دور المرأة في المجتمع السوري.. صراع بين التشييء والأنسنة
لوحة للفنانة فريال فياض

سميرة مبيض/ syria-press- عرّف عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس الأنسنة بثلاثة أبعاد تلخص المنظور المُتكامل للإنسان وهي البعد البيولوجي، البعد النفسي والبعد الاجتماعي ترتبط بدورها بهويات الانسان، الهوية الفيزيائية للبعد الأول، هويته الفردية والشخصية للبعد الثاني وهويته المجتمعية الفئوية للبعد الثالث.

هذه الأبعاد والهويات هي بدورها متشعّبة وتصنع منظوراً متكاملاً تُبنى على أساسه الروابط الإنسانية من منطلق هذا المفهوم الذي يعتمد على وجود مُشترك انساني تنطلق منه هذه الروابط وهو ما يُناقض كُليّاً مفهوم التشييء. فمفهوم التشييء لا يُعطي اهتماماً للآخر بكونه كائن انساني أي يُلغي الالتزام بالمُشتَرك الإنساني وتتخذ العلاقة بين الأشخاص سمة العلاقة مع الأشياء وفق تعريف عالم الاجتماع الألماني أكسل هونيت.

يسود ضمن المجتمع السوري مفهوم تشييء العلاقات عموماً، وتلك نتيجة بديهية لنصف قرن من تدمير الروابط الإنسانية. بدءاً بالهوية الإنسانية الأساسية، أي التي تربط أي فرد بعائلة بشرية كبيرة، وانتهاءً بتدمير أشدّ روابط القرابة، أي ضمن الاسرة الواحدة، مروراً بتفكّك كافة أنواع الروابط التي تقع بين هذين النطاقين؛ من روابط مهنية وثقافية ومكانية وتاريخية ووطنية وغيرها.

في هذا السياق يرتبط دور المرأة بتطوير المجتمع، وهو دورٌ يعوَّل عليه بشكل كبير في المستقبل السوري، بثنائية التشييء والأنسنة باتجاهين، الاتجاه الأول هو كيف يُعيق مفهوم التشييء من أن تلعب المرأة دوراً فاعلاً بالشأن العام والاتجاه الثاني هو قدرة النساء، كناقل اصطفائي للسلوكيات بين الأجيال، على ترجيح كفة الروابط الإنسانية في التربية وإنشاء أجيال جديدة وفق مفاهيم سليمة.

حيث تنطلق النظرة السائدة لوجود السيدات السوريات في العمل بالشأن العام من مفهوم التشييء وذلك أمرٌ يتوجّب تغييره حتماً ونلحظه على عدّة صُعد، منها في الشأن العسكري بتجنيد الفتيات ومنهنّ فتيات قُصّر واستخدام صورهنّ للترويج لأيديولوجيات محدّدة. وفي سياقٍ مُقارب؛ يُعتمد استخدام صورة المرأة لتشريع التدخّلات العسكرية، كما ظهر في صورٍ لما سُمّي صبايا العطاء التي تروّج للحضور العسكري الخارجي في سوريا، كلا الامرين وإن ظهرا بشكل متناقض خارجياً، لكنهما يرتكزان على نفس المرتكزات باستخدام الهوية البيولوجية للمرأة كأداة للترويج.

هذه الهوية البيولوجية ذاتها تُستخدم للتعرّض للانتهاك بين المعسكرات المُتَصارِعة عبر ربطها بمفهوم الشرف، وربط الاعتداء على النساء كأداة للحرب عبر هذا المنظور، الذي يناقض بدوره منظور الأنسنة المُتكامل المُعتمد على الأبعاد المتعدّدة للإنسان.

على الصعيد السياسي نلحظ تشييء الوجود النسائي بشكل واضح، كالاستجابة السطحية لمطالب التمثيل الوافي للمرأة السورية في كافة المنابر السياسية، والمترافق بتضييق فعلي على استقلالية صوت وقرار السيّدات السوريّات أو على منهجهنّ بالإدارة أو بالتوجّهات العامة. بل يتم وضع أُطُر تقييد سياسية واجتماعية، وذلك عبر عدّة وسائل تُستَخدَم كروابط تشييء للمرأة، نذكر منها أسلوب الخطاب، والذي يُحيل المرأة الى مفهوم التبعية ويبعدها عن مفهوم الاستقلال الذاتي، ومنها الايحاء بعدم قدرة النساء على الإنجاز، وباستسهال التوجّه للنساء بالسخرية أو الاتهامات الضمنية أو المعلَنة، أو عبر الإيحاء بسهولة استبدالهنّ بالاستناد على الهوية الفئوية، وباعتبار أن النساء جميعهنّ فئة واحدة بعيداً عن بُعد الهوية الشخصية والفردية لكل منهنّ، وبنقضٍ للمنظور الإنساني القائم على تكامل الأبعاد المتعدّدة لكل انسان.

هذه النماذج بمجملها كأمثلة ضمن نطاق أوسع، تُشير الى سيادة مفهوم تشييء المرأة في الشأن العام كانعكاس بديهي لسيادة هذا المفهوم في العلاقات القائمة في المجتمع السوري، والتي تهيمن على نسبة غالبة ضمنه. هذه السلوكيات التي تميل للاستمرارية ما بعد الصراع، بتحويل الأدوار الى مفاهيم أُخرى، كالنساء صانعات السلام أو كالنساء جسور التآخي وغير ذلك. مما يهدف لإعادة انتاج أدوات جديدة، مهمتها تغطية مسببات الصراع وردم نتائجه بضبابية، بعيداً عن عملية أنسنة حقيقية للمجتمع.

بالمقابل؛ فإن دور المرأة دور محوري ورئيسي في الانتقال بالمجتمع وتغيير المفاهيم ضمنه، بدايةً عبر رفض تشييء دورها والإصرار على إعادة مساحة رأي السيّدات السوريّات لنسبتها الطبيعية، وهي نصف المجتمع، بضمان كامل التنوّع الموجود بينهنّ وضمان الاستقلالية وفرض التعامل بالمنظور الإنساني دفعاً لتأقلم المتأخّرين والمُتأخّرات عنه.

ومن ثمّ اعتماده كمفهوم للروابط السليمة في المجتمع، ليحلّ به تدريجياً وتُستَبدَل به المُكتسبات السلوكية السلبية لحقبة القمع والشمولية. وذلك يتطلّب اعتماد آليات مُترابطة تستند على وجود الشروط المناسبة لبناء الأفراد والسمات الشخصية ونضوجها ووعيها، آلياتٌ ترتبط بالتربية وبالتعليم وبدور الفن والموسيقى والثقافة وكيفية استخدام اللغة، وبكيفية شغل الفضاء المكاني وبهندسة المدن واحترام البيئة، وبالأطر السياسية والمدنية التي ستسم الفضاء الأيديولوجي في مستقبل سوريا، فالروابط الإنسانية لا تقتصر على التفاعل بين الأفراد بل هو تفاعل كُلّي يتضمّن كل ما يؤثّر ببناء الفرد وسلوكياته.

وليس ذلك بالأمر الطارئ على المجتمعات الانسانية بل إنّ تطوّرها هو عملية مستمرة ومتدرّجة، بدايتها منذ بدء تاريخ البشرية مع بدأ تنظيم الإطار المكاني للمجموعات البشرية وفق مفهوم الحياة الجماعية وتحويل الأشياء الطبيعية لأدوات، ومن ثم بناء وتطوير الرمزية المتعلّقة بالتواصل واللغة والرسوم والزخارف، وبتطوير السلوكيات تجاه الموت والحزن والفرح والولادة وغيرها، تتالياً عبر الزمن وصولاً إلى ما هي عليه اليوم، وتتالياً بالزمن نحو المستقبل أيضاً.

وغالباً ما كانت الأحداث ذات الأثر العميق محرّكات ودوافع للتطوّر، ولطالما كانت النساء روافع للحداثة والتقدّم، وها هي سوريا اليوم أمام حدثٍ يُعيد رسم المسارات، فلا بد أن يكون مسار المستقبل مساراً ضدّ تيارٍ أوصل بسوريا وبشعبها لهذا التقهقر، ولابد لدور النساء في بنائه؛ أن يكون صلباً ورائداً على قدر مسؤوليتهنّ عن الأجيال القادمة.

لوحة للفنانة فريال فياض

لوحة للفنانة فريال فياض 

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015