جريدة (العرب) اللندنية- “اغسل عارك يا بشار”.. هكذا تعالت في الخلفية أصوات تحرض مسلحا على قتل فتاة التصقت بالحائط. انصاع المسلح لنداء رفاقه غير مكترث باستجداء أخته مصوبا رشاشا نحوها وسرعان ما أفرغ مخزنا أول أعقبه صمت لوهلة ليستأنف بعدها إطلاق الرصاص.
لم يكن ما سبق مشهداً من فيلم رعب بل كان مشهداً حقيقياً شهدته مدينة سورية هذا الأسبوع تحت مسمّى “جريمة شرف”.
العديد من النصوص القانونية في بعض البلدان العربية تتجاوب مع فكرة غسل العار، حيث أن هناك تشريعات تصدر حكماً مخففاً وبعضها الآخر لا يصدر حكماً على الإطلاق ضد القاتل في جرائم الشرف.
“جرائم الشرف” تستهدف المرأة فقط، فهي التي تحمل شرف العائلة حول عنقها، وربما تقتل حين يصيب هذا الشرف أي تهديد، حتى إن كان الدافع مجرد شك أو اتهاما كاذبا راود أحد رجال العائلة، أو شيئا تافها مثل مغازلة عابرة من غريب. فالمرأة وجسدها وحياتها ملك للعائلة والقبيلة، والعذرية بمثابة ختم المجتمع على شرف الفتاة. وتستخدم القوانين العربية مصطلح “الشرف” مدعمة بذلك المفاهيم الخاطئة التمييزية ضد النساء بوصفهن “شرف” الذكور والمجتمع.
تسميةٌ نبيلة لفعلٍ خسيس
لكن من أطلق تسمية نبيلة على جريمة مشينة؟ يستخدم مصطلح جريمة الشرف في المنطقة العربية عند إقدام رجل على قتل امرأة من عائلته أو قبيلته بسبب مسلكها أو بشبهة أو تهمة الإقدام على علاقة عاطفية أو جنسية مع رجل غريب. يدل المعنى المباشر لهذه العبارة على القيام بعمل غير مسموح به قانونيا، ولكن الدوافع التي قادت إليه كانت شريفة وهي “الخطوة الأولى باتجاه تبريره أو التشجيع عليه” في مجتمعاتٍ تعتبر النساء جزءا من ممتلكات العائلات والعشائر.
فأغلب هذه الجرائم يتمّ التخطيط لها بهدوء في العائلة أو العشيرة، ويتمّ تقاسم المهمات بدقّةٍ، وتوزيع الأدوار بين المشاركين. ويشترك في التواطؤ كامل المحيط؛ من العائلة وصولاً إلى الأطباء ورجال الشرطة والقضاة.
تعتبر جريمة الشرف جريمةً ضدّ الإنسانية بامتياز، فتفاصيل جرائم القتل ضد النساء مخزية؛ إذ منهن من قُطِعَت رؤوسهن وحُرِقن ورُجِمن، وطُعِنّ، وتمّ صعق بعضهن بالكهرباء، ووصل الأمر إلى استحضار عاداتٍ جاهلية ودفنهن أحياءً من أجل “شرف” عائلاتهن.
وتؤكّد جماعاتٌ حقوقية أن هذه الجرائم تقدّر في الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا بأكثر من أربعة أضعاف الرقم العالمي الأخير للأمم المتحدة، الذي يبلغ حوالي 5000 حالة وفاة في السنة؛ أي 20 ألف ضحية في السنة. ومن الصعب ألا تُحِسَّ بالصدمة عند استذكار كتالوغٍ واسع ومفصّل لهذه الجرائم.
كيف ينبغي معاقبة رجلٍ مصري اغتصب ابنته؟ وعندما أصبحت حاملاً قتلها لإنقاذ “شرف” أسرته!.. وما الذي يجب فعله برجلٍ تركي دفن ابنته التي تبلغ من العمر 16 عاماً حية تحت حظيرة بسبب “صداقة لشبّان”؟ وقد تمّ العثور على جثتها مربوطة اليدين في وضعية جلوس بعد 40 يوماً. وفي الصومال تمّ جرّ عائشة إبراهيم دههلو، البالغة من العمر 13 عاماً، إلى حفرةٍ في الأرض ثم دُفِنَت حتى رقبتها، ورجمها 50 رجلاً بسبب الزنا، وبعد 10 دقائق من الرجم أُخرِجَت من الحفرة ليتبيّن أنها لا تزال على قيد الحياة؛ فأُعِيدَت إلى الحفرة لرجمها مجدداً.
تجاوبت النصوص القانونية في بعض البلدان العربية مع فكرة غسل العار، فنجد أنّ التشريعات في تلك البلدان تصدر حكماً مخففاً وبعضها الآخر لا يصدر حكماً على الإطلاق ضدّ القاتل في جرائم الشرف. وقال محامٍ إن هذه الجرائم ترتكب في مناطق كثيرة من العالم وتكثر في الدول الإسلامية، بسبب الحماية القانونية التي توفّرها بعض البلدان للقتلة إذا أثبتوا أن دافعهم كان شريفاً، وعادةً لا تأخذ هذه الجرائم هذا الاسم (جرائم الشرف) إلا في البلدان التي لديها نوع من الحماية القانونية تُعفي القتلة من العقاب.
ظروف مُخَفّفة
هناك بلدانٌ تمّ فيها سنّ قوانين توفّر ظروفاً مُخَفّفة وحمايةً للقتلة إذا أثبتوا أن دافعهم كان “شريفاً”. وهذه الدول جميعها إسلامية وأغلبيتها المطلقة عربية.
وتسجّل باكستان مقتل نحو 1000 امرأة سنوياً، في جرائم متعلّقة بمسائل الحب والزواج والسلوك العام، تلك الجرائم تتمّ في الخفاء ودون علم السلطات. وفي الشرق الأوسط تنتشر جرائم الشرف في الكثير من الدول خاصةً مصر والأردن والعراق والسعودية وسوريا واليمن وفلسطين وباكستان.
ورغم الأزمة السياسية التي تعانيها سوريا، إلا أنّ معدل الجرائم فيها ارتفع إلى أربعة أضعاف قبل الثورة السورية، حسب تصريحاتٍ قضائية نُشِرَت في جريدة الوطن السورية عام 2016، حيث أمّنت الحرب والصراعات المسلّحة بيئةً خصبة لتزايد العنف ضدّ النساء بصفةٍ خاصة.
وتقدّر منظماتٌ حقوقية عدد جرائم الشرف في سوريا بنحو 200 إلى 300 جريمة سنوياً. ولا توجد عقوباتٌ رادعة لمرتكبي جرائم الشرف في سوريا، بل توجد في قانون العقوبات مادتان (المادة 485 والمادة 291) تحميان القتلة.
وفي السودان ازدادت نسبة جرائم الشرف بصورةٍ مخيفة، وقال مصدرٌ إن جرائم الشرف تعدّ من أشهر الجرائم وهي من الجرائم القليلة التي لا تُقابل باستهجانٍ شديد، وربما لا تُقابل بأيّ استهجانٍ من جانب المحيطين بالقاتل والقتيلة، بل على العكس في الكثير من الأحيان تكون هذه الجرائم مصدراً للفخر وإعادة الاعتبار؛ ليس لشخص القاتل فحسب بل ولأسرته أيضاً.
وفي الأردن، ما زال المجتمع محكوماً بسلطة القبيلة والعشائر فيما يتصل بالمرأة. وأشارت بعض الإحصائيات في الأردن إلى ارتفاع جرائم الشرف بنسبة 53 بالمئة سنة 2016 مقارنةً بالسنة التي سبقتها، وتعتبر العقوبات مُخَفّفة -“السجن لمدّةٍ لا تتجاوز 3 أشهر”- رغم بشاعة الجريمة المُرتَكَبة، وقد بدأ النضال ضدّ الأحكام المُخَفّفة منذ تسعينات القرن الماضي من أجل حذف المادة 340 من قانون العقوبات الأردني؛ والتي تُعفي القاتل من المحاكمة. وقد رفض البرلمان الأردني حذف هذه المادّة وانتهى الأمر بتشديد العقوبة على القاتل، من سبع سنوات إلى 15 سنة سجناً، بعد تدخّل الملك سنة 2009.
واستنكرت المديرة التنفيذية لمؤسسة عدل للمساعدات القانونية هديل عبد لعزيز، انتشار القتل بين أفراد المجتمع الأردني بدافع الشرف، وقالت إنّ الكثير من جرائم الشرف تُرتَكَب نتيجة خلافاتٍ اجتماعية أو مالية مثل الميراث، إلا أنّ مرتكبيها يستَغِلّون مُسمى “جرائم الشرف” للتنصّل من العقوبة، أو يستخدمونه مخرجاً من العقاب، مؤكّدةً أن مرتكبي هذه الجرائم أبعد ما يكونون عن الشرف. وشدّدت على ضرورة إلغاء إسقاط “الحقّ الشخصي” من قبل أهل الجاني والضحية، لأنه في الغالب يكون الأهل متآمرين على الضحية مع الجاني الذي ارتكب الجريمة، وذلك حتى لا يستطيع الإفلات من العقاب.
ورفضت عبدالعزيز إعطاء الحقّ للأفراد بإنهاء حيوات الآخرين وسلب حيواتهم نتيجة خطأ ارتُكِب، مُطالِبةً بقصر محاسبة كلّ من يرتكب جرماً على القضاء الأردني؛ فقط ليكون الفيصل في ذلك، وطالبت بضرورة تغليظ العقوبات في حقّ كلّ شخصٍ يسلب حياة الآخر بحجّة الشرف.
وفي السياق ذاته قالت مسؤولة دراسات المرأة في الجامعة القانونية الدكتورة عبير الدبابنة، إنّ الغالبية العظمى من الفتيات اللواتي يُقتَلن تحت مُسمى الشرف، بيّنت الفحوص الشرعية أنهن عذارى. وكانت مؤسسة تومسون رويترز قد صنّفت الأردن ثاني أسوأ بلد عربي من حيث انتشار ظاهرة جرائم الشرف. وفي أعقاب تزايد جرائم الشرف بصورة كبيرة وخاصة في عام 2016، أصدرت دائرة الإفتاء فتوى في ديسمبر 2016 تعلن فيها لأول مرة أنّ القتل باسم “الشرف” يتنافى مع أحكام الشريعة. كما شهدت الأشهر العشرة من عام 2017 انخفاضاً كبيراً في جرائم القتل الأسرية بحقّ النساء والفتيات وبنسبة 61.5 بالمئة مقارنةّ مع الفترة ذاتها من عام 2016. وبدوره علّق محمد الطراونة، القاضي في محكمة التمييز الأردنية، على هذه المسألة قائلاً “نريد توجيه رسالة قوية إلى الشعب (تُفيد) بأنّ قتل النساء باسم شرف العائلة لن تقبله المحكمة بعد الآن”.
وفي العراق تُرتَكَب جرائم شرف ضدّ النساء ويتم إلقاء جثثهن في مكبّات النفايات، ويُسجّل موتهن على أساس “وفاة عادية” أو قتل من قبل مجهولين، في دوائر الطب العدلي. وتخشى الشرطة فتح تحقيقاتٍ حقيقية في الموضوع، خوفًا من الملاحقات العشائرية في بلدٍ تتصاعد فيه قوة العشائر متحدّيةً مؤسسات الدولة. وترفض المؤسسات الرسمية، سواء وزارة الداخلية أو وزارة الصحة أو الجهات المعنية بالدفاع عن حقوق النساء، تقديم أيّة أرقام عن ضحايا العنف من النساء والفتيات.
وينصّ قانون العقوبات العراقي المُرَقّم 111 الصادر سنة 1969 في المادة 409 على أنّه “يعاقب بالحبس مدّة لا تزيد على ثلاث سنوات من فاجأ زوجته أو أحد محارمه في حالة تلبسها بالزنا أو وجودها في فراش واحد مع شريكها فقتلهما في الحال أو قتل أحدهما أو اعتدى عليهما أو على أحدهما اعتداءً أفضى إلى الموت أو إلى عاهة مستديمة”. وأعطت هذه المادة للرجل دون المرأة، الحقّ في القتل.
وتعاني مصر أيضاً من آفة جرائم الشرف، خصوصاً في محافظات صعيد مصر وسيناء، التي لا تزال تحتفظ بالموروثات والعادات القديمة بأفكارها السطحية حول مفهوم شرف الفتاة، الذي يُختَصَر في جسدها، ورغم ذلك لا توجد إحصائية رسمية بأعداد الضحايا، حيث يعتمد أغلب الأشخاص على تزوير شهادات الوفاة للإفلات من العقوبات المُخَفّفة أصلاً. وبحسب القانون المصري إذا ضبط الزوج زوجته مع شخصٍ غريب يستطيع الاستفادة من تخفيف العقوبة، إذْ قد تصل عقوبته إلى الحبس من سنة إلى 3 سنوات، وفقًا للمادة 237.
وتقع نحو 70 بالمئة من تلك الجرائم في حالات عدم تلبّس ولمجرد الشكّ في سلوك الضحية، أو اعتماداً على الشائعات دون دليل ملموس، بحسب دراسة أنجزها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر عام 2015، وأوضحت الدراسة أن تحرّيات المباحث في 60 بالمئة من هذه الجرائم أكّدت سوء ظنّ الجاني بالضحية.
وفي الكويت، لا تعدّ جرائم الشرف ظاهرةً واضحة للعيان، إلا أنها وعلى غرار بلدان عربية أخرى تملك قانون الشرف الخاص بها؛ الذي يسمح لقاتل الزوجة أو الأم أو الابنة أو الأخت في حال ضبط إحداهن في حالة زنا، بالحصول على حكمٍ بالسجن مُخَفّف. وتنصّ المادة 153 من قانون الجزاء الكويتي على أنّ “كلّ من فاجأ زوجته في حالة تلبّس بالزنا، أو فاجأ ابنته أو أمه أو أخته متلبّسة بمواقعة رجل لها وقتلها في الحال أو قتل من يزني بها أو يواقعها أو قتلهما معاً، يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات وبغرامة لا تتجاوز ثلاثة آلاف روبية (عملة الكويت القديمة قبل الاستقلال) أو بإحدى هاتين العقوبتين”.
وشهدت دولة تركيا خلال عام 2016 قتل أكثر من 328 امرأة، أغلبهن قُتِلن لأسبابٍ تافهة، بحسب إحصاءاتٍ أجرتها منظمة “أوقفوا قتل النساء”.
وتعدّ إيران من الدول التي تنتشر فيها “جرائم الشرف” كثيراً، فرغم عدم وجود إحصائياتٍ رسمية بشأن معدّل الجريمة، إلا أنّ نسبة 15 بالمئة تقريباً من حالات القتل في عام 2013 مثلاً، تندرج ضمن جرائم الشرف.
يُذكر أنّ أوروبا أيضاً لم تعد بمنأى عن “جرائم الشرف”، إذ شهدت تنامي تلك الظاهرة خصوصاً مع موجات تدفّق اللاجئين المسلمين إلى ضواحيها.