ناتالي فارغيت/independentarabia- قبل فيلم “شابة واعدة” كان هناك “انتقام”، و”أم أف إي”، و”قصاص”. أنابيل ناغينت تحادث عدداً من المخرجات منهن كورالي فارغيت، ناتالي لاييت، وأليس لوي، عن الاغتصاب وتنفيس الغضب والعدالة الذاتية.
يولد الانتقام من شعور عدم الثقة تجاه الأنظمة التي يفترض أنها وضعت لإرساء العدالة. وهو شعور مبرر ومشروع بالنسبة لكثيرين. والأمر في السينما وعلى الشاشات يترجم في أشخاص يدفعهم التوق لتحقيق العدالة الذاتية إلى الخوض عميقاً في الدماء، سعياً بطرقهم الخاصة، لإنزال القصاص بمن يستحقه من وجهة نظرهم.
وفيلم “شابة واعدة” Promising Young Woman الذي رشح لجائزة “أوسكار”، يعد الأحدث ضمن هذا النمط من الأفلام المستندة إلى موضوعة الإنتقام، وهو لاقى ثناء النقاد لنجاحه سينمائياً في تصحيح الأخطاء التي طالما ارتكبت في إطار النوع الفني لأفلام الانتقام.
الفيلم يمثل العمل الإخراجي الأول لـ “إميرالد فينيل”، تؤدي بطولته كاري موليغان، الفتاة ذات أحمر الشفاه اللامع وماضغة العلكة والمنتقمة لأوفى صديقاتها، وهو يأتي مندرجاً ضمن موجة أفلام الانتقام لـ “جرائم الاغتصاب”. إذ إن هذه القصص غدت اليوم أكثر من أي وقت مضى، وجيهة وحاضرة بالتوازي مع مثابرة حركة “#مي تو” #MeToo (حركة #أنا أيضاً، الحقوقية النسوية) في تحريك الرأي العام ودفعه للتفكير بالاعتداءات الجنسية وبالغياب الصارخ للعدالة من أجل معاقبة المعتدين والمرتكبين.
وهذا طبعاً لا يشكّل نوعاً فنياً جديداً، إذ طالما استخدمت موضوعة الاغتصاب كموضوعة سينمائية (ثيمة)، وهي تاريخياً مثلت ضوءاً أخضر (ذريعة) لشخصيات على الشاشة لعب دورها رجال، كي تقتلع عيون وتبتر أعضاء تناسلية، من دون أن يتعدى ذلك الإطار السامي للأخلاق كون تلك الشخصيات تنتقم لضحية مظلومة، وذاك ينطبق في الآن ذاته على أفلام تافهة بخسة، مثل “تايكن” Taken، وعلى تحف فنية عالية المستوى (“ربيع العذراء” The Virgin Spring لإنغمار بيرغمان، و”الباحثون” The Searchers لجون فورد، اللذان يتمحوران حول انتقام أب بالوكالة. لكن خلال السنوات القليلة الماضية فإن تلك السرديات التي يستحضر أغلبها قصص رجال ينتقمون لأحباء لهم، واجهت انتقادات لاذعة تتهمها بالعداء للنسوية وللنساء بطبيعة الحال، وذاك مهد الطريق لشخصيات نسائية كي تتصدّر المشهد.
وربما يمكن اعتبار فيلم “شابة واعدة” العمل الأحدث والأبرز من أفلام هذه الموجة الجديدة، التي تتضمن قصص انتقام مشوقة تلعب بطولتها نساء. إلا أن هذا الفيلم لا يأتي مختلفاً على مستوى سرديته التي تعود إلى عقود، وإن دققنا بما ظهر وأنتج من أعمال خلال السنوات القليلة الماضية سنجد عدداً كبيراً من النساء المخرجات اللواتي بادرن استثنائياً إلى اعتماد هذا النوع “القذر” من الأفلام الذي سبق وهيمن عليه مخرجون رجال، وقمن باستخلاص نتائج جديدة من هذا النوع الفني المذكور، وساجلن، ضمنه أيضاً، في مسائل وقضايا مستجدة.
وقبل “شابة واعدة” كان جاء فيلم “انتقام” Revenge، إذ إن فيلم التشويق الفرنسي الذي أخرجته كورالي فارغيت، والحامل عنواناً مطابقاً لثيمته، أطلق سنة 2017، أي قبل حركة “#مي تو” #MeToo وقبل شهر واحد من نشر الاتهامات بحق هارفي وينشتاين. وعن توقيت إطلاق فيلمها “انتقام” Revenge تقول فارغيت، عبر محادثة هاتفية من باريس، “كان توقيتاً غريباً، بيد أنه لم يأت صدفة. أعتقد أنني من دون وعي تأثرت بالأحاديث والنقاشات الدائرة آنذاك”. وفارغيت، بفيلمها الروائي الأول هذا، تسائل بمهارة وعمق النوع الفني الذي اختارته، فتمضغ استعاراته الممجوجة قبل أن تعود وتبصقها ملتوية ومحورة، في كل المواضع الخاطئة أو بالأحرى المُحكمة.
تتوالى المشاهد الأولى للفيلم (انتقام) وكأنها مقاطع من إعلان عطر مبتذل. ويظهر “ريتشارد” (كيفن يانسينس) وهو في طريقه لقضاء عطلة نهاية أسبوع ممتعة في الصحراء مع عشيقته جين التي تصغره في السن، والتي تؤدي دورها الهائلة ماتيلدا لوتز. والعشيقة (جين) تبدو أشبه بلعبة “باربي” متحركة نادراً ما تتكلم، وفي فمها مصاصة سكاكر تلهو بتكاسل بها وهي جالسة في مقعد خلفي بطائرة مروحية، وتلاحق الكاميرا جسد جين على نحو هوسي، فتركز عدسة فارغيت من مسافة لصيقة على مؤخرتها وبطنها وفمها. ومن الواضح جداً أن ذاك يسخر ويتهكم طريقة تصوير أجساد النساء في أفلام الرعب، أجساد مشدودة ومتألقة دوماً، حتى وهي ترتعد من الخوف أو تغرق بالدماء. ولغاية ذلك الوقت يبقى الفيلم شديد النمطية، بيد أن الخيال المراهق سرعان ما ينقلب كابوساً حين يصل أصدقاء ريتشارد الصيادون إلى الفيلا. وبعد إقدام أحد أصدقاء ريتشارد أولئك على اغتصاب جين، يقوم الأصدقاء الثلاثة معاً بمطاردتها في الغابة، فيلقونها من مرتفع ويخوزقونها بغصن شجرة، ويتركونها للموت، بيد أنها لا تموت. وحين تنهض جين وتتعافى ساعية للانتقام، تقوم فارغيت بقلب كاميرتها وتحويل وجهتها، إذ يغدو الرجال أهدافاً في مرمى “سلاح” جين.
وعلى الرغم من التزام فيلم “انتقام” Revenge بنوعه الفني، إلا أنه لا يبقى مجرد فيلم واقعي حرْفي، إذ إنه في هذا الإطار يصلح في أن يكون نموذجاً عملانياً لصف دراسات سينمائية، فهناك نظارات ريتشارد الشمسية العاكسة التي تحيل إلى نظرة الذكر، وتستحضرها تلك الإحالة والرسالة التي سيوغل الفيلم في مقارعتها عبر ما سيأتي من عمليات اقتلاع عيون. وثمة في السياق أسطورة الفينيق (رمز الانبعاث) الذي يظهر موسوماً على بطن جين، ومصدره رمز علبة بيرة تستخدمها لكي جلدها. على أن النمطية في إطار الفيلم ليست غايته على الإطلاق. وتقول المخرجة في السياق، “أنا في الواقع أفكر بأسلوب الرموز. ويكاد ألا يحوي الفيلم أي حوار، لذا كان على كل عنصر بصري أن يتمتع بمعنى ضمني قوي”. كما أن النوع الفني بذاته في هذا الفيلم ينحو نحو الرمزية والمشهدية.
وعن هذا تذكر المخرجة، “ينبغي ألا تفهم أفلام الانتقام فهماً حرفياً”. ولذا، عملت فارغيت، وقبل شروعها في كتابة “انتقام”، على تجميع صور وأغنيات كي تؤلف بها نبرة الفيلم وترسم مساره.
من جهة أخرى، على نحو مشابه، وخلال عملية اختبار الممثلين لفيلم “شابة واعدة”، الفيلم الآخر التي تهيمن عليه السلبية، قامت المخرجة إميرالد فينيل بإرسال النص إلى الممثلة كاري موليغان مع ملحق تكميلي للموسيقى والأجواء المرافقة. وتقول فاغيت عن الأمر “هذه الصور الأيقونية تعني كثيراً”. تتابع، “وقد لا يقوم الجمهور بتحليلها بالضرورة، لكنه سوف يتلقاها بطريقة عاطفية”.
ويمكن القول إن الواقعية لم تمثل هماً من هموم المخرجة فارغيت. وعن ذلك تذكر “أردت أن أنحو نحو العناصر الغرائبية فأتمكن من تحرير نفسي من القواعد، وأصور فيلماً بالطريقة التي طالما اهتتمت بالتصوير بها”. وتتحدث فارغيت في السياق عن مشهد تحول جين كمثال على ذلك، إذ بعد أن تقوم جين بالتخلص من خازوق التعذيب “تغدو مثل بطلة خارقة قادرة على السير في الصحراء حافية القدمين ومتجاوزة الخوف”. وبذلك يبدو “انتقام” ضمن هذا المنحى أشبه بأفلام “الأبطال الخارقين”، مذكرًا بفيلم كوينتين تارانتينو “أقتل بيل” Kill Bill ذي الأسلوب الخاص جداً. كما يتوسع في هذا الإطار تحرر فارغيت من الواقعية، فيصيب تحررها ذاك العنف الذي يضمه الفيلم، العنف الذي يأتي مكثفاً وشنيعاً وبالغ الدموية. وعن هذا تقول لي “أردت استخدام عنفاً مفرطاً”، لكن المهم هنا أن العنف المرتكب في الفيلم لا يتمثل بعنف الاغتصاب، إذ تتوجه كاميرا فارغيت في أثناء الاعتداء الجنسي إلى صديق ريتشارد الآخر الذي يشاهد التلفزيون، فيما يبقى صوت جين الصارخ في الخلفية، وذاك يلمح إلى عنف مسهلي الجرائم الجنسية عبر تواطؤهم.
وعن هذا تقول، “لم أشأ أن يكون الأمر بمثابة بورنو تعذيب فيلم إباحي عن عملية تعذيب، حيث تبدو جين في السياق ملكة صرخات”، بل إن ما يتجلى على حساب الأمور النمطية المذكورة، هي وحشية الفيلم المعبر عنها في جروح جين وبالأفعال الرهيبة التي تقدم عليها، وبالتعابير الجسمانية المؤبدة لصدمة الاعتداء الجنسي. وتقول فارغيت في هذا الصدد “لم أحتاج إلى أن يكون العنف واقعياً على نحو كامل، فهو حالة لتنفيس الضغائن والأحقاد، وضرب من السخط والغضب اللذين يتبديان في النهاية، إذ يمكنك في الأفلام ذات المنحى الخاص، بلوغ أمكنة لا تذهبين إليها عادة في الحياة الواقعية”.
و”تنفيس الغضب” أو تنفيس الضغائن وتصريفها، تمثل عبارة ترِد كثيراً، إذ يجري الدفاع عن أفلام الانتقام أمام النقد الذي يوجه إلى عنفها المجاني و”لا واقعيتها”، وهل يمكن في الحقيقة لامرأة لا يتجاوز طولها الـ “5 أقدام و3إنش” التغلب على الفعل المشؤوم الذي وقع عليها؟ وهل فعلًا كان لجين ذاك الهدف المحدد حين قامت للمرة الأولى بالضغط على الزناد؟
مقابل هذا، وإزاء “تنفيس الضغائن” الذي تتحدث عنه فارغيت، والذي يبدو تنفيساً أكثر عمومية، أو إصبعاً وسطياً مزداناً بطلاء أظافر أحمر ومرفوعًا في وجه ثقافة الاغتصاب، فإن المخرجة ناتالي لاييت المقيمة في لوس أنجليس اعتمدت مقاربة ذات أبعاد شخصية وأشد إيلاماً، فجاء فيلمها التشويقي “أم أف إي” MFA، المنجز سنة 2017، ليسلك دروباً مختلفة ويقود إلى تأثيرات مماثلة، إذ بعد حادثة الموت المفاجئ لمغتصبها تنطلق طالبة الفن “نويل” (فرانسيسكا إيستوود) في رحلة خطرة سعياً إلى تحقيق العدالة لنفسها كما لغيرها من الناجيات من الاعتداءات الجنسية. وتبنى تفاصيل الفيلم استناداً إلى ما خبِرته المخرجة بنفسها من اعتداء جنسي في كلية للفنون كانت تدرس بها. ومثل نويل، تبدو إيستوود بذاك الشعر الأسود والأهداب الكثيفة، التي أعاينها في لاييت خلال مكالماتنا عبر “زوم”. وكانت إيستوود أيضاً خلال التصوير ارتدت ثياب المخرجة (لاييت) من أيام الجامعة. وفي المشاهد التي تصور نويل وهي ترسم، فإن يد لاييت هي من كان يؤدي الرسم ويظهر على الشاشة. وعن تصوير الفيلم الذي أنجز وعرض قبل سنوات أربع تقول لاييت، “شعرت بأنه كان فعلاً تطهرياً شديد الأثر العاطفي”.
وتذكر لاييت في هذا الإطار أن تصوير مشهد الاغتصاب كان مؤلماً على نحو خاص، بيد أن المخرجة كان لديها فكرة واضحة عما أرادت إظهاره في المشهد، أو بالأحرى عما لم ترد إظهاره. وعن ذلك تقول بشيء من الألم، “معظم أفلام الانتقام اتبعت الصيغة ذاتها، إذ إن مشاهد الاغتصاب بدت دائماً مجانية بعض الشيء، وأعتقد أن هذا في جزء منه مرده إلى أننا نشاهد الرجل وهو يشرع في الاعتداء، ونرى الكثير من الاندفاع، وذاك يستحضر البورنو”. تتابع، “وأنا تملكني شعور من قبيل التأفف، أحدهم سوف يثار فيما يشاهد هذا”. بيد أن “أم أف إي” يظهر اختلافاً عن هذه الأفلام عبر سلسلة من الخيارات الهادفة. ويجري عرض مشهد الاغتصاب، غير أن لاييت تقاوم ميل النوع الفني لهذه الأفلام إلى إظهار تفاصيل العنف الجنسي وتصاويره، وبدل القيام بهذا الأمر تبقى كاميرا لاييت مركزة على وجه نويل. إذ “إننا فقط نشاهد وجهها ونعاين من خلال هذا الوجه العذاب الذي تمر به”.
في السياق ذاته يمكن مقارنة “أم أف إي” بفيلم آخر، هو “أبصق على قبرك” I Spit on Your Grave. فهذا الأخير يمثل فيلماً بالغ العنف من سنة 1978 للمخرج مائير زارتشي (أعيد إنتاج نسخة مريعة منه سنة 2010) يروي قصة كاتبة تنتقم، في عملية ثأر إثر أخرى، من أفراد مجموعة غرباء قاموا باغتصابها. واعتبر “أبصق على قبرك” “النموذج الأساسي” لذاك النمط من القصص. ويبدو مشهد الاغتصاب المديد فيه، الذي يكاد يكون احتفالًا بالسادية، وكأنه دعوة للمشاهدين إلى عرض عنف جنسي تفصيلي، وذلك على الرغم من شجبه تلك الأفعال.
ولاييت في المقابل (فيلم “أم أف إي”) أرادت أن تعيد تصويب فكرة الناس عن مظهر المغتصب وهيئته. عن هذا الأمر تقول “إنه (المغتصب) ليس ذلك الرجل النمطي الذي يجوب المتنزهات في الليل كي يلقي القبض عليكِ، كما أنه ليس بالضرورة ذاك الشاب الذي يفرط بشرب الكحول والسكر في الحفلات. بل هو ربما شخص تغرمين به، وطالب في كلية فنون وحساس”. ومهمة كسر هذان القالب والنمط، تمثل مهمة تولاها أيضاً فيلم “شابة واعدة” وقطع شوطاً في سياقها، إذ إن نتائج تجارب الأداء التي قامت بها إميرالد فينيل (مخرجة الفيلم) لاختيار ممثل من أوساط لاعبي كرة سلة دمثين، كي يؤدي دور المغتصب في الفيلم، جاءت لترضي توقعات الجمهور على نحو كبير. فقد ركزت فينيل على إظهار الملامح والمواصفات الشائعة طوال عقود لـ “الشاب اللطيف”. وبالتأكيد، في هذا الإطار، فإن “سيث” من مسلسل “ذا أو سي” The OC كان سيرفض أداء هذا الدور. كان سيرفضه بالتأكيد (“سيث إزيكيل كوهين” هو شخصية درامية من “ذا أو سي”، المسلسل التلفزيوني الأميركي المخصص للمراهقين، الذي عرض بين 2003 و2007 على شبكة فوكس Fox).
وكانت موجة قصص الانتقام التي تؤدي بطولتها نساء تناولت بجدية أيضاً عمليات الاغتصاب التي يرتكبها معارف وأقربون، أي عندما يكون المعتدي شخص تعرفه الضحية، وذلك في وقت لم يكن هذا الموضوع مطروحاً في العلن. وعن ذلك تقول لاييت “يبدو الأمر مثيراً للسخرية اليوم، أليس كذلك؟ مذهل كم يمكن للحوار الثقافي أن يتبدل في سنوات قليلة”. كذلك، فإن فيلم “أم أف إي” يمثل أحد أول السياقات التي سمعت فيها جملاً غدت بسرعة شارات حمراء (عبارات مفارقة) في ثقافة الاغتصاب. “هل أنت متأكدة من أنك قلتِ لا، وهو سمعك؟” إداري في الجامعة يسأل نويل. “كم عليكِ أن تشربي كحولاً؟”
من جهة أخرى، لاقى فيلم “شابة واعدة” ترحيبًا كبيراً ورشح لأربع جوائز أوسكار لما قام به عموماً من اختراق حاد في سياق نوع أفلام الانتقام وثقافة الاغتصاب. لكن قبل أربع سنوات، وضمن المشهد العام السابق لحركة “#مي تو” #MeToo الذي أطلق فيلم لاييت (“أم أف إي”) في ظله، كان ثمة دعوات مرفوعة لـ “كره الرجال”. لكن، وفيما كان ليام نيسون حراً في التجوال أينما يشاء وفي قتل الأشرار من دون تشويه صورته في أعين معجبيه، فإن التسامح ذاك لم يشمل الشخصيات النسائية، لذا فإن اختبار الميل إلى التعاطف جاء ليمثل موضوعة مهمة بالنسبة لـ أليس لوي، التي قامت بالذهاب فيه (ميل التعاطف) إلى حده الأقصى، في فيلمها “قصاص” Prevenge سنة 2016، إذ إن الفيلم السوداوي والمشاغب والساخر هذا، الذي كتبته لوي وأخرجته وأدت فيه دور البطولة، يصور روث الحامل، التي كانت في مرحلة متقدمة ومتثاقلة من حملها وهي تنزل في ملجأ اختباء وتقتل أشخاصاً بإيعاز، على ما يبدو من جنينها الشرير. في البداية تبدو فورة جرائم روث كأنها جزء من حملة نسوية، أو ربما عمليات انتقام لاعتداء وقع، وذاك أمر يدركه الجمهور في سياق مشاهدته الفيلم، لكن لوي تقوم إذاك بسحب البساط من تحت أقدامنا، فتتركنا كي نشاهد القاتلة تقوم بعمليات القتل، ولا شيء آخر. وعن هذا تخبرني لوي خلال محادثة هاتفية “أردت اللعب مع الجمهور، فأستكشف إلى أي حد يمكنني إبقاؤه وفياً ومتعاطفاً تجاه هذه الشخصية. وأردت ألا يؤثر في هذا الأمر حقيقة أنها حامل أو مفجوعة. وذاك مَخرج سهل لأي جمهور”.
وعلى الرغم من عدم ظهور أي اعتداء جنسي أو هدف نسوي في قلب دوافع روث الاقتصاصية، فإن “قصاص” Prevenge يأتي كانتقام من المجتمع، وفق ما تخبرني لوي. إذ إنه “انبثق من انزعاج عام وغضب تجاه كيفية تصنيف النساء بحسب مظهرهن أو بحسب الصورة التي يظهرن عليها”. بالنسبة لها (روث بطلة الفيلم)، فإن ذلك “المظهر” كان بطناً حاملاً بالغ الضخامة. وهنا ثمة توقعات تأتي من أن تكون المرأة أُماً أو لا تكون. وتقوم شخصية روث بأخذ هذه التوقعات لتحيلها إلى أسلحة وتشهرها بإحكام في وجه أولئك الأشخاص المدرجين في لائحتها. “إنها ذريعة، وبطريقة ما، ضرب من التمويه. وذاك يباغت الناس ويفاجئهم لأنهم يظنون بأنها ستكون ضعيفة، وهم يخافون أذيتها، وذاك يمنح روث طبقة إضافية من الحماية”، تشرح لوي عن بطلتها، وهي (لوي) حين كانت تصور الفيلم كان يفصلها شهر واحد فقط عن موعد إنجابها طفلها.
استكمالًا، وفيما لا تعد حالة الحمل زياً للتنكر، إلا أن فكرة التلاعب بالتوقعات تمثل في الواقع “فكرة مقدسة” (فكرة أثيرة تعتمد دائماً) في قصص الانتقام التي تؤدي بطولتها نساء. وفي “شابة واعدة” تبدو كاسي بقميصها الزهري المجعلك، وشعرها الأشقر الجعد، وحلية القلب التي ترتديها، لتوحي بشخصية تهكمية، محصنة، وعديمة الرحمة. وتمامًا كما تتكئ شخصية روث التي ابتكرتها لوي على الأفكار المسبقة تجاه النساء الحوامل، باعتبارهن ضعيفات، تقوم كاسي، الشخصية الأساسية في فيلم موليغان، بطلاء وجهها بأحمر الشفاه كمظهر وإشارة للضعف والهشاشة.
وسط ضجيج الجوائز والمراجعات التي رحبت بـ “شابة واعدة” واعتبرته بمثابة تعبير لاذع عن الغضب في مرحلة ما بعد حركة “#مي تو” #MeToo، يبقى هناك نقاد غير متحمسين كثيراً للفيلم.
وكتبت جانيت كاتسوليس في هذا الإطار في صحيفة “نيويورك تايمز” أن الفيلم “يحيل الاعتلال الاجتماعي إلى موضة، ويحيل الصدمة إلى مزحة”. انتقادات أخرى مماثلة صدرت أيضاً تجاه الأفلام التي سبقته، والتي انتقدها بعض المشاهدين نظراً لتسطيحها شخصياتها (النسائية) وجعلها مجرد منتقمات فاتنات، مقابل إهمال التداعيات النفسية في الحياة الواقعية، والميل إلى تقديم عمل ساخر يفيض بالقتل والإجرام. وهذا في السياق يعد سجالًا مشروعًا. إذ إن أفلام الانتقام المشيدة على عِظام حالات استغلال سافرة للمظالم، تبقى مشحونة بأسئلة كثيرة من هذا القبيل.
من هنا، وبعد مشاهدة هذه الأفلام، يسهل اختبار حالة “تنفيس الغضب” التي يتقصدها المخرجون (المخرجات في هذه الحالة)، إذ إن مشاهدة المغتصب يلقى عقابه أمامنا على الشاشة، حين لا تلقى إلا قلة قليلة من المغتصبين العقاب المستحق في الحياة الواقعية، يمثل أمراً راديكالياً. ومن الشافي أيضًا في هذا الإطار أن نرى امرأة تتولى بنفسها تنفيذ حكم الموت وليس والدها.
لكن وبالقدر ذاته التي تستمد فيه هذه الأفلام قوتها من تقويضها نوع فني كنا شاهدنا أسوء نماذجه بأعمال حققها مخرجون غير مناسبين، مسلسل “أمنية الموت” Death Wish لمايكل وينر، يشكل مثالًا على ذلك، فإنها تبقى أيضاً غير قادرة على تجاوز تبسيطاتها الموروثة، ويتمثل أحد تلك التبسيطات بفكرة إمكانية حل إحدى أكثر المسائل إثارة للقلق في المجتمع بيد فرد معه سلاح.
أمام واقع الامور هذا لا يمكن للمرء الا أن يشعر بضياع أمور تفصيلية كثيرة في خضم تلك الأجواء الزهرية، لكن في النهاية لماذا يبقى الرجال وحدهم مستحوذين على كل المرح؟
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.