عماد الشرع/ موقع (درج)- في يوم تموزي لاهب عام 2015، ودّعت هدى ذات الثلاث عشرة سنة عائلتها في مخيم الخازر للنازحين شرق الموصل أملاً بحياة جديدة خارج أسوار مقبرة الأحياء” كما تصفها. كان الفرح يمتزج بالخوف، فرحة الخلاص من الفقر واليأس الكامن في حياة بمخيم يفتقر إلى الخدمات ويحشر في كل خيمة عائلة كاملة، وخوف الزواج بشخص تجهله ويكبرها بعشرين سنة.
شهد المخيم ذاته، خلال نحو شهر أربع زيجات لفتيات قاصرات، رصدها كاتب التحقيق، وتكرر المشهد ذاته وفق منظمات ومشاهدات صحافيين، في نحو 20 مخيماً آخر، بنيت كلها على نحو عاجل في محافظتي دهوك وإربيل، وأيضاً في شمال محافظة نينوى وشرقها، حيث بسط تنظيم “داعش” سيطرته وأعلن دولته. وكانت استقبلت نينوى بين منتصف 2014 ونهاية 2016 مئات آلاف النازحين الهاربين من التنظيم.
فتيات دون الخامسة عشرة أجبرن جميعاً، في ساعات عجز وفوضى وحرب، على مغادرة عالم الطفولة واللعب والأحلام تحت تهديد الفقر والخوف من المستقبل، إلى عالم الكبار بمسؤولياته ومتطلباته، في ظل تقاليد مجتمعية لا تمنحهن حق الاعتراض، مع غياب التشريعات الرادعة والمؤسسات المعنية.
تقول هدى وهي تحمل على صدرها طفلتها ذات الأشهر الثلاثة محاولة تهدئتها بعد موجة بكاء إثر معاناتها من التهابات في الفم: “بعد نزوحنا من الموصل هرباً من “داعش”، وعقب أشهر من حياة مذلة بين العوز والمرض في المخيم وجدت في الزواج فرصة للخلاص من تلك الحياة وتخفيف العبء عن عائلتي”.
من دون تأخير قبلت بأول رجل تقدم لها، حتى قبل أن تعرفه وتسأل عنه، لمجرد أنه كان يملك بيتاً ومتجراً يدر عليه دخلاً متوسطاً. وهو ما فعلته آلاف غيرها من النازحات. وتُردف: “لم يكن أمامي خيار آخر، وسط عائلة تضم تسعة أفراد ولا تملك أي مصدر دخل”.
سنة وشهران فقط كان عمر ذلك الزواج، فضلت هدى بعدها الطلاق والعودة إلى المخيم مع رضيعة تحتاج إلى الرعاية، على “قسوة” زوجها و”جحيم عائلته”، متنازلة عن كل حقوقها الشرعية. تقول: “لم أكن أعرف أن الحياة مع زوج يكبرني بعشرين سنة، ويعتبرني عبدة له، أسوأ ألف مرة من قسوة الحياة بمخيم النزوح”.
في الشهر ذاته الذي تزوجت فيه هدى، تم تزويج رفيقتها هند، التي لم تكن قد أكملت الخامسة عشرة والتي انقطعت أخبارها طوال أشهر بعد أن منعت من الخروج والتحدث عبر الهاتف، قبل أن تهرب ذات مساء من منزل زوجها وتعود إلى عائلتها ضيفة ثقيلة تطاردها “التعليقات والنصائح”، فهي امرأة مهددة بالطلاق، بلا تعليم ولا فرصة عمل، ولا تملك خياراً غير “الخضوع للواقع والعودة إلى زوجها”.
تقول: “كنت أشعر بأنني مختطفة، أتساءل في اليوم مئة مرة هل أهرب عائدة إلى عائلتي التي باعتني، أم أواصل حياتي كعبدة مطيعة لغرائز شخص يكبرني ويعاملني هو وزوجته الأولى كجارية، رجل لا أكن له أي مودة، وضعتني تسوية مالية اجتماعية تحت رحمته”.
بحسب ناشطين في مجال حقوق النساء والأطفال، هناك عشرات الآلاف من ضحايا الزواج المبكر في مختلف مناطق البلاد، وهو ما تؤكده الأرقام الرسمية أيضاً.
كشف الجهاز المركزي للإحصاء عام 2011 أن 5.4 ٪ من الفتيات العراقيات تزوَّجن قبل بلوغ الـ15 سنة، وحوالى 23 ٪ قبل الـ18 سنة، فيما أظهر المسح الاجتماعي والاقتصادي للأسرة في العراق لوزارة التخطيط لعام 2007، أن 21٪ من الفتيات تزوجّن قبل اكمالهن سن الـ19 سنة، مقارنة بـ15٪ ما بين عامي 1997 و2004 حين كان العراق يخضع لعقوبات اقتصادية قاسية.
عام 2013 ذكرت وزارة التخطيط أن 11٪ من حالات الزواج التي عقدت داخل المحاكم تندرج في خانة زواج القاصرات. مع وجود نسب أكبر تسجل خارج المحاكم. وقال وزير التخطيط والتعاون الانمائي علي الشكري في تموز/ يوليو 2013 خلال الاحتفال باليوم العالمي للسكان، إن 5.5٪ من النساء المتزوجات تزوجن قبل سن 15 سنة، 23.4 ٪تزوجن قبل بلوغ الـ18 سنة.
تلك الأرقام المعلنة قبل احتلال تنظيم “داعش” مناطق واسعة من البلاد ونزوح أكثر من 3 ملايين إنسان من ديارهم وقبل استفحال الأزمة الاقتصادية في البلاد، نتيجة تراجع سعر برميل النفط في الأسواق العالمية ومعه موارد البلاد، لم تتبعها إحصاءات رسمية حديثة، فالجهات المعنية بما فيها وزارة التخطيط ومجلس القضاء الأعلى ولجنة المرأة والطفل في البرلمان العراقي، تؤكد عدم امتلاكها أي أرقام جديدة.
يوضح مسؤول إعلام وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي، أن الوزارة لا تملك فعلياً أي إحصاء لزواج القاصرات ولا لنسب طلاقهن من مجموع المطلقات. ويؤكد الناطق باسم مجلس القضاء الأعلى القاضي عبدالستار البيرقردار عدم وجود إحصاء عن زواج القاصرات “لأن زواج القاصرات دائماً يحصل خارج المحاكم عند رجل الدين، كون القانون الحالي يمنع زواج القاصرات”.
الكلام ذاته كررته لجنة المرأة والطفل في البرلمان العراقي، مذكرة بأن كشف تلك الأرقام من مسؤولية وزارة التخطيط.
وسط غياب الأرقام الرسمية، تؤكد منظمات معنية بحقوق النساء مثل “جمعية نساء بغداد” و”منظمة ليديا”، وباحثون أكاديميون من خلال دراسات ميدانية أجريت في السنوات الخمس الأخيرة اعتمدت مسوحات واستطلاعات في محاكم محددة ببغداد، أن معدلات زواج القاصرات تتصاعد وأن أكثر من ثلث المتزوجات هن قاصرات والفئة الأكبر هي بين 15 إلى 17 سنة.
وتُنَبه الناشطة في مجال حقوق المرأة فيان أحمد، إلى أن معدلات زواج القاصرات في مدن جنوب البلاد تسجل أرقاماً أعلى بسبب ارتفاع معدلات الفقر (نحو 30٪)، وترك الدراسة وندرة فرص العمل إلى جانب العادات والتقاليد العشائرية، كما ترتفع في المناطق التي شهدت عمليات عنف ونزوح كنينوى وصلاح الدين والانبار، “هناك عوائل تفضل تزويج الفتيات على تحمل مسؤوليتهن”.
لا يختلف المشهد كثيراً في إقليم كردستان حيث الأوضاع الاقتصادية والأمنية أفضل، ففي السنوات الثلاث الماضية كانت 30 % من حالات الزواج ضمن الفئة العمرية من 15 إلى 20 سنة، وفق نتائج بحوث ميدانية أجرتها منظمة “ليديا” وعرضتها في جلسة نقاشية.
وتشير عضو لجنة المرأة والطفولة النيابية، النائب ريزان شيخ دلير، إلى غياب الإحصاءات الدقيقة كون معظم الزيجات تعقد خارج المحاكم، وتستدرك: “إلا أن هناك أرقاماً مخيفة عن عدد القاصرات اللواتي يتم تزويجهن بأعمار صغيرة… في مناطق انتشار النازحين معظم الزيجات تتم خارج المحاكم، هناك فتيات يتم تزويجهن وهنّ في التاسعة”.
الثغرات القانونية
يحدث ذلك في ظل قانون للأحوال الشخصية يتيح زواج القاصرات، في ظل ثغرات فيه أو نتيجة خلل في التطبيقات القضائية تسمح بتسجيل عقود الزواج المبرمة خارج المحاكم في وقت لاحق.
تؤكّد الخبيرة القانونية والناشطة الحقوقية رجاء رحمة، أن الكثير من الثغرات في القوانين يتم استغلالها لتمرير حالات زواج القاصرات أمام محاكم الأحوال الشخصية، حتى أن بعض المحامين تخصصوا في هذا المجال.
“إنها كارثة ولا أحد يبحث عن حل… فتيات صغيرات يجبرن على الزواج لتتحول أحلامهن بعد حين إلى كوابيس في ظل عوائل مفككة… تكاد تجد في كل حي سكني قاصرات متزوجات وحياتهن مهددة، والنتيجة ارتفاع معدلات الطلاق بشكل مخيف”.
قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لسنة 1959 المعدل اشترط إكمال الـ18 سنة للزواج في المادة 7 الفقرة 1، الا أن المادة 8 من القانون ذاته في الفقرة 1 و 2 (التي تنص على 1 – إذا طلب من أكمل الخامسة عشرة من العمر الزواج، فللقاضي أن يأذن بذلك، إذا ثبتت له أهليته وقابليته البدنية، بعد موافقة وليه الشرعي، فإذا امتنع الولي طلب القاضي منه موافقته خلال مدة يحددها له، فإن لم يعترض أو كان اعتراضه غير جدير بالاعتبار، أذن القاضي بالزواج. 2 – للقاضي أن يأذن بزواج من بلغ الخامسة عشرة من العمر إذا وجد ضرورة قصوى تدعو إلى ذلك، ويشترط لإعطاء الإذن، تحقق البلوغ الشرعي والقابلية البدنية) تركت ثغرة واضحة لإمكان الزواج تحت سن الثامنة عشرة، كما تقول رحمة.
هذه “الثغرات” مع الكثير من حالات الخلل في التطبيقات القضائية تتسبب في استمرار زواج القاصرات وتصديقه من قبل محاكم الأحوال الشخصية.
خلل في التطبيقات القضائية
الإجراءات الواجب اتباعها في عقد الزواج عموماً “أصبحت أشبه بالروتين عند القضاة ويرددونها وكأنها تحصيل حاصل”، تقول المحامية دنيا الربيعي، مضيفة: “سؤال الفتاة عن قبولها بالزواج يتم بطريقة رويتنية، فالقاضي يسألها من دون أن يستفهم منها، إنما فقط يردد الكلام وينتظر الجواب المعروف، وعادة يسأل وهو يكتب على الأوراق من دون النظر إلى وجهها لقراءة تعابيره التي ربما تظهر إجبارها على القبول… معظم القضاة يرون أن مجيء الفتاة إلى المحكمة يعني قبولها بالزواج”.
هكذا تتم الإجراءات كلها، منها الإذن بالزواج للقاصر، كما حدث مع ليلى ذات الـ16 سنة التي تسكن في بغداد، عندما قدم والدها طلباً للقاضي بمحكمة الأحوال الشخصية، يقضي باكتمال أهليتها الشرعية وطلب الإذن لها بالزواج.
تقول ليلى: “اكتفى القاضي بمطالعة الطلب الذي أرفقت معه شهادة من رجل دين، ولم يوجه إلي أي سؤال” وبموجب قبول الطلب “تم تزويجي من رجل يكبرني بـ23 عاماً، من دون معرفة رأيي. لقد اعتبروني موافقة. هكذا وأنا مقيدة بخوفي ومرتعبة من مستقبلي، ارغمت على الزواج في ظل ذلك القانون وأمام قاض حسم الأمر في دقيقتين وبإجراءات روتينية”.
يقول المحامي سليم الدراجي، الذي يتابع قضايا الأحوال الشخصية إن “القاضي في هذه الحالة استند إلى المادة 8 الفقرة 1 من قانون الأحوال الشخصية والتي تجيز للقاضي تزويج القاصر إذا ما ثبتت أهليته وقدرته البدنية، واعتبر شهادة رجل الدين دليلاً على ذلك، كما اعتبر تقديم الوالد طلب موافقة على الزواج، حصل من دون معرفة رأي القاصر”.
ويؤكّد الدراجي أن “هذا يعتبر خللاً واضحاً في تطبيق القاضي للقانون الذي أصلاً فيه خلل”، موضحاً أن المادة المذكورة “تشترط تقدم القاصر نفسه بالطلب، إذ على القاضي التأكد من أن القاصر هو من يطلب”.
الزواج خارج المحاكم
أحد مفاصل الخلل التي تتيح زواج القاصرات، هو الزواج عند رجال الدين خارج المحاكم، في ما يعرف بالمكاتب الشرعية، وهو أمر متاح وشائع في ظل عقوبة لم يعد لها وجود على أرض الواقع، على أن يتم تصديق الزواج لاحقاً في المحاكم.
فالمادة 10 الفقرة 5 الخاصة بعقوبة الزواج خارج المحاكم تنص على (يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولاتزيد على سنة او بغرامة لا تقل عن 300 دينار ولا تزيد على ألف دينار كل رجل عقد زواجاً خارج المحكمة وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد عن خمس سنوات إذا عقد خارج المحكمة زواجاً آخر مع قيام الزوجية).
ومع التراخي في تطبيق العقوبة، حيث يؤخذ عادة بأخف عقوبة وهي الغرامة التي لا تزيد على 1000 دينار (أقل من دولار واحد) يصبح الزواج خارج المحاكم بكل ما يحمله من محاذير أمراً متاحاً ومخرجاً ميسراً لزواج القاصرات.
تقول المحامية رحمة، أن أحد القضاة اضطر قبل أيام إلى تزويج فتاة قاصرة بعمر 13 سنة من شاب في الثامنة عشرة، لمجرد أنهما قاما بإجراء الزواج الشرعي لدى رجل الدين، ومثل هذه الحالات تتكرر بشكل كبير في المحاكم وهو ما يعتبر فرض الأمر الواقع.
الأمر لا يتعلّق بحالات فردية، بل بعشرات آلاف الحالات في عموم البلاد، فقد سجل نحو 9800 حالة زواج خارج المحاكم في بغداد وحدها خلال 2017، وفق أرقام مجلس القضاء، بينما تم تسجيل حوالى 59 ألف حالة في عموم العراق عدا إقليم كردستان، جزء كبير منها يتمثل بزواج قاصرات تريد عوائلهن فرض الأمر الواقع على المحاكم.
هكذا تمّ تزويج سارة، التي كانت في الخامسة عشرة من عمرها، وتعيش في منطقة الشعلة ببغداد، حيث تم تقديم ما يثبت زواجها خارج المحكمة. أبلغت سارة صديقتها في المدرسة الاعدادية التي تحدثت إلى معد التحقيق “ذات يوم غابت عن المدرسة، وحين اتصلت بها قالت إنها أجبرت على الزواج، ولا أحد يستطيع إنقاذها”.
تشريع قانون جديد
وعلى رغم تلك الثغرات التي تتيح زواج القاصرات، فإن القانون الحالي يعتبر مقبولاً، مقارنة بمسودة قانون سعى نواب إلى تمريره في الدورة المنتهية، كان سيفتح الباب واسعاً أمام زواج القاصرات، في محاولة هي الثالثة منذ 2003.
تقول الناشطة في قضايا المرأة سعاد قاسم: “لا نعرف كيف يمكننا وقف تلك الجريمة بحق أطفال بلا وعي وبحق فتيات قاصرات بلا إرادة يخضعن لقرار عوائلهن، والنتيجة زواج فاشل في كثير من الأحيان أو طلاق في ظل مجتمع لا يرحم المطلقات”.
وتضيف: “الأمر لا يتعلق فقط بالأهلية البدنية، بل الوعي بما يعنيه الزواج، وبالقدرة على اتخاذ قرار سيحدد مصيرك ويرسم خط حياتك المستقبلي الذي يصعب عليك أن تغيره لاحقاً”.
وتساءلت “هل النساء الموجودات في البرلمان واللواتي دعمن ذلك التشريع، بدعوى منح الفتاة حق الاختيار في بناء عائلة والتمتع بالحياة الزوجية، مستعدات لتزويج بناتهن وهن في أعمار 9 أو 16 سنة؟”.
إضافةً إلى الثغرات القانونية والاشكالات القضائية، هناك جوانب أخرى لظاهرة زواح القاصرات، تتمثل بالتقاليد العشائرية والنصوص الدينية التي تعد فيصلاً في موضوع زواج الفتاة، وغالباً ما ينصاع القانون والقضاء لها من خلال ايجاد طرائق لعدم مواجهته، بحسب دنيا الربيعي.
تداخل الدين والعادات
اختلفت المذاهب الفقهية في تحديد العمر المسموح للفتاة خلاله بالزواج، فمنها من يذهب إلى عمر 9 سنوات وأخرى إلى 13 أو 15 سنة، وهذا ما يفتح الباب أمام زواج القاصرات ويعطي مجالاً واسعاً للتأويلات في شأن السن الشرعية للزواج من دون الأخذ بتبدل الواقع.
تقول الناشطة النسوية ابتهال جاسم إن السبب الأول لزواج القاصرات يتمثل في الموروث الاجتماعي والعشائري “المغلف بالإطار الديني والشرعي”، مبينة أن الطابع العشائري والذكوري للمجتمع العراقي “اتخذ من الدين إطاراً لتمرير كل ما يصب في ترسيخ هذا الموروث”.
يرى رجل الدين، الشيخ ابو قيصر الجبوري، من سكنة الحسينية ببغداد وهي من المناطق الشعبية، أن هذه العادات “سنينة” عشائرية وهي تشجع زواج البنات بعمر صغير لأسباب كثيرة، بينهما ما يتعلق بالتماسك الاجتماعي، مبيناً أن أحد أسباب ترسخ هذه التقاليد يتمثل في “إبعاد الشاب والفتاة من الحرام (العلاقات غير الشرعية) ولزيادة النسل فالبنت التي تتزوج صغيرة تنجب أكثر وتزيد عدد أفراد العائلة”.
ويُوضِح الشيخ أحمد حسن المفتي، موقف الشرع، مشيراً إلى أن “الشرع باختلاف المذاهب الفقهية أقر بجواز زواج الفتاة قبل بلوغ الثامنة عشرة، أي أنه جائز وليس فرضاً”، مبيناً أن الجواز يعني أن هذا الأمر مسموح ما لم يكن فيه ضرر ناتج عن حالة خاصة “كأن تكون الفتاة ناعمة (صغيرة الجسم) أو تكون غير واعية وناضجة فكرياً”.
لكن الشيخ جاسم المندلاوي، يشدد على ضرورة تصدي رجال الدين لهذه الظاهرة من خلال شرح وتوضيح “العناوين الثانوية الشرعية ضمن قاعدة لا ضرر ولا ضرار”، مؤكداً أن زواج القاصرة “إذا أدى إلى انهيار الوضع الأسري فهو حرام”. ويلفت إلى أن “إجبار البنت القاصرة على الزواج حرام، ويجعل عقد زواجها باطلاً”.
الهروب من الفقر
يُعَدُّ الفقر الذي بلغت نسبته نحو 23 ٪ عام 2014 بحسب ارقام وزارة التخطيط، وأكثر من 30٪ بحسب نواب، أهم أسباب الزواج المبكر، ومع نزوح أكثر من ثلاثة ملايين شخص عن مناطقهم، نتيجة الحرب مع تنظيم “داعش”، تشكلت بيئة مشجعة لزواج القاصرات.
تقول الباحثة الاجتماعية لمياء الجواري: “بعض العوائل اضطرت إلى تزويج بناتها على رغم صغر سنهن تحت ضغط عدم القدرة على تحمل تكاليف معيشتهن وتعليمهن”، وهو ما رفع معدلات زواج القاصرات وطلاقهن لاحقاً.
الجواري رصدت خلال عملها في بحث ميداني في محكمة الأحوال الشخصية بالموصل أكثر من 40 حالة طلاق خلال ثلاثة أشهر لقاصرات بينها 35 حالة كان سوء الوضع المعيشي هو الدافع وراء زواجهن “بخاصة أن الشرع يبيح ذلك فهو ليس بعيب ولا حرام كما يرددون”.
هذا ما دفع صباح ذات الأربع عشرة سنة إلى الطلاق بعد ستة أشهر من زواج تصفه والدتها “بالتجربة المرة” التي عاشتها حين حاولت “الهروب من الفقر”.
بوجه شاحب وملابس نسائية فضفاضة لم تخف طفولتها، كانت تقف أمام باب محكمة الموصل للأحوال الشخصية في انتظار دورها لإكمال معاملتها، قالت وهي تتكئ على حائط صغير “لم تستطع والدتي الأرملة إعالة أربعة أطفال في مخيم بحركة في ضواحي اربيل بعد نزوحنا من الموصل”.
وأضافت وهي تنظر إلى الأرض وتحاول إخفاء وجهها بأوراق دعوى الطلاق التي كانت تحملها “بعد معاناة وعمل في البيوت قرّرت تزويجي، وتمّ كلّ شيء خلال أيام”.
النائبة ريزان شيخ دلير، أكدت أن مجلس النواب مطّلع تماماً على ما يحصل في مخيمات النزوح، “تتعرض النازحات إلى الاتجار والزواج القسري والمبكر وفق نتائج الزيارات الميدانية”. وأشارت إلى تعرض “حوالى 30 في المئة من نساء أحد مخيمات كردستان (لم تكشف اسم المخيم) إلى الاتجار والزواج القسري والمبكر، من دون متابعة ميدانية لأوضاعهن”.
الخوف من المستقبل
يُضاف إلى الفقر كدافع أساسي لزواج القاصرات، عامل الخوف من المستقبل، وهو ما عانى منه الايزيديون بعد ما تعرضوا له في آب/ أغسطس 2014 من عمليات إبادة وسبي على يد تنظيم الدولة الإسلامية، إذ وجد أكثر من 300 ألف ايزيدي أنفسهم في مخيمات النزوح فيما وقعت أكثر من 3 آلاف امرأة وفتاة أسيرات بيد التنظيم الذي حولهن إلى سبايا ما زال مصير أكثر من ألفين منهن مجهولاً، بحسب أرقام دائرة الأوقاف الايزيدية، وهو ما دفع بآلاف الايزيديين إلى الإسراع في تزويج بناتهم.
الناشط في مجال حقوق الايزيديين إحسان عبد الله، أكد مئات حالات الزواج من قاصرات في مخيمات النزوح التي تمت زيارتها بعد “الإبادة”، قائلاً إن عملية عقد القران كانت تتم على يد رجال دين من دون أي مظاهر لمراسم الزواج.ولاحقاً يتم تسجيل الزواج في الأوراق الرسمية في المحاكم.
“كان يحدث كلّ شيء خلال ساعات، وتنتقل الفتاة القاصرة من خيمة عائلتها إلى خيمة زوجها المجاورة”.
هكذا تزوّجت أميرة في أيلول/ سبتمبر 2014، حين كانت في السادسة عشرة، وهاجر زوجها إلى ألمانيا بعد أسابيع من الزواج. تقول: “لم يحصل على لجوءٍ بعد، منذ أكثر من ثلاث سنوات أنا انتظره وربما سيتطلب الأمر سنوات أخرى قبل أن ألحق به… حقيقة لا أعرف أي معنى لزواجي، وأخشى أن يتزوج بأخرى… الحمد لله أنني لم أرزق بطفل كصديقتي، كان الأمر سيصبح كارثياً”.
مخاطر صحية
الزيجات الإجبارية تحت ذريعة الفقر والخوف والظروف الطارئة أو المساومات المالية، تعاني في الغالب من التفكك بغياب الانسجام بين الزوحين، وتظل مهددة بالانهيار بخاصة في ظل الانفتاح الاجتماعي. “إنها منبع للمشكلات الاجتماعية، وإذا كان هناك أطفال فان الأمر يصبح أكثر تعقيداً، فهؤلاء كما أهلهم يتحولون إلى ضحايا، فضلاً عن الكثير من المشكلات الصحية”، تقول الباحثة الاجتماعية ابتهال جاسم.
وترى جاسم أن خط حياة زواج القاصر يظل مضطرباً تغلفه المعاناة ويهدده الطلاق، بخاصة في حال كون الزوج مسناً “المشكلات بسبب عدم التكافؤ تظهر سريعاً، فالزوجة القاصرة لا تفهم مسؤوليات الزواج كونها لا تزال تعيش بعقل طفولي غير ناضج، وإذا ما تقبلت الزوجة حياتها وتحملت تلك المشكلات وتجاوزتها، فإنها تجد نفسها بعد نضوجها برفقة زوج مسن لا يلبي احتياجاتها كزوجة شابة ولا يفهم تصرفاتها كفتاة في مقتبل العمر”.
لا تقتصر النتائج السلبية لزواج القاصرات على الجوانب الاجتماعية، وإنما قد تظهر مشكلات صحية عند الزوجة، مثل تمزق الرحم واختناق الجنين بسبب انخفاض ضغط الدم، بحسب الدكتورة النسائية سمية محمد.
وتنبه محمد إلى أن بنية الكثير من الفتيات قبل بلوغ الـ18 سنة “غير مهيئة للزواج أو الحمل، لذلك تتعرض الزوجة القاصرة إلى الكثير من المشكلات التي قد تؤدي إلى وفاتها أو وفاة الجنين في بعض الحالات”، مؤكدة أن مستشفيات الولادة تشهد الكثير من هذه الحالات التي يتم إخفاؤها بسبب العادات والتقاليد.
ولا تقتصر المخاطر على فترة الولادة “إذا نجت الأم والطفل، فإن هناك احتمالاً كبيراً لتعرض الطفل إلى مشكلات صحية في المستقبل لعدم حصوله على حاضنة مكتملة في فترة الحمل”.
وتحذّر المنظمات المعنية بقضايا المرأة من أن «النساء بين الـ15 إلى 18 سنة، هنّ أكثر عرضة للوفاة أثناء الحمل أو الولادة بمرتين بالقياس إلى النساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 20 و24 سنة»، مبينة أن حمل القاصرات هي قضية تتقاطع مع تنمية قدرات المرأة وشخصيتها بسبب الانقطاع المبكر عن التعليم وانعدام فرص كسب المؤهلات الأساسية للعمل بالنسبة إلى الأمهات الشابات.
اليافعات المُطَلَّقات
تقول ليلى حسن، وهي ناشطة مدنية مهتمة بحقوق الأطفال، إن قصص الفتيات الصغيرات اللواتي يعشن مع معاناتهن بصمت أو يواجهن الطلاق أو حتى يقدمن على الانتحار، تسمعها في كل مكان، فعقب عقود من العنف وتراجع التعليم واستمرار معدلات الفقر العالية أصبح الزواج المبكر ظاهرة ومعها تصاعدت معدلات الطلاق التي تمثل بحد ذاتها مشكلة كبيرة في ظل تقاليد اجتماعية قاسية وغياب للاستقلالية الاقتصادية، يصعب معها على المُطَلَّقة “الفوز بفرصة زواج ثانية” أو بناء حياة مستقرة، ما يحولّها إلى أسيرة في المنزل وخادمة لأخوتها.
وكان مجلس القضاء الأعلى قد أعلن أن حالات الطلاق المثبتة في المحاكم خلال 2017 تجاوزت 70 ألفاً، مقابل 321 ألف حالة زواج (نحو 22 في المئة) عدا محافظات الإقليم، وبواقع 195 حالة طلاق يومياً، بينما كانت عام 2015 نحو 52 ألفاً وعام 2016، 56 ألفاً. وتفيد السلطة القضائية الاتحادية بأن الأرقام تتصاعد منذ 2014 وأغلب حالات الطلاق تحدث خارج المحاكم.
وتمّ بين 2004 ونهاية 2017 تسجيل نحو 695 ألف حالة طلاق. وسُجّلت نحو 517 ألف حالة خلال الأعوام من 2004 – 2014، في وقت كان مجموع حالات الزواج خلال المدّة ذاتها، نحو 2 مليون و624 ألف حالة، ما يعني أن حوالي 20 في المئة من هذه الزيجات انتهت بالطلاق.
ويؤكّد محامون يتابعون دعاوى طلاق أن أكثر من نصف حالات الطلاق تحدث بين القاصرين ومن هم في العشرينات. يقول المحامي قيس يحيى الذي يتلقّى مكتبه أسبوعياً الكثير من دعاوى الطلاق “بين كل 10 دعاوى طلاق تجد 6 منها لمن هم في العشرينات أو من القاصرين”. وينقل محامون أرقاماً متقاربة، فيما تكتفي المنظمات المعنية بحقوق النساء بتأكيد تصاعد معدلات زواج القاصرات، من دون إعطاء معدّلات محددة.
ولا تُعطي الأجهزة الحكومية أرقاماً بنسب القاصرات المطلقات من مجموع المطلقات، لكن وفق إحصاء رسمي، فإن محاكم الأحوال الشخصية في محافظة بابل، وسط العراق، شهدت تسجيل 12662 طلاقاً للفئات بين 15 و30 سنة، مقابل 89878 زواجاً خلال الأعوام الأربعة الأخيرة.
واعتماداً على مخرجات دراساتٍ بحثية من جامعة بغداد وأخرى ميدانية عن حالات الطلاق، اطّلع عليها معدّ التحقيق، فإن أحد أبرز أسبابها يعود إلى الزواج المبكر.
يرى الناشط المدني علي عادلان أن مشكلة زواج القاصرات ستظل قائمة وتتعقد أكثر، ما لم تتخذ إجراءات رادعة بحق كل من يساهم في تسهيل ذلك النوع من الزواج، سواء من الأهل أو رجال الدين.
عادل يحدّد شرطاً أساسياً لوقف الظاهرة المتسعة ويتمثل “بمعالجة الثغرات في قانون الأحوال الشخصية الحالي، وإقرار البرلمان تشريعات رادعة بحق كل من يساعد على عقد هكذا زيجات”، معتبراً أن ذلك يشكل الخطوة الأولى لحل هذه المشكلة، أما المضي بالاتجاه المعاكس فسيحمل نتائج كارثية تؤثر في استقرار المجتمع.
إلى جانب ذلك، تدعو الإعلامية انسجام الغراوي إلى إصدار فتوى دينية من مرجع معتمد “بعدم جواز هكذا نوع من الزيجات، وتحريمها”، مشددة على أهمية ذلك بسبب التأثير الحاسم للعامل الديني.
وتطالب الناشطة إلهام عبدالله بإيقاف عمل المكاتب المختصة بتنظيم عقود الزواج خارج المحاكم، كونها تسهل زواج القاصرات، مشيرة إلى رصد حالات لفتيات زوجن أكثر من مرة قبل أن يبلغن الثامنة عشرة، ما يحول بعض الزيجات إلى نوع من الاتجار بالبشر.
هدى التي حُرِمَت من طفولتها تجلس كلّ مساء أمام باب خيمتها مع طفلتها، بعيدا من النساء الأخريات، وهي تنظر إلى المكان الذي كان يجمعها قبل عام ونصف العام مع زميلتها هند التي انقطعت أخبارها مجدّداً عقب عودتها إلى زوجها. تقول: “حياتي انتهت… كل ما أتمناه تأمين حياة أفضل لابنتي من تلك التي عشتها، وأن تتغير القوانين التي تتيح لعوائل الطفلات تزويجهن وتقرير مصيرهن إلى الأبد”.
أنجز التحقيق بدعم من الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية (نيريج) وتحت إشراف دلوفان برواري.