وكالات- طوال الساعات الماضية اشتعل نقاشٌ حاد بين سوريين على تويتر وفيسبوك بعد تداول مقطعي فيديو قصيرين – الأطول منهما لا يتجاوز 70 ثانية – تظهر في أحدهما جثةٌ مدماة ومشوّهة لمقاتلة كردية قرب مدينة عفرين شمال سوريا.
يظهر الفيديو الأول امرأة ملقاة على الأرض تبدو مرتدية ثيابها وهي محاطة بمسلحين يصرخون ويصفونها بـ “خنزيرة PKK (حزب العمال الكردستاني)”، ويقولون إنهم ينتقمون لمن قتل سابقا من رفاقهم، في حين يظهر جسد مرأة – يعتقد أنها ذاتها التي ظهرت في الفيديو الأول – في الفيديو الثاني عاريا في النصف الأعلى ومضرجا بالدماء، ويدعس أحد الرجال عليها وتحديدا على منطقة الصدر. كما يظهر غصن شجرة زيتون ملقى على جثة المرأة.
عرّفت مصادر كردية محلية المرأة بـ “بارين كوباني”. وكان رد الفعل الكردي متوقعا؛ حيث نعاها كثير من الأكراد على وسائل التواصل الاجتماعي مطلقين عليها لقب “بطلة” و”شهيدة” و”قديسة”.
“حلوة يا زلمي”… عبارةٌ سمعناها في خلفيّة الفيديو الذي أظهر جثة المقاتلة الكردية بارين كوباني وقد تمّت تعريتها والتمثيل بها على أيدي عناصر من الجيش الحر المدعوم من تركيا، بعد سقوطها خلال المواجهات معهم على أطراف بلدة عفرين.
“حلوة يا زلمي”… كيف يمكن لعبارة مقتضبة كتلك أن تختصر كلّ وحشيّة العالم؟ وكيف لها أن تضعنا بمواجهة كل ما قد تسوّله الذكورية الجوفاء لنفسها من انحطاط وشراسة، إذا ما شعرت بالإهانة لمجرّد أن واجهتها امرأة؟
بارين حلوة حقاً.. فيها سحر كل ما سمعناه عن جرأة المقاتلات الكرديات وبسالتهن، وفي موتها أكثر من قتل خصم في صراع سياسي أو إثني، بل فظاعة التمثيل بجثة لمجرّد أنها لامرأة تجرأت على تهديد السلطة الذكورية بصفتها ندّاً.
في لحظة يعدّها القاتل نصراً تخرج عبارة “حلوة يا زلمي” كالقيء، بينما يحرّك أحدهم رجله فوق النهد المقطوع. فهل هو اشتهاء لذلك الجسد حتى بعد أن قطع ورفاقه نهديه ومثّلوا به أم تشفٍ أم الاثنين معاً؟
يردّد آخر “في وحدة تانية”، بينما الكاميرا تستمر بالتركيز على جسد بارين خلال 14 ثانية بدت اختصاراً لكل سنوات المأساة السورية، العربيّة والكردية، التي تحوّل فيها جسد المرأة إلى أداة إذلال وتفتيت وتشويه.
وإن يكن فيديو بارين التجلي الأعظم لمأساة الثقافة التي تفرّغ ذكوريتها في الجسد النسائي المخيف والخائف في آن، إلا أنه ليس الوحيد.
التعليقات الواردة في أسفل الفيديو حملت بمعظمها ردوداً طالت نساء الطرف الآخر. كثر من الغاضبين لمقتل بارين لم يجدوا رداً سوى استحضار الأمهات والأخوات والزوجات من الجهة المقابلة لـ”التفظيع بهن” وبمواطن جسدهن الحميمة.
وتركّز الجدل حول ما إذا كانت المقاتلة قد فجرت نفسها ما أدى إلى تشويه جسدها، أم أن رجالا من فصائل المعارضة المسلحة قاموا بقطع ثدييها والتمثيل بها.
لكن صباح حلاق، وهي من رابطة النساء السوريات، تقول لبي بي سي إن النقاش يجب أن يكون أبعد من طريقة تشويه جسد المقاتلة. وتقول: “أعتقد أن وضع الصورة ذاتها أكبر غلط ارتكبوه.. عرض الصور يثير الأحقاد. حتى لو كانت مقاتلة، إن عرض الجسد بهذه الطريقة ووجود قدم على الثدي فيه مسأله فاقت الوحشية والهمجية التي وصل لها الناس. وللأسف هناك من يشجع هذا العمل”.
وفي اتصال مع بي بي سي، أكد أحمد بريمو، مؤسس موقع “تأكد” المتخصص بنفي المواد الإخبارية الخاطئة وتصحيحها، أن من تظهر في الفيديو هي مقاتلة كردية، وأن المقاتلين حولها هم من عناصر المعارضة السورية المشاركة في عملية “غصن الزيتون” التي تقودها تركيا. لكنه قال إنه لا يستطيع تحديد يوم الواقعة التي “حدثت منذ أيام قليلة في محيط مدينة عفرين”.
وقال: “الفيديو مؤكد، لكن نقطة الخلاف هي سبب تشوه جثة المقاتلة؛ حيث يتهم كثر مسلحي المعارضة بالتمثيل بجثة المقاتلة وتشويه ثدييها. لقد تواصلت مع غرفة عمليات غضن الزيتون من الجانب السوري والتي نفت قيام عناصرها بالتمثيل بالجثة وتقطيع الأوصال، كما قالت المصادر لي إن المقاتلة هي من قامت بتفجير نفسها بواسطة قنبلة يدوية كانت معلقة على سترتها العسكرية”.
لكن نواف خليل، مدير المركز الكردي للدراسات بألمانيا والمتحدث السابق باسم حزب الاتحاد الديمقراطي، نفى لبي بي سي المزاعم بأن المقاتلة قامت بتفجير نفسها وقال إنها كانت قد وقعت بيد قوات المعارضة. وقال إن تلك المزاعم “محاولة لتغطية” ما حدث.
وأضاف: “ما يشاهده العالم أجمع (في المقطع) مقاتلة تقع أسيرة بيد هذه القوات ويتم التمثيل بجسدها بطريقة بشعة (..) لا توجد في العقيدة القتالية لقوات سوريا الديمقراطية عمليات انتحارية. الذين يقولون إنها قامت بتفجير نفسها يحاولون التغطية على الإجراء الذي قام به تلك العناصر المسلحة. التمثيل بالجثة واضح والكلام المبتذل الذي يمكن سماعه في المقطع يثبت ذلك”.
الجسد… حلبة صراع
تظهر روايات الحروب، منذ الحرب العالمية الأولى وصولاً إلى سوريا، أن الاغتصاب ليس مجرّد رغبة جسدية جامحة، بقدر ما هو غضب تجاه الآخر وفعل عدائي، يسعى فيه المغتصب لتحقير العدو ومحو إنسانيته، إرضاء لشعوره بالتفوق تجاه الأضعف منه.
وإن شكلت المقاتلة الكردية حالة استفزازية للرجل، إلا أن الاغتصاب طال نساء سوريات كثيرات بعضهن متظاهرات، ناشطات ومناضلات، لكن أغلبهن لم يكن ذنبهن سوى أنهن ولدن نساء.
لم يكن استخدام الاغتصاب كأداة حرب موجهاً حكراً ضد نساء، فضحاياه كانوا رجالاً وأطفالاً من مختلف الأعمار. لكن الثقافة العربية التي تُعلي من “عفّة” المرأة وطهارتها وتربط شرف الرجل وذكورته بهما، جعلت جسدها “السلاح المثالي” لتهويل المجتمع وتحقير رجاله، ومن ثم تفتيته عبر إغراقه في حالة من العار دفعت كثراً من النساء إلى دائرة الانتحار أو القتل للاغتسال منه.
قبل مدة، عرضت قناة “فرانس 2” الفرنسية وثاقي “سوريا: الصرخة المخنوقة” للمخرجة مانون لوازو. يقوم الوثائقي، الذي حوّل ما سمعناه من قصص اغتصاب لنساء في السجون وعند نقاط التفتيش وفي المنازل إلى أسماء ووجوه، على شهادات الضحايا من دون أي مؤثرات. وتختصر الشهادات كل أشكال الاغتصاب وتبعاته.
يقولون إن “الاغتصاب جريمة كاملة”، إذ يتحقق القتل من دون أن نرى الجثة. وهكذا نسمع من ضحايا “روحي انفصلت عن جسمي” و”أنا جسد بس، ما بقى فيي روح”.
لا يمكن إنكار أن تحويل المرأة إلى “أداة حرب” ليس حكراً على سوريا والعالم العربي، لكن الثقافة السائدة في المنطقة العربية جعلت من الصعوبة فصل الاغتصاب في الحروب عن ثقافة اجتماعية ودينية سابقة عزّزت قابلية “الرجل” على ارتكاب هذا الفعل… وتبريره.