع رجال محيطها؟

لم يحتمل، على سبيل المثال، الرجل السوري حقيقة أن القوانين الأوروبية تجرمه في حال اعتدى على زوجته، أو ابنته، أو أخته، بالضرب، وبدأ بمهاجمة هذه الثقافة هازئًا من الحديث عن الحريات فيها، ذلك أن تلك القوانين تمنعه من حرية الاعتداء على المرأة التي كانت تتيحها له قوانين بلده! ومثله كثير من رجال العرب والمسلمين، وسبقهم في ذلك رجال الغرب الذين حدّت القوانين المدنية والعلمانية من حرية تسلطهم، تلك القوانين التي كان لنضال المرأة دور كبير في تكريسها.

في ظني، لو أن معجزة ما تحدث وتنقلب الأدوار المجتمعية لصالح المرأة لما فعلت المرأة بالرجل ما يفعله بها، ليس لأنها فقط جربت أن تكون مظلومة ومعنفة، ولن ترضى بفعل ذلك بغيرها، بل لأنه كما تقول الناشطة والكاتبة النسوية الأسترالية كيرميان كرير: “كل المجتمعات التي على حافة الموت هي مجتمعات ذكورية، لن يتمكن أي مجتمع من النجاة من الموت من غير النساء”. تتحالف النساء مع الحياة ضد الموت، لهذا تعيش النساء طويلًا ما لم يكنَّ ضحايا الحروب التي يصنعها الرجل، وتسعى المرأة إلى ترميم الدمار الذي تخلفه تلك الحروب.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

لوحة تشكيلية (المصدر: انترنت)

تعليق واحد في “ترمّم النساء دمار حروب الرجل”

  1. يقول احمد:

    بالنسبة للجزئية الاخيرة
    بما ان النساء حصلوا علي حؤية اكبر وانحياز في الغرب سمعنا عن حالات كثيره اشهرها امبر هارد
    حصلوا علي القوي فا ظلموا هههه ينسف هذا خيالاتك
    بالاخير مشكلة بشرية ولا تتعلق بنوع

أترك تعليق

مقالات
يبدو أنه من الصعوبة بمكان أن نتحول بين ليلة وضحاها إلى دعاة سلام! والسلام المقصود هنا هو السلام التبادلي اليومي السائد في الخطاب العام.المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015