جيرون- وجدَت الكثير من النساء اللاجئات أنفسهن، وجهًا لوجه، مع تحديات ومسؤوليات كبيرة، أجبرتهن على خوض صراع يومي بمفردهن، من أجل توفير سبل العيش والحياة لعائلاتهن، وساهمت الحرب في إفقار ملايين السوريين، وخصوصًا النساء المعيلات اللواتي تعرض أزواجهن للقتل أو الاعتقال أو انفصلن عنهم لأسباب أخرى، وقد أدى ذلك إلى تنامي ظاهرة “تأنيث الفقر”، وارتفاع معدلات الحرمان الشديد بين الأسر التي تقودها نساء، فغالبيتهن ينتمين إلى فئات اجتماعية محرومة من التعليم والتدريب، وبالتالي فهنّ يعملن في مجالات ذات دخلٍ متدني.
تعرّف المرأة المعيلة بأنها “المرأة التي تتولى الإنفاق على نفسها وأسرتها، وتتولى رعاية أسرتها ماديًا، من دون مشاركة الرجل (الزوج أو الأخ أو الأب)”. وتؤكّد تقارير الأمم المتحدة ارتفاع نسب النساء المعيلات، ووفقًا لتقرير صادر عن المفوضية العليا للاجئين لعام 2014، فإن “عائلة، من بين أربع عائلات سورية، تعيلها نساء في كل من مصر والأردن ولبنان، وهناك عشرات القصص عن كفاح النساء للبقاء على قيد الحياة، وفيما يلي شهادات لسيدات سوريات، تحدثن لـ (جيرون)، عن واقع المرأة المعيلة في تركيا.
من ربة منزل إلى سيدة تعمل
تبلغ (ثناء)، وهي زوجة شهيد، من العمر 42 عامًا، وتعيل طفلين: تمّام (13 عامًا)، وهديل (16عامًا)، رفضَت الذل والانتظار في طابور الطعام في المخيم، وقرّرت أخذ زمام المبادرة في العمل، تقول: “أريد أن يسمع الجميع صوتي: بعد ستة أعوام من المعاناة، أشعر باليأس والقلق على مستقبل أبنائي، فلا توجد ضمانات”.
تعيش (ثناء) مع طفليها في غرفة صغيرة، رتبتها بفن وذوق، في مدينة غازي عنتاب التركية، بعد رحلة نزوح طويلة، بدأت من حي التضامن الدمشقي إلى محافظة إدلب، وبعد استشهاد زوجها بقصف طيران النظام، نزَحَت مع عائلتها إلى مدينة كلّس الحدودية التركية.
عمِلت (ثناء) في مشغل خياطة لزوجات الشهداء، مقابل أجر 400 ليرة تركية في الشهر، لكنه لم يكن كافيًا لتسديد نفقات الأسرة، وبعد معاناة في البحث عن عمل، عملت في تدريب السيدات على فن الأشغال الورقية، في إحدى المؤسسة الإنسانية السورية في مدينة غازي عنتاب، ثم انتقلت إلى العمل في مكتب هندسي، أضافت: “كنتُ ربة منزل، لكن بعد أن أصبحتُ امرأة عاملة؛ بتُّ أحمل عبئًا مزدوجًا: هموم العمل وأعباء المنزل ورعاية الأطفال”. عن رأيها في دورات التدريب المهني التي تقيمها المنظمات المعنية بالمرأة، قالت: “لم تقدّم المنظمات البرامج الكافية لتمكين النساء وتعليمهن مهنة، فهي تقتصر على دورات في مجالات الخياطة وتصفيف الشعر، هم يعتقدون أن دورهم ينتهي بانتهاء التدريب، لكن هذا غير كاف، ينبغي العمل على تأسيس مشاريع اقتصادية للنساء، ولا سيّما زوجات الشهداء والمطلقات؛ كي يتمكّنّ من الاعتماد على أنفسهن”.
تسعى (ثناء) للحصول على قرض لتأسيس مشروع اقتصادي صغير، وأضافت في هذا الصدد: “طرقتُ باب العديد من المنظمات والجمعيات، لكن بلا جدوى، فقد تقدمتُ إلى منظمة أعلنت عن منحٍ لمشاريع صغيرة، من أجل (مشروع معجنات)، وبعد مقابلات عديدة؛ ظلت المسألة في إطار الوعود”.
تعيش (ثناء) في حالة قلق دائم، على أطفالها ومستقبلهم، لكنها تشعر أن وجودها في تركيا، ضمن هذه الظروف، دفعها إلى تغيير نمط حياتها؛ من امرأة مستهلكة إلى منتجة، وهو ما وصفته بالتغيّر “الإيجابي”.
أولويتي العمل بكرامة لأعيل أولادي
اضطرت (نور)، وهي سيدة في عقدها الثالث، وأم لطفلين: عادل (11عامًا)، لانا (16 عامًا)، إلى العمل في أماكن متعددة، فقد عمِلت في (شك الخرز) بورشة لصناعة ملابس السهرة والأعراس، وكان عملًا مرهقًا، يمتد إلى اثنتي عشرة ساعة يوميًا، بأجر لا يتجاوز 1000 ليرة تركية في الشهر.
قالت لـ (جيرون): “كنت أعمل حتى أفقد قدرتي على العمل، وفي بعض الأحيان اضطّر إلى إكمال العمل في المنزل”، انتقلت (نور) للعمل في ورشة خياطة لسيدة تركية، وبينت قائلةً: “تفهّمتْ صاحبة العمل وضعي وحاجتي لإرسال ابني إلى مركز لرعاية الحالات الخاصة، لكنها خفّضت أجري للنصف، فهو لا يكاد يكفي تكلفة السكن”. وعن الصعوبات في العمل، أكدت “تعرضها للظلم من بعض أصحاب العمل، فقد عمِلت برعاية أطفال أسرة، لكنها لم تحصل على الأجر المستحق”.
العمل يُكسب المرأة الاحترام والتقدير للمرأة
تتحدث (سامية) البالغة من العمر 41 عامًا، وهي من مدينة حلب، من حي صلاح الدين، لـ (جيرون)، قائلة: “إن العمل يجلب الاحترام، والتقدير للمرأة حتى من أولادها، ولا تكتمل شخصية المرأة إلا بالعمل، على الرغم من التحديات والصعوبات، أنا الآن صاحبة قرار، لكنّ ما يحزنني أنني أكافح بمفردي”.
تعيل (سامية) -وهي أم لشهيد- طفلين، تقول مبيّنة ما تعرضت له عائلتها: “لم أكن أعرف أي شيء عن عمل المرأة خارج المنزل، فأنا أنتمي إلى عائلة محافظة لم تشهد عمل أي امرأة، وكان عالمي محصور في نطاق العائلة، حتى التواصل مع الجيران كان محظورًا، جئتُ مع زوجي إلى تركيا، هربًا من القصف، لكنه سرعان ما تركنا وعاد إلى سورية، ثم تزوّج امرأة أخرى، وطلقني، تركني مع الأولاد بلا معيل. الحزن على ابني الشهيد جعلني أدخل في حالة يأس واكتئاب عميق، وكان للعمل الفضلُ بمواصلة حياتي من جديد، عملتُ في معمل أحذية مدة 12 ساعة يوميًا، من دون أي حقوق، وبأجر زهيد، واضطررت إلى ترك العمل، عندما مرض ابني، ثم عملت في أكثر من ورشة لصناعة الملابس”.
أجمعت السيدات الثلاث، على أن الصعوبات التي تواجههن في سوق العمل، هي قلة المنشآت التي تقبل بتشغيل النساء، باستثناء ورشات الخياطة، وعدم الاستقرار في العمل، وغياب الحقوق، إضافة إلى ندرة المؤسسات التي تعلّم النساء مهنة. وكما تتعرض النساء العاملات لشتى صنوف التمييز، والعنف في العمل (عدم احترام ساعات العمل القانونية، والأجور، وعدم وجود أي ضمان اجتماعي)، كما تواجه المرأة المعيلة ضغوطًا اجتماعية ونفسية، في ظل ثقافة مجتمعية تقليدية، ما زالت لا تعترف بحق المرأة في تقرير مصيرها.
لم تحظَ مشكلة النساء المعيلات، بالاهتمام الذي تستحقه، لذا فمن الأهمية بمكان تسليط الضوء على هذه الظاهرة، والعمل الفعلي على مساعدة النساء لدخول سوق العمل ومكافحة التمييز ضد النساء في الأجور، وحمايتهن من المخاطر والتحرش الجنسي، وذلك لتعزيز صمود النساء السوريات، في مواجهة الأزمات، خصوصًا النساء المحرومات من التعليم وفرص التأهيل والتدريب، والسعي لتحسين فرصهن للوصول إلى موارد مادية، تتيح لهن حياة لائقة مع عائلاتهن، وهذه دعوة لمنظمات المجتمع المدني السورية في تركيا، وكافة المنظمات المعنية بالمرأة، كي تضع في أولوياتها تشغيل النساء المعيلات، وتدعم مشاريع القروض الصغيرة، حيث تشير الدراسات إلى أنها المدخل الاقتصادي لحماية النساء المعيلات.