حشر الشرف بين مزدوجين: عن الصوابية السياسية التي تقتلنا,
نحو وعي نسوي

بدور حسن/ feministconsciousnessrevolution- فوجئ المثقف اليساري وهو يتابع أخبار الصباح بفيديو يوثّق اللحظات الأخيرة من حياة امرأة فلسطينية قتلها أهلها، وسبّبَ له الفيديو وما تلاه من ردود مغصًا حادًّا لا لما احتواه من قسوة وعنف بل لأن صرخات الفتاة الفلسطينية حرفت البوصلة عن حرب التحرير. صحيح أن حرب التحرير المنتظرة لا تلوّح ببداية وشيكة ولكن تفاصيل ثانوية كقتل امرأة في جريمة شرف تنسينا الأولويات وتضلّنا عن الطريق نحو القدس.

أشاح مثقّفنا بوجهه عن الفتاة وحذف صرخاتها من ذاكرته الانتقائية ووقف دقيقة صمت على أرواح النساء الفرنسيات والإسبانيات والأميركيات اللواتي يقتلهنّ شركاؤهنّ وشركاؤهنّ السابقون من دون أن يكترث أحد أو تقوم الدنيا ولا تقعد. ولكن مهلًا، قد تتساءل إحداهن، ماذا عن التظاهرات النسوية الحاشدة التي خرجت في إسبانيا اعتراضًا على قتل النساء وتقاعس المنظومة القضائية وماذا عن الحركات المناهضة للعنف الذكوري والتحرّش في فرنسا والولايات المتّحدة، أفلا تعبّر عن غضب واهتمام؟ ربّما ولكن هذا ليس وقت تغطية الصورة التي رسمها مثقّفنا بحقائق سخيفة، ناهيك عن أن حديثه عن قتل النساء في الغرب ليس نابعًا من تضامن أو اهتمام بمصير الضحايا بالضرورة ولكن معطيات العنف ضدهن تساعده على إحراز هدف حاسم في مرمى “النسويات الليبراليات العربيات”.

تعريف استباقي: النسويات الليبراليات العربيّات هي مجموعة هلاميّة نلقي فيها كل امرأة لا يعجبنا رأيها أو تستفزّنا طبقة صوتها ومخارج حروفها أو تسريحتها أو يمكننا وصفها بالبرجوازية فقط لأنها تجيد الإنكليزية حتى لو كان الراتب الذي تتقاضاه دون الحد الأدنى. ولأننا أذكى وأكثر تقدمية من الإسلاميين فلن نعترف برفضنا النسوية بحد ذاتها بل سنكتفي بحشر كل نسوية لا تُفصَّل مواقفها على المقاس الذي نحدده في خانة النسويات الليبراليات البرجوازيات.

تلك النسويات هنّ أصل الداء وسبب العلّة.

كيف يجرؤن على رثاء امرأة قتلت دون أن يضفن إلى وصفة الرثاء خليطًا من مقالات إدوارد سعيد وجوزف مسعد وليلى أبو لغد، مثلًا؟ أليس الأجدى بهنّ محاكاة تجارب النسويات الراديكاليّات وما بعد الاستعماريّات وما بعد الحداثيّات لكي تصبح نسويّتهن صادقة ويكون غضبهن مشروعًا؟ تذكّره إحداهن بالخلاف العميق بين النسويّة الراديكالية وما بعد الاستعمارية وبأن الحديث عن النسويّة بوصفها تسلسلًا من الموجات المتعاقبة والمتناقضة بات مبتذلًا ولكنه لن يتنازل عن تغريدة حققت له مئات اللايكات بسبب خطأ تقني كهذا.

أما الأفضل من ذلك كلّه، يلمّح مثقّفنا تاركًا لنا مهمّة تحليل بسيطة لكي لا يتّهم بالتنظير الصريح، فهو أن تنضم “النسويات الليبراليات البرجوازيات العربيات” إلى دورة عن النسوية الحقيقيّة يقدّمها هو بنفسه، نسويّة خالية من “الثقافوية” ومطعّمة بقدر كافٍ من الصوابيّة السياسية والتفكيكية. صوابيّة سياسيّة تعتبر استخدام مصطلح “جريمة شرف” استشراقًا أو استشراقًا ذاتيًا أو كراهية للذات وتعميمًا ثقافويًا مجحفًا حتى حين يعترف الجناة بأن الشرف هو الوازع لارتكاب الجريمة. تفكيكيّة تكاد تحمّل النسويّات العربيّات مسؤوليّة العنف ضد النساء وتصنّفهن إلى أغلبيّة غسل الاستعمار دماغها وزيّف وعيها وأقلّية صالحة صامدة تمثل النسوية “المقبولة” في كلّيات الدراسات ما بعد الاستعمارية في بريطانيا والولايات المتحدة.

قد يظن نفسه فارسًا كيخوتيًّا يحارب بلا سند غير أن مثقّفنا لم يُترك وحيدًا في نضاله لتهذيب النسوية العربية وضبطها. مع احترامنا لمركزه وألقابه وحرف الدال الذي يسبق اسمه غير أننا لم نكن لنفرد له هذه المساحة لو كان وحيدًا أو لو لم يكن خطابه رائجًا. الخطاب الذي يرفض تسمية الأمور بمسمياتها ويتجاهل خلفيات الجريمة الحقيقية ليكسب معركته الفكرية ضد “النسوية البيضاء” ويحاضر في النسوية أمام النسويات ويعتبر قتلنا وقمعنا فعلًا مجرّدًا وغمامة عابرة ويشهر تهم الاستشراق والاستعمار والفوقية والنخبوية لإسكاتنا.. أصبح هذا الخطاب متوقّعًا بعد كل جريمة شرف تأخذ هامشًا ما من التغطية الإعلامية على عكس معظم الجرائم التي “تبقى في العائلة”.

ستُنسى جريمة القتل التي أزعجت تغطيتها مثقّفنا بعد أسبوعٍ أو اثنين ولكننا سنصطدم بالخطاب المعلّب إياه بعد الجريمة القادمة، سنسمعه من مثقفين يساريين ونسويات ما بعد الاستعمار. ولأن كل واحدة منّا ربما تكون القتيلة القادمة – خطرٌ يلاحقنا فعليًا لن تفهمه نجمات دراسات ما بعد الاستعمار في الشتات أو مريدو سعيد ومسعد الذين يعتبروننا مخبراتٍ محلّياتٍ في خدمة الاستشراق – قد لا نملك متّسعًا من الوقت لنسأل مروّجي هذا الخطاب بعض الأسئلة قبل أن نتركهم لأولوياتهم ومعاركهم المهمة.

ماذا تقترحون أن نسمّي جريمة يرتكبها الأخ أو الأب أو العم، ضد فتاة أو امرأة “مدانة” بتحدّي الوصاية الأبوية أو الخروج عن سلطة العائلة وتهديد سمعتها، نيابةً عن العائلة والحمولة والقبيلة، مسلّحًا بشرعية اجتماعية وموروث من العادات والتقاليد قبل أن يكون مسلّحًا بمسدّسه أو سكينه، ومدعومًا بمنظومة أخلاقية ودينية وقانونية تخوّله بفرض رجولته وهيمنته؟

ملاحظة: قد لا يكون مقنعًا الادّعاء بأن “شرف الشرق يقابله شغف الغرب” لأن النوع الأول من الجرائم يستهدف النساء والفتيات وذوي الجنسانية غير المعيارية حصرًا بينما قد يكون الرجال أيضًا من ضحايا جرائم الشغف على أن النساء تمثّلن الأكثرية بلا شك. لا نسعى من خلال طرح هذا السؤال إلى حصر العنف الجندري وكراهية النساء في منطقة أو فئة واحدة فنحن ندرك أن الأبوية منظومة عابرة للحدود والثقافات ولكن هذا لا يقلل من أهمية معرفة دوافع وخلفيات العنف وتحديدها.

لماذا حين نتحدّث عن قضايا كالإجهاض وحقوق عاملات الجنس، مثلًا، نتّهم باستنساخ قضايا الغرب ونؤمر باحترام خصوصية مجتمعنا الثقافية ولكن حين نتحدث عن العنف ضد النساء تصبح المقارنة بالغرب مشروعة ويعتبر تحديد دوافع العنف والقمع في مجتمعاتنا مبالغةً بالثقافوية؟

هل تعتبر وطنيتنا كنسوياتٍ فلسطينيات منقوصةً إلى أن نثبت العكس، وكيف نثبت العكس؟ هل علينا أن نستهل كل جملة نكتبها عن العنف الذكوري في فلسطين بـ”يسقط الاستعمار” وبأن الاستعمار هو المسؤول، ولكن؟ هل علينا تقديم سيرة ذاتية نضالية تعفينا من اتهامات تشتيت البوصلة؟ وماذا عن تهم البرجوازية التي تطال كل النسويات؟ هل يفترض أن نقدّم كشفًا لحساباتنا المصرفية ليصبح غضبنا على قتل أخواتنا حقًا لا ترفًا؟

لماذا تفرضون علينا الاختيار بين نسويّتنا وفلسطينيّتنا وتقديم إحداهنّ على الأخرى؟ هل تستحق المرأة الفلسطينية التضامن فقط حين يعتقلها أو يقتلها الاحتلال وتصبح وجهًا غير مرغوب به، غير مفيد للقضية حين يكون القمع “محلّيًا”؟

لستم مضطرّين للإجابة عن أسئلتنا إذ يمكنكم ببساطة الرد بأننا استشراقيات ونخبويات ومسحورات بالغرب من دون أن تتكلّفوا عناء مراجعة مواقفنا وكتاباتنا. ويمكنكم، ادّخارًا للوقت والجهد، الاستعانة بلائحة الاتهام ذاتها التي ينشرها الإسلاميون مع تعديلاتٍ طفيفة على المفردات وعلامات الترقيم وقائمة المصادر. ولكن لأن حياتنا وكرامتنا على المحك فسنعتذر سلفًا على مواصلة إزعاجكم لرفضنا الوقوف على الدرجة السفلى من سلم الأولويات الوطنية.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”. 

نحو وعي نسوي

نحو وعي نسوي

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015