أ.د. هشام العوضي/ جريدة القبس- لو أفتى شيخٌ اليوم بتحريم القهوة، لصُدِمنا، وظنّنا أنّ في عقله شيئاً. ولكن هذا التحريم حصل منذ سنواتٍ. فقد كان المُتَصوّفة هم أوّل من احتسوا القهوة في عالمنا العربي كي يسهروا الليل في الذكر والعبادة. وانتشرت القهوة من المُتَصوّفة في اليمن إلى الجزيرة العربية، حتى شهدت الحجاز افتتاح أوّل مقهى، ولكنّ حاكم مكّة أصدر أمراً في سنة 1500 أغلق فيه المقهى وحظر شرب القهوة.
وجاء قرار الحاكم متأخراً، فقد انتشرت القهوة في مصر، عن طريق أولئك المُتَصوّفة، الذين أتوا من اليمن إلى القاهرة للدراسة في الأزهر. وأصبحت القاهرة من المدن المُولَعة بالمكيِّف الجديد، حتى أن عقود زواج البعض تضمّنت بنداً اعترف بحقّ المرأة في طلب الطلاق، إن عجز زوجها عن توفير القهوة.
ومن ضمن الذين أدمنوا شرب القهوة السلطان المملوكي في مصر، الذي أصدر مرسوماً أبطل فيه قرار حاكم الحجاز بمنع القهوة. فعادت القهوة إلى الحجاز، واستعادت المقاهي عافيتها.
وقد انتشرت القهوة إلى إسطنبول، حتى أصبحت من أعراف المجتمع التركي. وكتب أحد المراقبين للحياة الاجتماعية في إسطنبول وقتئذٍ قائلاً: إنّ الفقراء في تركيا يستَجدون النقود من الناس في الشوارع لاحتساء القهوة، والجلوس في المقاهي التي أصبحت تعجّ بالزبائن في الليل والنهار.
وانتشرت القهوة إلى أوروبا وأميركا، وقد رُدّت بضاعتنا عبر مقاهي «ستاربكس»، التي أعادت تدوير قهوة المُكّا ــ المحوّرة من مُخّا، وهي منطقة إنتاج القهوة في اليمن.
وحكاية الممنوعات في عالمنا طريفةٌ وتستحقّ أن تُروى. فقد اعتبر بعض العلماء في الجزيرة العربية أنّ «التلغراف» من وسائل التواصل المُحَرّمة، وأنّ دخولها إلى الأراضي المقدسة يعدّ شكلاً من أشكال السحر والشعوذة. وحدث نفس الشيء بالنسبة إلى صنابير المياه، فأفتى البعض بحُرمَة استخدام صنابير المياه عندما رُكّبَت في المساكن الحديثة، بحجّة عدم معرفة طهارة الماء من عدمه.
وامتدت الممانعة إلى بعض مظاهر الحياة الحديثة، فثار جدلٌ حول حكم لبس الملابس الأجنبية كالبنطلون، حتى أنّ أحدهم اضطر إلى أن يكتب كتاباً بعنوان «صحيح الكون من لُبْس البنطلون» كي يدلّل على جواز لبس البنطلون. وعندما بدأت المدارس في الكويت بتعليم اللغة الإنكليزية، أثار ذلك جدلاً كبيراً، وأفتى البعض بحُرمَة تعلّم الإنكليزية، وأدى بعبدالعزيز الرشيد إلى كتابة «رسائل الدلائل البيّنات في حكم تعلّم اللغات»، أكّد فيه جواز تعلّم اللّغات الأجنبية.
وأطلق العوام في الجزيرة العربية على الدراجة الناريّة اسم «حصان الشيطان»، وأفتى البعض بحُرمَته. وحُظِرَت قيادة المرأة للسيارة لسنواتٍ على اعتبار ديني، وعندما سُمِح بها أخيراً، قيل بعدم وجود ما يَحظُرها.
إنّ نمط الممانعة عندنا يتّخذ أشكالاً كثيرة، ولكن لا يتغيّر: فالصدمة المُحرِّمة، ثم الإلف لحدّ الاعتياد، ثم الاستهجان مِمَن حرّم ومَنَع.