أماني المانع/ دمشق/ jinhaagency- إذا كنا قد بدأنا باستعمال مصطلح التراث الثقافي الغير مادي منذ زمن قريب فإنه قديم قدم الإنسانية وذلك لأنه يشمل طائفة عريضة من أشكال التعبير المختلفة بدءاً بالتقليدي وانتهاء بالمعاصر وانطلاقاً من الريفي إلى الحضري.
في مجال البحث والتشجيع على المحافظة على التراث تستوقفنا أسماء نسائية لمعت في هذا المجال منها المسؤول الإعلامي ومديرة قسم التراث في جمعية إحياء وحماية وتوثيق التراث الشعبي سارة بحبوح.
تقول سارة بحبوح “إن الدفاع عن التنوع الثقافي هو واجب أخلاقي ملزم لا ينفصل عن كرامة الإنسان، وجاء اعتماد اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي في عام ٢٠٠٣ وقد وقع عليها من قبل سوريا كخطوة حاسمة في الجهود التي بذلتها تلك المنظمة من أجل التنوع الثقافي رداً على ما يتعرض له التراث الحي الغير المادي من تهديدات فرضتها عمليات العولمة وما رافقها من تحولات اجتماعية لم يسبق لها مثيل”.
ويشمل التراث الغير مادي الممارسات والتصوّرات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات وما يرتبط بها من آلات ومصنوعات وأماكن ثقافية، وهذا التراث متوارث جيلاً عن جيل، تبدعه المجموعات البشرية بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة وتاريخها.
ومع أن هذه الأمور ليست مادية إلا أنها تُعَدّ مكوناً على درجة كبيرة من الأهمية من مكونات تراثنا الثقافي ينبض بالحياة ويعاد خلقه باستمرار، وتؤكد سارة بحبوح على ذلك بالقول “أننا لا نستطيع اخفاء أن عناصر التراث قد تضررت بفعل عوامل تضافرت لتؤثر في طريقة حياتنا ولعل أبرزها العولمة التي اكتسحت العالم ونجحت في فرض عادات جديدة على المجتمعات كلها بما فيها مجتمعنا. وتلاها الانفجار التكنولوجي متوجاً بأجهزة التواصل الاجتماعي التي غزت العالم، وأسهمت في تغير شكل الحياة لدى الناس”، وتستدرك بالقول “على الرغم مما وفرته العولمة من مساحة واسعة للتواصل والتبادل وتقريب الشعوب من بعضها البعض؛ إلا أنها رسخت المبدأ العام في خلق قرية عالمية جديدة، تذوب فيها خصوصيات الشعوب”.
وللنساء دور أساسي في صون التراث ونقله من جيل إلى جيل وذلك ما تؤكد عليه سارة بحبوح “فيما مضى كانت كل امرأة تجاوزت السبعين راوية للحكايات الشعبية وهو ما نفقده اليوم بسبب مؤثرات جمّة، لعل أهمها هو عالم الإنترنت الذي سرق حتى الجدات والأحفاد”. وأشكال التعبير الشفهي هذه وأداؤها أمام الناس هو الذي يساعد على صون اللغة وليس المعاجم وكتب القواعد وقواعد البيانات “اللغات تعيش في الأغاني والقصص والفوازير والأشعار ولذا فإن الصلة وثيقة وقوية بين حماية اللغات وتناقل التقاليد وأشكال التعبير الشفهية”.
وتتساءل سارة بحبوح “هل يتذكر أحد منا أجران الخضار والفواكه الموزعة على كثيرٍ من مفترقات الدروب وهل غاب عن فكرنا سكبة الطعام بين الجيران ومشاركة الطعام مع الجميع؟”.
أما عن سؤالها حول أصول مختلف الصناعات الحرفية التقليدية التي تتميز بها سوريا أجابت “أنها تمُتُّ لأقدم العصور ويصعب في الأحوال كلها تحديد الجذور العميقة والبيئية الأساسية لهذه الصناعات، ويعد انتشارها نتيجة تراكم المعارف، وتوارثها وتفاعل الحضارات الكبرى”.
وتضيف “كانت الحرف في بدايتها فطرية تعتمد على موارد طبيعية أولية، ولقد استطاع الحرفي السوري بما يملكه من مواهب وقدرات أن يوظّف هذا المخزون لخدمة الحضارة البشرية. ونجد شعبنا يسجّل تراثه في صناعات ذات بهاء ورونق وإتقان، استطاعت أن تغزو ما جاورها من البلدان”.
وقد اشتهرت سوريا منذ القدم بأعمال النسيج العادي والموشى، وحرف الزجاج والأواني وفنون العمارة والفسيفساء الحجرية، والزجاجية الملونة.
تقول سارة بحبوح إن السر في بقاء هذه الحرف وصمودها هو الروح التي تسيطر على الصانع الحاذق والتي تجعل الإنتاج مرتبطاً به وارتباطها بمواد وخامات محددة التي شكلت القاعدة الأساسية لاستمرارها عبر أحقاب زمنية عدة وبقيت سوريا محافظة على تميزها وأسبقيتها في السعي نحو كل عمل حضاري رغم ما صادفها من مصاعب.” وتضيف “صناعة الفخار والخزف من أقدم مبتكرات الحرفي السوري والصناعات اليدوية المعدنية من أشهر منتجاته، فالسيف الدمشقي وسر صناعته أعجزت الخبراء المعاصرين عن كشف غموضها”.
تأهيل كوادر شابة
للنساء دور مهم في الحفاظ على هذا التراث فقد افتتحت عدة جمعيات للحفاظ على التراث السوري منها “نحلات سورية” وهي جمعية نسائية مختصة بالأقمشة التراثية وإعادة حياكتها لتحاكي النقشات القديمة، كما أن نساء الريف يعملنَّ بكل جد لتربية دودة القز والحفاظ على الحرير السوري ذو الجودة العالمية.
كما أنه وفي الوقت الراهن هناك مجموعة من الشباب والشابات الذين يعملون على توثيق وأرشفة التراث اللامادي الذي يبدأ من حكايا الجدات التي نسمعها بكل شغف حتى وقتنا الحالي. كما تقول سارة بحبوح.
وتضيف “يجب ألا ننسى الإقبال النسوي القوي في تعلم الحرف اليدوية في حاضنة دمر للحرف، فالمرأة السورية مدافعة شرسة عن تراثها وعاداتها وتقاليدها التي توارثها من الجدات، وسوف تورثها لبناتها لأن التراث ليس فقط تاريخ أنما هو حاضر متأصل، المرأة هي مركز الخصب والتجدد وهي السيدة والإلهة والمربية”.
كما تشكّل النساء أساساً في المعارض والبازارات “نجد أن جميع المعارض والبازارات تعتمد بشكل كبير على المرأة سواء بسرد الحكايات والأهازيج وبالمأكولات القديمة وبالمطرزات المتنوعة”.
وتؤكّد سارة بحبوح على أهمية الحفاظ على هذا التراث والاهتمام به وتشجيع الجيل الشاب على الانخراط للعمل فيه بالقول “يحتاج القطاع الحرفي برمته إلى استراتيجيات هادفة تدعمه وإلى خطة متكاملة للحفاظ على هذه الصناعات والعمل على إنشاء مراكز متخصصة للتدريب الحرفي”، وترى أن “تطوير مراكز تدريب وإعداد تقني لتكون بمنزلة مراكز تنويرية تسهم في إعادة تأهيل الحرف وتأهيل الكوادر الشابة وإعداد الحرفيين القادرين على الابتكار سيمكن هذه الصناعات الحرفية من الصمود في وجه التحديات”.
وتضيف “يجب فتح ورشات تعليمية تخص فئة الشباب وتضم أصحاب الخبرة لنضمن عدم اندثارها، من المفترض دمج القديم بالمعاصر وفتح بازارات مختصة بالأزياء التقليدية للفت نظر الجيل الحالي وحتى القادم الذي لا يعرف شيء عن تراثه”.
وقد أصبح دمج القديم بالحديث شيء أساسي ومهم للحفاظ على التراث فهناك صنع الإكسسوار النسائية التي لاقت إقبالاً كبيراً من الفتيات لشراء ما هو مصنوع (بالدقة القديمة والمعتّق).
واختتمت المسؤول الإعلامي ومديرة قسم التراث في جمعية إحياء وحماية وتوثيق التراث الشعبي سارة بحبوح حديثها بالتأكيد على أنه “يجب ألا ننسى دور المرأة الكبير في الحفاظ على التراث المادي واللامادي، فلو بدأنا باللامادي نجد أن حكايات الجدات تنتقل من جيل لآخر والعادات والتقاليد الموروثة إلى يومنا الحالي التي لا نجادل بها أصلاً سواء بالتصرف أو بموضوع حماية أنفسنا وبموضوع التداوي بالأعشاب، فالمرأة منذ القدم تقوم بالمحافظة على التراث وتسعى جاهدة لإيصاله بطريقة أو بأخرى”.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.