خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- كانت تجلس على حافة حجرية لمدخل أحد الأبنية.. تبدو الحافة وكأنها مجرد عتبة منخفضة جداً على قامتها الطويلة والنحيلة جداً.. تحمل بين يديها طفلاً.. لا يبكي ولا يضحك.. يبدو متيبّساً.. لكنها كانت مصرّة على تحريكه ذات اليمين وذات اليسار.. تنقله بين يديها وقوفاً وجلوساً؛ علّه يُثبت حضوره في هذا العالم المتوحّش.. ولو عبر صوتٍ هامسٍ، أو صرخةٍ باكيةٍ أو زمجرةٍ معترِضة سريعة وقصيرة؛ لكنها مرتبطة بفعل الحياة..
نكتشف أن مكان الانتظار هو مدخلٌ مقفلٌ لعيادة طبيبٍ مختصٍ في جراحة الأطفال.
قدمت السيدة مع طفلها المريض لاستشارة الطبيب؛ الذي لا يستقبل مرضاه قبل الحادية عشرة كل صباح.. هي مضطرة للانتظار.. تنفض قبعةً صوفيةً عتيقة وغير مناسبة لحجم رأس طفلها.. وقعت القبعة على الأرض في غفلةٍ عن الأم الشاردة عن كل ماحولها.. تنزع الغطاءالصوفي الرقيق عن طفلها.. يبدو أنه لا مبرر لذلك، لكنها تحاول ملأ وقت انتظارها الطويل بأيّ فعل.. تُسند ظهرها للحائط والوقت يحافظ على ثباته وثقله ولا ينقضي أبداً..
فجأةً تنفجر السيدة بالبكاء.. تنهض كالمذعورة.. تضع طفلها على الحافة.. تتركه.. تروحُ وتجيءُ.. ودموعها تسيل بغزارة.. تصرخُ قائلةً (مابدي ياه!)..
هنا تدخّلت إحدى القاطنات في المبنى.. رمت التحية وتجنّبت السؤال المباشر عن الطفل. لكنّ الأم أطلقت العنان وروت قصتها وكأنها كانت تنتظر تدخّل أي شخص لتحكي حكايتها..
(ابني مريض بالكلاوي) بصيغة شعبية غير دقيقة؛ شرحت قصة ابنها.. وأردفت: لا أمل في شفائه! زوجي مصرٌّ على أنني أنا سبب مرض ابني، لأنه ابن عمي.. هو لا يحبني! لكنّ أهلَهُ أجبروه على الزواج بي.. يريد تحميلي مسؤولية مرض ابني لوحدي!. وأنا لا خيار لي في الموافقة أو الرفض على الزواج.. قوانين العائلة هي السارية.. والبنات لا يُسألن أبداً عن خياراتهن.. كلّ بنات قريتنا يتزوّجن بنفس الطريقة.
كمن يُحاور نفسه؛ تقول بصوتٍ واهن: (المرض من الله! أنا شو ذنبي؟)
فجأةً يبكي الطفل.. تَهرَعُ أمه إليه.. تحمله.. تقول له: سامحني!.. وتغرق في نوبة بكاءٍ جديدة..
رفض زوجها مرافقتها لزيارة الطبيب.. ترجّت والدة زوجها لتامين موافقته لمغادرة المنزل في أول باصٍ يغادر القرية.. لم يُفكر أحدٌ ما؛ لا الزوج ولا سواه من أفراد العاىلة الذين قرّروا وأتمّوا الزواج القهري لشخصين غير قادرين على الرفض أو الموافقة.. لم تقل الأم لزوجها بأنها اشتركت في جمعية مالية، واشترطت أن تحصل على الدور الأول، لتتمكّن من عرض ابنها على طبيب أطفال مختص في الجراحة البولية.
ألقَمَت الطفل (لهاية بلاستيكية).. قالت: ابني لايحبّ حليبي!.. رفض الرضاعة منّي. (يشتدّ بكاؤها) زوجي وابني يرفضانني.
تُعيد صرختها (مابدّي ياه).. يعاود الطفل البكاء.. تلقُمُه رضّاعةً تحتوي على ماءٍ وسكر.
تحكي فصلاً آخر من مٱساتها: حليب الأطفال مفقود وغالي الثمن.. وزوجي عاجز عن تأمين حليب يشبع الطفل.
أطعمه ماء وسكر ولبن ممدد بالماء مع السكر، وأحتفظ بالحليب فقط لوجبتي الصباح وما قبل النوم؛ كي تكفيه علبة الحليب لمدة أسبوع.
تسأل عن الوقت.. وعن تكلفة معاينة الطبيب.. تطلب ماءً لتشرب.. وتكرّر بآسى: (زوجي ما بدو ياني.. ما بيحبني، غصبوه يتزوّجني. أنا شو ذنبي)؟؟؟