برلين/ DW- عندما يلجأ المرء من بلد دمّرته الحرب كسوريا ويفكّر بالغناء، فإن ذلك سيثير استغراب البعض، “كورال حنين” الغنائي واجه ذلك بضرورة التمسّك بالفن للحفاظ على الموروث السوري الأصيل، حيث يعيش الآلاف من اللاجئين السوريين بشوقٍ للوطن.
“أطلقنا على فرقتنا الغنائية اسم ملتقى حنين الثقافي الذي لا يجمع سوى نسوة سوريات تزيد أعمارهن عن الخمسين ربيعا”، بهذه الكلمات الموجزة عرّفت لنا السيدة رجاء بنوت كورال حنين الغنائي الذي تمّ تأسيسه في مدينة غازي عينتاب التركية التي كانت المحطة الأولى لها وللنسوة اللواتي انضممن إلى الكورال عقب رحيلهن من جحيم الحرب السورية.
تعود فكرة تكوين هذا الكورال الغنائي النسائي إلى حنينهنّ للوطن المفقود كما تقول السيدة رجاء :” ففدنا وطننا وأهالينا وبيوتنا إلا إن حنيننا إلى الوطن ظلّ كبيراً في أنفسنا، ولهذا اخترنا اسم حنين للكورال الذي يجمعنا ويربطنا بالوطن”.
مشروع يلم الشمل
الفرقة الغنائية الموسيقية تتكوّن في مقرّها البرليني الجديد من17 امرأة سورية، تعود خلفياتهنّ الثقافية والدينية والاجتماعية إلى وطنهنّ سوريا، فهنا تجد المرأة السورية الكردية والعربية والتركمانية، ناهيك عن الديانات المختلفة. وتسعى السيدة بنوت من خلال تكوين مثل هذا الملتقى الفني إلى الحفاظ على التراث الغنائي السوري الذي بات مهدداً جرّاء الحرب التي هجّرت الملايين من السوريين داخل البلاد وخارجها.
بينما كنّا نتجاذب أطراف الحديث كانت السيدة بنوت التي طغى على شعرها الشيب تحتسي فنجاناً من القهوة العربية المُعطّرة بالهيل مُحدّقةً إلينا، وكأنها تحنّ إلى بيئتها السورية التي فقدتها منذ سنواتٍ عدّة. تعيش هذه المرأة التي نشأت وترعرعت في مدينة دمشق، اليوم ومنذ حوالي خمس سنواتٍ في برلين، بعد أن قضت بعض الوقت في مدينة غازي عينتاب التركية المتاخمة للحدود السورية.
تقول السيدة بنوت الباعثة لهذا المشروع المُتميّز، إن كانت السياسة في وطنها دأبت على بثّ الحقد والكراهية بين الجهات والأطياف الدينية والعرقية.. إلا أنها أرادت عبر بعث مشروعها الغنائي لمّ شمل السوريين بعيداً كلّ البعد عن الحقد والتمييز والجهويات، مضيفةً بعد رشفة قهوة: “الكورال مفتوحٌ لكلّ السوريات من مختلف الجهات السورية، لدينا نسوةٌ كرديات وعربيات وتركمانيات.. نسهر سويةً على غناء الأغاني بلغتها الأصلية…”، وتمضي السيدة بنوت بالقول في هذا الشأن أنّ الأغاني التي تعرض من لدن الفرقة لا تقتصر على اللغة العربية؛ مشيرةً إلى أن الكورال لوحةٌ فنية تترجم الواقع الغنائي الفلكلوري السوري.
أنغام وعربون محبة
وتضيف المرأة السورية التي لم تفارق الاتسامة محياها بلهجةٍ دمشقية: “ما إن قدمت إلى ألمانيا حتى شرعت في البحث عن نسوةٍ سوريات يرغبن في مواصلة مشروع كورال حنين لكن هنا في برلين.”
ومن خلال اتصالاتها عبر شبكات التواصل الاجتماعي تمكّنت السيدة البشوشة التي كانت تقصّ علينا تجربتها في جمع النسوة، إذ قالت: “تكلّلت مجهودات بحثنا عن النسوة الراغبات في المشاركة بالنجاح، تمكّنتُ من الوصول إلى بعض النسوة اللواتي كنّ ينشطن في كورال حنين في مدينة غازي عينتاب القريبة من الحدود السورية..” كما استطاعت بلباقتها استقطاب نسوةٍ أُخريات.
ولم تكن فكرة الغناء في الوهلة الأولى للكثير من النسوة السوريات دافعاً للحماس، حيث تعجّب البعض من هذه الفكرة التي اعتبروها فكرةً مجنونةً قائلين: “كيف نغني في وقتٍ دُمّر فيه الوطن وأُريقت فيه دماء السوريين، وها نحن مهاجرون بعيدون عن الوطن…”.
وحتى تتمكّن السيدة بنوت من إقناع المرأة السورية بالتفاعل في هذا المشروع، كان عليها أن تقوم بالتوعية وتفسير البعد الوطني الذي بات على المواطن السوري أن يقوم به للحفاظ على الموروث الثقافي السوري، لكن هذه المرة في المهجر الألماني. واسترسلت تقول: “ما إن أقنعتهنّ بأهداف الفرقة والدور الذي يجب على المرأة السورية الاضطلاع به خارج الوطن، حتى كانت ردود فعلهن عموماً إيجابية، وبادرن في الدخول من أجل الغناء للوطن.”
تعدّ السيدة لواء أشقر الحلبية من اللواتي بدأن مشوارهن الغنائي في مدينة غازي عينتاب عن طريق السيدة بنوت. وترى لواء القصيرة القامة أنه من الضرورة بمكانٍ التعريف بثقافتها السورية، لاسيما هنا في المهجر الألماني، حيث يشعر السوري ببعده عن الوطن، وتضيف مقارنةً تجربتها في تركيا بألمانيا: “لم أكن أشعر قطّ بالغربة حينما كنت في غازي عينتاب، الطرقات والمباني .. تذكّر كلها بمدينة حلب، لكنّ الحياة هنا تختلف كلياً عن حياتنا في سوريا وبالتالي حنيننا هنا أكبر”.
وترى السيدة الأشقر أنّ هذا الفضاء هام للنسوة السوريات؛ ليس النحيب والبكاء، وإنما للتعاضد واللحمة المتينة أينما نكون بعيداً عن النزعات الطائفية.
نجاح ملموس
أما أهداف كورال حنين، سواءٌ كان ذلك في تركيا حيث لايزال ينشط أو هنا في برلين برعاية السيدة بنوت، فتتمثّل بالدرجة الأولى في الحفاظ على التراث الغنائي السوري من مختلف المناطق السورية ذات الثراء الثقافي النابع من مختلف الطوائف العرقية والدينية في الوطن.
لقد أضحت النسوة المغنيات في الكورال تترجم الواقع الاجتماعي السوري في ألمانيا، كما أنها تسعى من خلال عروضها الفنية أن تكون همزة وصلٍ بين السوريين والألمان. في هذا الصدد تقول رجاء بنوت: “من خلال عروضنا على خشبات المسرح في مختلف المناسبات، نمدّ أيدينا الى هذا البلد الذي استقبلنا وقدّم لنا يد المساعدة من أجل الحياة. نحن نريد أن نعرّفهم بحضارتنا الضاربة في التاريخ، وأنه بتواجدنا نسعى إلى دعم التنوّع الثقافي في مدينة برلين المتعدّدة الحضارات والثقافات.”
وفي هذا السياق علمنا من السيدة بنوت أنّ ملتقى حنين الثقافي لا يتمتع بأيّ دعمٍ مالي من أيّ طرفٍ كان، وأنّ الناشطات فيه تحاولن بكلّ ما لديهنّ من جهدٍ أو قليلٍ من المال، دعم هذا المشروع الفتي الذي كُتِبَ له أن ينشأ ويترعرع خارج سوريا.
ويحقّق الكورال المزيد من النجاح على طريق الحضور في الحياة الثقافية والفنية البرلينية. وهو الأمر الذي ظهر بوضوحٍ في متحف الثقافات الأوروبية؛ حيث أستدعي كورال حنين لعرض باقةٍ من الأغاني التقليدية السورية. فما أن وطأت أقدامنا فضاء الحديقة حتى رأينا جمهوراً متعطّشاً للموشّحات والأغاني السورية التراثية.
وما أن شرعت النسوة بالغناء حتى شرعت أعناق الجمهور تشرئب وتتمايل طرباً، وهو يحدّق في نسوةٍ بعباءاتٍ سوداء وعلى أعناقهنّ مناديل خضراء اللون، وكأنّ اللونين يعكسان اللوعة والحنين، وهو ما تسعى النسوة إبلاغه للجمهور الألماني.
تقول السيدة كوني شميد، في عقدها الثلاثين، من الجمهور حول الأغاني العربية: “إنّها أنغامٌ جميلةٌ وممتعة تنبع من نسوة عانين الأمرّين في وطنهنّ، كورال حنين النسائي لا يعكس فقط الطرب والبهجة، بل يعكس آلام النسوة السوريات وهنّ في وطنٍ بعيد عن الوطن الأم حيث الأهل والأحبة”.